الميزانية والفساد
هلال الهاجري
الحَمدُ للهِ خَالقِ كُلِّ شَيءٍ، وَرَازِقِ كُلِّ حَيٍّ، أَحَاطَ بِكُلِّ شَيءٍ عِلمَاً، وكُلُّ شَيءٍ عِندَهُ بِأَجَلٍ مُسَمَّى، يُعطِي وَيَمنَعُ، ويَخفِضُ وَيَرفَعُ، وَيَضُرُّ وَيَنفَعُ، لا مَانعَ لِمَا أَعطَى ولا مُعطِيَ لِمَا يَمنَعُ، يَعلَمُ الأَسرَارَ، وَيَقبَلُ الأَعذَارَ، وَكُلِّ شَيءٍ عِندَه بِمقدَارٍ، سُبحَانَهُ كُلُّ شَيْءٍ خَاشِعٌ لَهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ قَائِمٌ بِهِ، غِنى كُلِّ فَقِيرٍ، وَعِزُّ كُلِّ ذَلِيلٍ، وَقُوَّةُ كُلِّ ضَعِيفٍ، وَمَفْزَعُ كُلِّ مَلْهُوفٍ، وَأَشهَدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمدُ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ، وَأَشهدُ أَنَّ نَبيَّنا مُحمَّدَاً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، صَاحِبُ المَقَامِ المحمودِ، وَالحَوضِ المَورُودِ، أَرسلَه ربُّه رَحمةً لِلعَالمينَ، وَقُدوةً لِلمُتَّقِينَ، فَشَرحَ بِهِ الصُّدورَ، وَأَنَارَ بِهِ العُقُولَ، فَاللهمَّ صَلِّ وسَلمْ وبَاركْ عَليهِ وَعَلَى آلِه وَأَصحَابِهِ والتَّابِعينَ بِإحسَانٍ إلى يَومِ الدِّينِ .. أَمَّا بَعدُ:
تَأَمَلُوا فِي أَعظَمِ مَا كَانَتْ تَخشَى المَلائكَةُ وُقُوعَهُ عِندَ خَلقِ البَشَرِيَّةِ، حَتَى أَنَّهُم قَدَّمُوهُ فِي الذِّكرِ عَلى سَفكِ الدِّمَاءِ المَظلُومَةِ الزَّكِيَّةِ، (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)، إنَّهُ الفَسَادُ وَمَا أَدرَاكَ مَا الفَسَادُ، كَلِمَةٌ لا يُحبُّها أَحَدٌ، حَتَى إِمَامَ البَشَرِ في الفَسَادِ فِرعُونَ الذي قَالَ اللهُ تَعَالى فِيهِ وَفِي أَشبَاهِهِ: (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ)، لمَّا أَرَادَ عُذرَاً أَمَامَ قَومِهِ في قَتلِ مُوسَى عَليهِ السَّلامُ اتَّهمَه بِالفَسَادِ، (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ).
الفَسَادُ هُوَ دَفنٌ لِلمَوَاهِبِ، وَخِيَانَةٌ لِلمَنَاصِبِ، وإهدَارٌ لِلثَّرَوَاتِ، وَمَحقٌ لِلطَّاقَاتِ، بِهِ تُنحَرُ الأَمَانَةُ وَتَنبُتُ الخِيَانَةُ، وَبِهِ يَهبِطُ الأَفرَادُ وَالأمَّمُ إلى أَسفَلِ مَكَانَةٍ، فَهَلْ تَعلَمُونَ دِينَاً يُبِيحُهُ، أَو بَلَدَاً يَسمَحُ بِهِ، أَو نِظَامَاً يُقِرُّهُ، أَو إنسَانَاً سَوِيَّاً يَرضَى بِهِ، هُوَ خَبِيثٌ في جَمِيعِ الأَعرَافِ وَالأَديَانِ، وَهُوَ مَذمُومٌ عَلى مَدَى السِّنِينَ والأَزمَانِ، لا يَحِلُّ في بَلدٍ إلا هَدَمْ النَّهضَةَ وَشَيَّدَ الانحِطَاطَ، وَيَتَشَكَّلُ بِأَشكَالٍ كَثِيرةٍ كَالمَطَاطِ.
وُجُودُ الفَسَادِ فِي مُجتَمَعٍ، يَعني وُجُودُ الرَّجُلِ الغَيرِ مُنَاسِبٍ في المَكَانِ الغَيرِ مُنَاسِبٍ، وَهَذِهِ عَلامَةٌ وَاضِحَةٌ لِضَيَاعِ الأَمَانَةِ، بَل هِيَ عَلامَةٌ لِقُربِ قِيَامِ السَّاعَةِ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ القَوْمَ، جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟، فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ، فَقَالَ بَعْضُ القَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ، حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ، قَالَ: (أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ؟)، قَالَ: هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (فَإِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ)، قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟، قَالَ: (إِذَا أُسنِدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ).
أيُّها الأحبَّةُ .. مَهمَا قِيلَ مِن وَسَائلَ وَمَهمَا ذُكِرَتْ مِن تَجَارُبٍ لِمُحَارَبَةِ الفَسَادِ، يَبقَى العَامِلُ الرَّئيسُ في القَضَاءِ عَليهِ هُوَ المُسلِمُ النَّظِيفُ، وَالمُوَاطِنُ الشَّرِيفُ، الذي يَتَعَاوَنُ مَعَ الجِهَاتِ المَسئولَةِ في البَلاغِ عَن حَالاتِ الفَسَادِ، وَقَد فَتَحَتْ هَيئَةُ مُكَافَحَةِ الفَسَادِ (نزاهةٌ) جَمِيعَ قَنَوَاتِهَا، لاستِقبَالِ بَلاغَاتِ الفَسَادِ مِنَ المُوَاطِنِينَ وَالمُقِيمِينَ، بِسِريِّةٍ، وَمِصدَاقِيةٍ، وَاحتِرَافِيةٍ، وَشَفَافِيةٍ، فَلا عُذرَ لأَحَدٍ في عَدَمِ مُحَارَبَةِ الفَسَادِ، بِجَمِيعِ أَوصَافِهِ الفَظِيعَةِ، وَجَمِيعِ أَشكَالِهِ الشَّنِيعَةِ، وَلا حُجَّةَ اليَومَ لِمَن يَتَحَدَّثُ في المَجَالِسِ عَنِ الفَسَادِ، دُونَ أَن يَكُونَ لَهُ دَورَاً في الدِّفَاعِ عَن مُمتَلَكَاتِ البِلادِ.
فَأَينَ اليَومَ أُولُو البَقِيةِ الذينَ مَدَحَهُم اللهُ تَعَالى؟، وَأَخبَرَ أنَّهم قَلِيلُونَ في كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ)، وَبِمثلِ هَؤلاءِ المًصلِحِينَ مِنَ العِبَادِ، تَنجُو مِنَ الهَلاكِ البِلادُ، كَمَا قَالَ تَعَالى في الآيةِ التي بَعدَهَا: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)، فَلنَكُنْ يَدَاً وَاحِدَةً في مُوَاجَهَةِ الظُّلمِ وَالفَسَادِ، وَليَكُنْ شِعَارُنَا هُوَ شِعَارُ خَيرِ العِبَادِ: (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ، وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).
أَقُولُ قَولي هَذَا، وَأَستَغفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُم وِلِلمسلِمِينَ مِن كُلِّ ذَنبٍ فَاستَغفِرُوهُ، إنَّه هُوَ الغَفورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الحَمدُ للهِ المَحمُودِ عَلى كُلِّ حَالٍّ، المَوصُوفِ بِصِفَاتِ الجَلالِ وَالكَمَالِ، المَعرُوفِ بِمَزِيدِ الإنعَامِ والإفضَالِ، وَأَشهَدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ذُو العَظَمَةِ وَالجَلالِ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ وَخَلِيلُهُ الصَّادِقُ المَقَالُ، اللهمَّ صَلِّ عَلى عَبدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ وَعَلى آلِهِ وَأَصحَابِهِ خَيرِ صَحبٍ وآلٍ، وَسَلَمَ تَسلِيمَاً كَثِيرَاً، أَمَّا بَعدُ:
كَانَتْ مِيزَانِيَّاتُ الدَّولَةُ العُظمَى تُذَاعُ فِي وَسَائلِ الإعلامِ، وَكَانَ يُنقِصُ الفَرحَةَ بِهَا كَابُوسُ الفَسَادِ في اليَقَظَةِ والأَحلامِ، لَكِنَّنَا اليَومَ نَسمَعُ مِيزَانيَّةَ العَامِ القَادِمِ، وَنَحنُ نَرى عُرُوشَ الفَسَادِ تَتَهَادَمُ، فَهَا هِيَ قَضَايَا الفَسَادِ تُبعثُّرُ مِنَ الإرشِيفِ، وَمَلَفَاتِ الاختِلاسَاتِ تُستَخرَجُ للتَّنظِيفِ، غَسِيلُ أَموَالٍ وَتَزويرُ صَحَائفَ، وَاستِغلالُ نُفُوذٍ لِكِبَارِ الوَظَائفِ، رَشَاوَى مِليونيَّةٌ، وَعُقُودٌ وَهمِيةٌ، مُنَاقَصَاتٌ لِلعَلاقَاتِ، وَوَظَائفُ لِلقَرَابَاتِ، وَمَصَالحُ للصَّدَاقَاتِ، مِليَارَاتٌ تَعُودُ إلى خَزِينَةِ الدَّولةِ سَالِمَةً، بَعدَ سِنينَ غِيابٍ عِندَ أَيدٍ آثمةٍ، فَيَتَجَدَّدُ الأَملُ وَلَعَلَ اللهَ أَن يُرِينَا فِي المُستَقبَلِ مَا تَقَرُّ بِهُ العُيونُ.
أَيُّها الأَحِبَّةُ، أُوصِيكُم بِوَصِيَّةِ النَّبيِ صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَّمَ: (أَبْشِرُوا وأَمِّلُوا ما يَسرُّكُمْ)، وَلا تَنسَوا نِعمَ اللهَ عَلِينَا مِنَ الأَمنِ وَالأَمَانِ، وَالشَّرِيعَةِ وَالإيمَانِ، في ظِلِّ هَذِهِ الأَموَاجِ العَاتِيَةِ مِنَ الفِتَنِ التي تَتَلاطَمُ مِن حَولِنَا، وَاعلَمُوا أَنَّ مَا كَتَبَهُ اللهُ تَعَالى لَكُم مِن رِزقٍ فَهوَ آتِيكُم لا مَحَالَةٍ، (وَاعْلَم أَنَّ الأُمّة لو اجْتَمَعَت عَلَى أن يَنفَعُوكَ بِشيءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشيءٍ قَد كَتَبَهُ اللهُ لَك)، وَلنَرضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ سُبحَانَهُ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ يَأْخُذُ مِنْ أُمَّتِي خَمْسَ خِصَالٍ، فَيَعْمَلُ بِهِنَّ، أَوْ يُعَلِّمُهُنَّ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ؟)، قَالَ: قُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: (فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّهُنَّ فِيهَا، -ومنها- وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ)، فَالغِنَى غِنَى النَّفسِ، والرِّضا فِيهِ رَاحَةُ الدُّنيَا والآخِرَةِ.
اللهمَّ وَلِّ عَلَى المسلمينَ خِيارَهم، واكفِهم شَرَّ أَشرارِهم، اللهمَّ لا تَجعلْ لأهلِ الشَّرِ والفَسادِ عَليهم وِلايةً يَا ذَا الجَلالِ والإكرَامِ، اللهمَّ حقِّق الأمنَ والاستقرارَ في رُبوعِ بِلادِ المسلمينَ، اللهمَّ اجعَل بِلادَنا وَبِلادَ المُسلمينَ مَحفُوظَةً بِحفظِكَ إنَّك حَفِيظٌ عَلِيمٌ، اللهمَّ آمِنَّا في أَوطَانِنا، وَأَصلِح أئمَّتَنا وَوُلاةَ أُمورِنا، واجعل ولايتَنا فِيمَن خَافَكَ واتَّقاكَ، وَاتَّبعَ رِضَاكَ يا رَبَّ العَالمينَ، اللهمَّ وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرِنا بتوفيقِك، وأعِزَّه بطاعتِك، وأعلِ به كَلمتَك، واجعله نُصرةً للإسلامِ والمسلمينَ، وألبِسه لباسَ الصحةِ والعافيةِ، ومُدَّ في عُمره على طاعتك، ووفِّقه ونائِبَه وأعوانَه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى، اللهم ومن أرادَنا أو أرادَ أمتَنا بسوءٍ فأشغلُه بنفسِه واجعل كيدَه في نحرِه يا ربَّ العالمينَ.
المرفقات
1764781272_الميزانية والفساد.docx
1764781277_الميزانية والفساد.pdf