الهدي النبوي في معالجة الخلاف الزوجي

أحمد بن علي الغامدي
1447/07/04 - 2025/12/24 19:00PM

أَمَّا بَعْدُ: فإنَّ مِن أعظَمِ مَظاهِرِ الهَدْيِ النَّبَوِيِّ فِي بُيُوتِ المُسلِمِينَ ما كان مِن سِيَرَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَمَعَ بِنْتِهِ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ وَزَوْجِهَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا؛ هي قِصَصٌ يَسِيرَةٌ فِي صُوَرِهَا، عَظِيمَةٌ فِي مَعَانِيهَا، تُقِيمُ بُرْهَانَ الرِّفْقِ، وَتُجَدِّدُ مَعَالِمَ الْحِكْمَةِ، وَتُعَلِّمُ الْأُسَرَ سَبِيلَ السَّكِينَةِ فِي بُيُوتِهَا، وَتَرْسُمُ لَهَا نَهْجَ التَّوَادِّ وَالتَّرَاحُمِ، وَتَفْتَحُ أَمَامَهَا أَبْوَابَ الصَّفْحِ وَالتَّغَافُلِ الَّذِي تَسْتَقِيمُ بِهِ الحَيَاةُ، وَتَنْعَقِدُ فِيهِ رَوَابِطُ الْمَوَدَّةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ.

عباد الله : يروي قصةَ خطبتنا اليوم سَهْلُ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ بنته فَاطِمَةَ فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فِي البَيْتِ، فَقَالَ لها: أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ؟ قَالَتْ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، فَغَاضَبَنِي، فَخَرَجَ، فَلَمْ يَقِلْ عندي [مِنَ القَيْلُولَةِ : أي فلم ينم عندي في نصف النهار ]. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِنْسَانٍ: انْظُرْ أَيْنَ هُوَ؟ فَجَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ فِي المَسْجِدِ رَاقِدٌ. فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليه وَهُوَ مُضْطَجِعٌ، قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ، وَأَصَابَهُ تُرَابٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ التراب عَنْ علي، وَيَقُولُ: قُمْ أَبَا تُرَابٍ، قُمْ أَبَا تُرَابٍ. 

عِبَادَ اللهِ: هذا مَوْقِفٌ يَسِيرٌ فِي مَبْنَاهُ، عَظِيمٌ فِي دُرُوسِهِ وَمَعَانِيهِ.. يَحْتَاجُهُ الزَّوْجَانِ فِي حَيَاتِهِمَا، وَيَحْتَاجُهُ أَوْلِيَاءُ الزَّوْجَيْنِ وَأَقَارِبُهُمْ.. فإنّ ما حدث بَيْنَ فَاطِمَةَ  سيدةِ نساءِ هذه الأمة ، وَبَيْنَ زوجها عَلِيٍّ المُبَشَّرِ بِالجَنَّةِ، وَالخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ. خِلَافٌ يسير لا تخلوا منه البيوت ،وهو يدل على أنّ أَهْلَ الفَضْلِ قَدْ يَقَعُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِمْ مَا جَبَلَ اللهُ عَلَيْهِ البَشَرَ مِنَ الغَضَب اليسيرِ.  

  مِنْ فوائد هذه القصة: تَوَاصُلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ ابْنَتِهِ فِي بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ وَتَعَاهُدُهَا بِالزِّيَارَةِ، فَلَمْ يَقِفْ عِنْدَ حَقِّهِ كَأَبٍ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُوَ المَقْصُودُ بِالزِّيَارَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُبَادِرُ بِزِيَارَة بنته فِي بَيْتِهَا، يَتَحَسَّسُ أَخْبَارَهَا، وَيَطْمَئِنُّ عَلَى حَيَاتِهَا، وَيَتَفَقَّدُ أَحْوَالَهَا.

وَمِنْ فوائد القِصَّةِ: الأَدَبُ العَالِي وَالذَّوْقُ الرَّفِيعُ لَدَى فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا حِينَ عَبَّرَتْ عَمَّا جَرَى بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا بِتَعْبِيرٍ لَطِيفٍ مُجْمَلٍ: "كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، فَغَاضَبَنِي[ يعني أن المغاضبة وقعت منهما جميعا رضي الله عنهما]، ثم ذكرت أن عليا خَرَج من عندها.واكتفت بذلك وَلَمْ تَسْتَرْسِلْ بِذِكْرِ التَّفَاصِيلِ، وَلَمْ تُعَرِّجْ عَلَى تَحْدِيدِ المَسْؤُولِيَّةِ فِي الخَطَأِ، ومن الذي بدأ ،وَإِنَّمَا جَعَلَتْهُ أَمْرًا مُشْتَرَكًا: "كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ".

وَمِنْ فوائد القِصَّةِ: أَنَّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فِي هَذِهِ المُغَاضَبَةِ وَالخِلَافِ لَزِمَتْ بَيْتَهَا، وَلَمْ تَخْرُجْ إِلَى بَيْتِ أَبِيهَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،مع قربه منها، كما أنها لَمْ تُبَادِرْ بِإِخْبَارِ أبيها وَالتَّشَكِّي، وَأَمْسَكَتْ لِسَانَهَا عَنِ الحَدِيثِ وَالاسْتِشَارَاتِ وَالبَحْثِ عَنِ الحُلُولِ عِنْدَ الآخَرِينَ.. لأنّ سَاعَاتِ الغَضَبِ ستَزُولُ، وَالخِلَافْ سيَهْدَأُ، وَالنُّفُوسْ ستَصْفُو. خَاصَّةً إِذَا كَانَ الخِلَافُ عَابِرًا، وَالغَضَبُ عَلَى أَمْرٍ يَسِيرٍ.

 وَمِنْ فوائد القِصَّةِ: تَجَاوُبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ إِجْمَالِ ابنته في سبب المغاضبة بِتَرْكِ الاسْتِفْصَالِ منها؛ فَلَمْ يَسْأَلْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ: مَا الَّذِي جَرَى بَيْنَكُمَا؟ وَلَمْ يُحْوِجْهَا إِلَى سَرْدِ التَّفَاصِيلِ، وَمَا عَاتَبَ، وَلَا حَاسَبَ، وَلَا حَقَّقَ، وَلَا نَاقَشَ.. وذلك أنّ التَّعَامُلَ مَعَ المُشْكِلَاتِ الزَّوْجِيَّةِ العَابِرَةِ دُونَ الدُّخُولِ فِيهَا: يُبْقِيهَا صَغِيرَةً عَابِرَةً! وَكَثِيرٌ مِنَ المَشَاكِلِ الأُسَرِيَّةِ العَابِرَةِ حَلُّهَا أَنْ تُوءَدَ فِي مَهْدِهَا، بِالإِعْرَاضِ عَنْ تَفَاصِيلِهَا.. مع التَّعْجِيلُ بِحَلِّهَا؛ دُونَ تَأْخِيرٍ أَوْ تَسْوِيفٍ، لِأَنَّ طُولَ الزَّمَنِ فِيهَا يُبَاعِدُ بَيْنَ القُلُوبِ، وَيُورِثُ الحِقْدَ، وَيُتِيحُ الفُرَصَ لِشياطين الإنس والجن.

ومِنْ فَوَائِدِ هَذِهِ القِصَّةِ وَدُرُوسِهَا: حِكْمَةُ عليٍ رضي الله عنه في مغادرته لمكان الخلاف ، لأنّ الحكمةَ قد تقتضي أحيانا في الخِلَافَاتِ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي يَكُونُ الغَضَبُ حَاضِرًا فِيهَا أن يخرج الزوج مِنَ البَيْتِ أو ينتقل الزوج أو الزوجة إلى غرفة أخرى  ، ليبتعدَا عَنِ الخِصَامِ بالكلام، ولِتَهْدَأَ النفوس، وَيَسْكُنَ الغَضَبُ، وَتَعُودَ النُّفُوسُ إِلَى المَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ التي جعلها الله بين الزوجين؛ لِأَنَّ اسْتِمْرَارَ الْمُلَاسَنَةِ وَالْمُحَاجَجَةِ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى الطَّلَاقِ مِنَ الزَّوْجِ أَوْ طَلَبِهِ مِنَ الزَّوْجَةِ.

أسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَ بُيُوتَنَا عَامِرَةً بِالمَوَدَّةِ وَالرحمة، وَأن يُؤَلِّفَ بَيْنَ قُلُوبِ الأَزْوَاجِ والأبناء والأقارب، وَأن يعيذنا أجمعين من شرور أنفسنا ومِنْ نَزَغَاتِ وَوَسَاوِسِ شَيَاطِينِ الجِنِّ وَالإِنْسِ.

أَمَّا بَعْدُ.. فمِنْ فَوَائِدِ القِصَّةِ وَدُرُوسِهَا: حسنُ صَنِيعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ صِهْرِهِ، فَإنّه لَمْ يَأْخُذْهُ حُبُّهُ لِابْنَتِهِ وَحَنَانُهُ عَلَيْهَا فِي أَنْ يَقْسُوَ عَلَى زَوْجِ ابْنَتِهِ، أَوْ أَنْ يُعَاتِبَهُ، وَيَظْلِمَهُ، بَلْ سَأَلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ، وَحِينَ عَرَفَ مَكَانَهُ ذَهَبَ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ، بِكُلِّ شَفَقَةٍ وَتَوَاضُعٍ وَحَنَانٍ،أَتَاهُ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ، قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ، وَأَصَابَهُ تُرَابٌ، فَجَعَلَ يَمْسَحُ التراب عَنْهُ بيده، وَيَقُولُ: قُمْ أَبَا تُرَابٍ، قُمْ أَبَا تُرَابٍ. وَفِي هَذِهِ الكُنْيَةِ مِنَ التَّلَطُّفِ بِهِ، وَمُؤَانَسَتِهِ فِي غَضَبِهِ، دُونَ عِتَابٍ، وَلَا نِقَاشٍ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ عَنْ شَيْءٍ..

فَمَا أَعْظَمَ تِلْكَ اليَدَ الحَانِيَةَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَكَمْ أَذْهَبَتْ تِلْكَ المَسْحَةُ مِنَ الهُمُومِ، وَكَمْ أَسْكَنَتْ مِنْ غَضَبٍ، وَكَمْ أَزَالَتْ مِنْ خِلَافٍ، وَكَأَنَّ شَيْئًا لَمْ يَحْدُثْ، وَأُغْلِقَ سِتَارُ المُشْكِلَةِ، وَانْتَهَتْ حَلَقَاتُهَا؛ فَالبِنْتُ لَمْ تُخْبِرْ أَحَدًا، وَالأَبُ لَمْ يَسْأَلْ وَلَمْ يُعَنِّفْ، وَالزَّوْجُ قَامَ رَاضِيًا.

قال ابن حجر رحمه الله: "وَفِيهِ كَرَمُ خُلُقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَاتِبْهُ عَلَى مُغَاضَبَتِهِ لِابْنَتِهِ مَعَ رَفِيعِ مَنْزِلَتِهَا عِنْدَهُ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ اسْتِحْبَابُ الرِّفْقِ بِالْأَصْهَارِ وَتَرْكُ مُعَاتَبَتِهِمْ إِبْقَاءً لِمَوَدَّتِهِمْ"..

فَمَا أَحْوَجَ الآبَاءَ وَالأُمَّهَاتِ لِلطَّفِ مَعَ أَزْوَاجِ بَنَاتِهِمْ وَزَوْجَاتِ أَبْنَائِهِمْ، وَمَا أَعْظَمَ التغافُل عن الخِلَافِات العابرة وَعَدَمَ الدُّخُولِ فِي تَفَاصِيلِهِا وَحَيْثِيَّاتِهاِ.. فَالوَلِيُّ النَّاصِحُ العَاقِلُ يَتَصَرَّفُ بِحِكْمَة وَعَقْل، لَا يُكَابِرُ، وَلَا تَغْلِبُهُ أَنَفَتُهُ، وَلَا تَهْزِمُهُ عَاطِفَتُهُ، ولا يستجيب لتحريش ناقصي الدين والهقل والخبرة ، بل يَحْفَظُ حُقُوقَ الجميع، وَيُقِيمُهَا وفقَ شرع الله تعالى .

.....................................

هذه الخطبة تهذيب لخطبة الشيخ / عبد الله بن حمود الحبيشي وفقه الله بعنوان

مغاضبة بين زوجين - ملتقى الخطباء

 

 

المرفقات

1766592002_الهدي النبوي في معالجة الخلاف الزوجي.doc

المشاهدات 185 | التعليقات 0