الموت (مشكولة)

صالح عبد الرحمن
1447/05/01 - 2025/10/23 09:57AM

خطبة عن الموت (مشكولة) 2-5-1447هـ

الخطبة الأولى:

الحمد لله، خلَق وأفنى، وأغنى وأقنى، وأمات وأحيا، وكلُّ شيء عندَه بأجل مُسمًّى، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، ما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يُوحى، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ فهي زادُ العبد، وبها فَلاحُه في الدنيا والآخرة. 

"مات فلان" كلمة تتردد في كل وقتٍ وآنٍ، وتطرُق الأسماعَ في كل حين؛ تُغيِّر مجرى الأحداث، وتُشكِّل منعطفًا في الواقع، وصدمةً في الحال؛ ففلانٌ هذا كان قبلُ يروحُ ويجيء، يَحْلُم ويتمنَّى، ويأمُلُ ويُطِيلُ الأملَ، ويتقلَّبُ في دنياه وفي بيته بين أولاده وأسرته.

لقد كان يأمرُ وينهى، ويمشي في الأرض مَرَحًا؛ فإذا به قد أسلَم الروحَ إلى باريها، وغدَا جثةً هامدةً، شاخصَ البصرِ، لا يَملِكُ لنفسه شيئًا، ولا يَقدِرُ على شيء.

نُزعت الألقابُ وسقَطت النياشينُ؛ خرَج من منزله الواسع وقَصرِه المُنيفِ بلباسِ البياضِ، إلى حفرةٍ يُهال عليها الترابُ.

وحين ترى فلانًا مسجّىً جثةً هامدةً لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا؛ تتبيَّن لكَ حقيقةُ ضَعْف الإنسان مهما تكبَّر، وعجزه مهمَا -تعالى-؛ فمَنْ يرى نفسَه الأرقى نَسَبًا والأرفعَ حسبًا والأكثرَ مالًا والمتغطرسَ والمتعاليَ؛ هذه نهايةُ قصتِه في الحياة الدنيا!!

 يُحتَضَرُ الإنسانُ؛ فيتحلَّقُ حولَه أهلُه، ويرون حالَه، ويرومون لإنقاذَه، يَطلُبون الطبيبَ ولسانُ الحالِ: ولم أرَ الطبيبَ اليومَ ينفعني؛ فهذا الأجلُ مكتوب، والأمرُ محتوم؛ بل تقف البشريةُ كلُّها عاجزةً بما تملك مِنْ عِلْم، وهي حريصةٌ على الحياة، أن تؤجلَ الأجلَ ساعةً من نهار، أو لحظةً من زمان؛ إعجازٌ إلهيٌّ، وقدرةُ خالقٍ، قال في محكم التنزيل: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) وقال: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ). 

متى الموت؟ وأين تُقبَضُ الروح؟ حُجِبَ ذلك كلُّه في صحيفةِ الغيب.

 لقد أصبح فلانٌ في عداد الموتى؛ فهو لَنْ يذهبَ غدًا إلى وظيفته، ولَنْ يجلسَ على مكتبه! ولن يَحتَضِنَ أطفالَه، ولن يَلقَى أحبتَه وأصدقاءه! لقد طُويت صحيفةُ عملِه، وطُويت معها آمالُه وأحلامُه، وغدَا المالُ مالَ الورثة! والبيتُ ضمنَ التركة! فالموتُ فاجأه بلا استئذان، وهذا حالُ كلِّ إنسانٍ؛ (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)

 مات فلان" خبرٌ يُوقِظ القلوبَ، ورسالةُ تذكيرٍ بالمآلِ المحتومِ؛ قال عمرُ -رضي الله عنه-: "كلَّ يومٍ يُقال: مات فلان وفلان، ولا بد من يوم يقال فيه: مات عُمَر".

 مات فلانٌ" خبرٌ مُفجِعٌ؛ وهو أشدُّ وقعًا، وأوجعُ حالًا حينَ يتعلَّقُ الأمرُ بأحد والديكَ، أو ولدِكَ، أو أخيكَ، أو صديقِكَ الحميم؛ والناس يتفاوتون في تحمُّلُ الصدمة عند تلقِّي الخبر على قَدْر إيمانهم، وبقَدْر رسوخِ الإيمان يتحلَّى المرء بالصبر والاحتساب والرضا بقضاء الله وقدره.

 إذا كان الأجلُ غيبًا، وقد يكون اليومَ أو غدًا؛ وإنَّ غدًا لِناظِره لَقريبٌ؛ فإنَّ أهلَ البصائر يَعقِدون العزمَ على الاستعداد بحُسن الزاد، يتفقَّد المرء عبادتَه، ويسبرُ مسارَ صلاحِه، ويُراجِعُ علاقتَه بخالقه؛ يُراجِعُ كشفَ حسابه، ومسيرةَ عمله؛ صلاتَه، حقوقَ الآخَرين عليه، برَّ والديه، صيامَه، زكاةَ مالِه، قراءةَ القرآن، موقفَه من حدود الله من المناهي والمحرمات، وفي الحديث يقول -عليه الصلاة والسلام-: قال لي جبريل: "يا محمدُ عِشْ ما شئتَ فإنكَ ميتٌ، وأَحْبِبْ مَنْ شئتَ فإنكَ مُفارِقُه، واعمَلْ ما شئتَ فإنكَ مُلاقِيهِ"(رواه البيهقي).

 سيحزَنُ الأهلُ والأصحاب، وتبكي الزوجةُ والأولاد ألمًا على فراق فلان، ومن طبيعةِ الحال والأحوال، ومع مرور الأيامِ والشهور؛ ستجفُّ الدموع، وتختفي الأحزانُ، وتبقى الذكرى طيفًا من خيال؛ بل إنه لَيصلُ الحال -كما أخبر ربُ العزة والجلال عن يوم القيامةِ ذي الأهوال-: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيه. 

نرى هذه الحقيقةَ ماثلةً للعيانِ في موتِ فلانٍ، حينَ يَحمِلُه على النعش أهلُه المحبُّونَ له، وأولادُه المشفقون عليه، وبعدَ أن يُوسَّد الترابَ؛ يَرجِعُ الجميعُ ولَنْ يبقى معَه بقَبْرِه سوى عمَلِه؛ عملُه الصالح رفيقُه في قبره، ونِعْمَ المسكنُ لِمَنْ أحسَن؛ يُصوِّر هذا المشهدَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "يَتبَعُ الميتَ ثلاثةٌ، فيرجعُ اثنانِ، ويبقى معَه واحدٌ: يتبعَهُ أهلُه ومالُه وعملُه، فيرجِعُ أهلُه ومالُه، ويبقى عملُه"(رواه البخاري ومسلم).

 أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفِروه إنه هو الغفور الرحيم.

 الخطبة الثانية:

 الحمد لله، فالقِ الحب والنوى، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، معلمُ الناسِ الخيرَ والهدى، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، المصابيحُ في ليالي الدجى.

 أما بعدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، بعد موت فلان تنتشي الألسنُ بالحديث عن أثره وآثاره وحسناته وأخلاقه، الجارُ يُثني على حُسن جواره، والقريب يُقدِّر صلتَه وإنفاقَه، والفقيرُ يَذكُر صدقتَه وإحسانَه.

 يَرحَل أقوامٌ، وتَبقَى صحيفةُ أعمالهم ممتدةً، وحسناتُهم تتدفَّق وتتزايد؛ بوقفٍ خالدٍ، أو ولدٍ صالحٍ، أو علمٍ في الأرض سائرٍ؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا ماتَ الإنسانُ انقطَع عملُه إلَّا من ثلاثةٍ: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنتَفَع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له"(رواه مسلم).

 ومنهم مَنْ إذا مات تثاقلَتِ الألسنُ عن ذِكر أثرِه، ووصفِ عملِه؛ لسوءِ خُلُقِه، وشناعةِ فعله؛ بل يدعو عليه مظلومٌ من شِدةِ ما وجَد مِنْ ظُلمِه؛ فكم مِنْ حقوقٍ سلبَها؟ ومظالمَ اقترَفَها؟ أو عملٍ شائنٍ خلَّدَه بعد موته؟ مرَّ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بجَنازة فقال: "مستريحٌ ومستراحٌ منه، قالوا: يا رسول الله، ما المُستريحُ والمستراحُ منه؟ قال: العبدُ المؤمنُ يَستريحُ مِنْ نَصَبِ الدنيا وأذاها إلى رحمة الله، والعبدُ الفاجرُ يستريحُ منه العبادُ والبلادُ، والشجرُ والدوابُّ"(رواه البخاري)، وقال تعالى: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) 

اللهم إنا نسألك صالح العمل، وحسن الأثر، ومرداً إليك غير مخزٍ ولا فاضح.

المشاهدات 95 | التعليقات 0