بَيْنَ الكَسْبِ والتَّسَوُّل ( مختصرة ) من خطبة الشيخ عبدالعزيز محمد

منصور بن هادي
1446/08/14 - 2025/02/13 23:28PM

بين الكسب والتسول   1446 هـ  ( مختصرة )

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَمَّا بَعْدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) أَيُّهَا المُسْلِمُوْنَ: فَقِيْرٌ يَتأَلَمُ لِفَقْرِه، وغَنِيٌّ يَزْهُو في غِنَاه، ضَعِيْفٌ يَتَأَلَمُ لِضَعْفِهِ، وقَوِيٌّ يَتَبَاهَى بِقُوَاه. مَنازِلُ تَتَفاوَتُ، ومَراتِبُ تَتَبايَنُ، وأَرزَاقٌ مِنَ الرَّحْمَنِ قَدْ قُسِمَتْ {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ..} والأَيامُ دُوَلٌ، والمرءُ يَتَعَبُدُ للهِ بِما قَسَمَ لَه، فَيَشْكُرُ في السَّرَّاءِ، ويَصْبِرُ في الضَّراءِ، ويَسْتَعِيْذُ باللهِ مِنْ البَلاءِ، ويَسأَلُ رَبَهُ دَوامَ العَافِيَة. لا يَبْطُرُ إِنْ اغْتَنَى، ولا يَيأَسُ إِنْ ضَاقَتْ بِهِ الحِيَل .. وكَرامَةُ النَّفْسِ لا يَصْنَعُها غِنَى، ولا يُسْلُبُها فَقْر. فَفِي الحَدِيْثِ قَالَ رَسُوْلُ اللهِ ﷺ: (رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ مَدْفُوْعٍ بِالأَبْوَابِ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ) رواه مسلم .. كُرمَاءُ النُّفُوسِ: أَغْنياءُ بِقَناعَتِهِم، أَقْوِياءُ بِصَبْرِهِم، شُرَفاءُ بِتَعَفُّفِهِم. يُكابِدُونَ في سبيل الكَسْبِ كُلَّ نَصَبٍ لِيَسْتَغْنُوا عَنْ ذُلِّ المَسْأَلَة، وكَذا الإِسْلامُ هَذَبَهُم، عَنْ الزُّبَيْرِ بنِ العوَّامِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللَّهِ ﷺ: (لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُم أَحْبُلَهُ، ثُمَّ يَأْتِيَ الجَبَلَ، فَيَأْتِي بحُزْمَةٍ مِنْ حَطَبٍ عَلى ظَهْرِهِ فَيَبِيّعَهَا، فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ؛ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَن يَسْأَلَ النَّاسَ، أَعْطَوْهُ، أَوْ مَنَعُوهُ) رواه البخاري ... مُقْتَدِرٌ على السَّعْيِ في تَحْصِيْلِ ما يُغْنِيْهِ عَنِ سُؤَالِ النَّاسِ، ثُمَّ يَعْجَزُ عَنْ القَيامِ في طَلَبِ الكَسْبِ ويَرْضَى أَنْ يَكُونَ عَلى النَّاسِ عَالَة. بَائِعٌ عِفَّتَهُ بِثَمَنٍ بَخْس، ومُهْدِرٌ كَرامَتَهُ بِأَرْخَصِ ثَمَن. يُدُهُ سُفْلَى ونَفْسُهُ للنَّاسِ مُنْكَسِرَة، وفي الحَدِيْثِ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: (اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، وابْدَأْ بمَن تَعُولُ، وخَيْرُ الصَّدَقَةِ عن ظَهْرِ غِنًى، ومَن يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، ومَن يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ) رَواه البخاري  واليَدُ العُليا: هيَ المُنْفِقَة، واليَدُ السُّفْلَى هِيَ الآخِذَة  .. أَوْقَاتُ الشِّدَةِ والفَقْرِ والحَاجَةِ والعَوَز. مِنْ أَقْسَى المَواقِفِ التي يُواجِهُا المَرْءُ في حَياتِهِ. مَعْتَرَكٌ تَعْتَلِجُ فيهِ قَسْوَةُ الحَاجَةِ مَعَ مَرارَةٍ المسأَلَة، ويَتَنازَعُ فيهِا أَلَمُ الفَقْرِ مَعَ عِفَّةِ النَّفْسِ. الفَقْرُ يُؤْلِمُ والكَرَامَةُ تَنْثَنِيْ. والنَّفْسُ تَطْلُبُ والفُؤَادُ خَجُولُ.  مُعْتَرَكٌ لا يَشْعُرُ بِقَسْوَتِهِ إِلا مَنْ اصْطَلَى بِنارِ الفَقْرِ. لا يَشْعُرُ بِهِ مَنْ نَشأَ في اليُسْرِ، وتَرَبَى في الغِنَى.  الفَقْرُ ابْتِلَاءٌ مِنَ اللهِ، واللهُ يُجْزِيْ الصَّابِرِيْن. وفي الحَدِيْثَ كَانَ مِنْ دُعاءِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: (اللَّهمَّ إِنِّيْ أَعُوْذُ بِكَ مِنَ الفَقْرِ، وَأَعْوْذُ بِكَ مِنَ القِلَّةِ والذِّلَّةِ) ... وأَمامَ ذاكَ الصِراعِ انْقَسَمَ الفُقَراءُ إِلى فَرِيْقَيْن. فَرِيْقٌ مَدَّ يَدَهُ يَسأَلُ النَّاسَ عَطاءً يُقِيْمُ بِهِ أَوَدَهُ ويَدْفَعُ بِهِ فَقْرَه ــ ولا يُلامُ ــ . وفَرِيْقٌ انْطَوَى في بَيْتِهِ يُقَاوِمُ الفَقْرَ لَحْظَةً بِلَحْظَةٍ، أَبَتْ عِفَّتُهُ أَنْ تَنْهَزِمَ أَمَامَ فَقْرِه. فَأَخْفَى عَنَّ النَّاسِ فَقْرَهُ، ومَا مَدَّ لِمَخْلُوقٍ يَدا، فُقَراءُ عَاجِزُون، ضُعَفاءُ مُعْوِزُون، شُرَفاءُ مَتَعَفِّفُون {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} ... وكِلا الفَرِيْقَيْنِ لَهُم في مَالِ اللهِ حَقٌّ، ولَهُم في أَموالِ المُوْسِرِيْنَ نَصِيْب، شَرَعَ اللهُ لِعِبادِهِ أَنْ يَبْذُلُوا لَهُم مِنْ أَموالِهِم، ويَبْسُطُوا لَهُم مِنْ أَخْلاقِهِم، ويُحْسِنُوا إِليهم ويُلِيْنُوا لَهُمُ الخِطاب {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} أَنْفِقْ عَلِيْهِ بِإِحْسانٍ، أَو رُدَّهُ بِلُطْفٍ ولِيْن. {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} السَّائِلُ: الذِيْ يَتَعَرَّضُ النَّاسَ لِسُؤَالِهِم. والمَحْرُومُ: هُو الفَقِيْرَ المُتَعَفِفُ عَنِ السُّؤَالِ ... ما الفَقْرُ نَقْصٌ، وما الفَقْرُ شَرْخُ في كَرَامَةِ مَنْ فَقَد. هُوَ قَسْمُ اللهِ، وأَكْرِمْ بِقَسْمِ البارئِ الخَلاَّقِ.. أَكْرَمُ هَذهِ الأُمَةِ بَعْدَ نَبِيِّها هُم المُهَاجِرُونَ والفَقْرُ كَانَ وَصْفاً لأَكْثَرِهِم {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} ولا يُمْدَحُ الفَقِيْرُ إِلا إِذا لَزِمَ سَبِيْلَ الإِيْمانِ والصَّبْرِ والتَّقْوَى. فَلا يُمْدَحُ فَقِيْرٌ سَاخِطٌ ولا يُمْدَحُ فَقِيْرٌ لِنِعْمَةِ غَيْرِهِ حَاسِدٌ، ولا يُمْدَحُ فَقِيْرٌ يَتَسَوَّرُ سِيَاجَ التَّقْوَى. خَسِرَ الدُّنيا والآخِرَة. عَنْ عَبْدِ اللهِ بن عَمرو رضي الله عنه أَنَّ رَسُولِ اللهِ ﷺ قال: (قَدْ أَفْلَحَ مَن أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بما آتَاهُ) رواه مسلم {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}

أقُولُ هذا القَولَ، وأَستغفرُ اللهَ لي ولكم منْ كُلِّ ذَنبٍ فاستغفروهُ إنَّهُ هو الغفُورُ الرَّحيم

الخطبة الثانية

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَكَفَى، وسَمِعَ اللَّهُ ‌لِمَنْ ‌دَعَا، ولَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ مَرْمَى، أمَّا بَعْدُ: أَيُّها المُسْلِمُون:  كَرامَةُ النَّفْسِ خُلُقٌ مُتَجَذِّرٌ في نُفُوسِ الكِرامِ. فلا يَبْذُلُ الكَرِيْمُ ماءَ وجْهِهِ لِنَيْلِ مَطْمَعٍ، ولا يُنْزِلُ نَفْسَهُ مَنْزِلاً تَفْقِدُ فيهِ كَرامَتَها ... كَرِيْمٌ، يَتَعَفَّفُ عَنْ المَسأَلةِ ما اسْتَطَاعَ، ويَسْتَغْنِيْ عَنْها ما قَدِرْ.

فَلا ذَا يَرَانِيْ وَاقِفاً في طَرِيْقِهِ ** وَلا ذَا يَرَانِيْ قَاعِداً عِنْدَ بَابِهِ

غَنِيٌّ بِلا مَالٍ عَنْ النَّاسِ كُلِّهِم ** وَلِيْسَ الغِنَى إِلا عَنِ الشَّيءِ لا بِهِ

وَإِنْ ضَاقَ رِزْقُ اليَوْمِ فَاصْبِرْ إِلى غَدٍ  **  عَسَى نَكَبَاتُ الدَّهْرِ عَنْكَ تَزُوْلُ

ولَئِنْ حَفِظَ الإِسْلامُ حَقَّ السَّائِلِ المِسْكِيْنِ، وأَمَرَ بالإِحْسانِ إِليهِ، ونَهَى عَنْ زَجْرِهِ نَهْرِهِ وأَذاه.  فَلَقْدْ حذَّرَ الإِسْلامُ أَنْ تَرْكَنَ النُّفُوسُ إِلى العَجْزِ والخَوَرِ التَّقاعُسِ عَنْ العَمَلِ وطَلَبِ الكَسْبِ، ثُمَّ تَعْمُدَ إِلى التَسَوُّلِ والطَلَبِ والمَسأَلَة ...امْتِهانُ التَّسَوُّلِ والمَسأَلَةِ، مَسْلَكٌ مِنْ مَسالِكِ التَحَايُلِ واسْتِحْلالِ أَمْوالِ النَّاسِ بالبَاطِلِ، وهُوَ عَمَلٌ مُحَرَّمٌ جَاءَ الوَعِيْدُ لِمَنْ سَلَكَه ... وفي زَمَنِ كَثْرَةِ المُحْتالِيْن، وتَعَدُّدِ طَرائِقِهِم لِلوصُولِ إِلى أَمْوالِ المُحْسِنِيْن. كَانَ على المُسْلِمِ أَنْ لا يَكُونَ غِرّاً يَضَعُ مَالَهُ في يَدِ مَنْ لا يَسْتَحِق. وأَنْ لا يَكُونَ قَاطِعاً للإِحْسانِ فيَمْنَعُ فَضْلَ مالِهِ عَنْ المُحْتَاجِيْن ... في المُجْتَمَعِ مَنْ أَجْهَدَهُمُ الفَقْرَ.  أُسَرٌ عَنِ المَسْأَلَةِ تَتَعَفَّفُ، أَظْهَرَتِ الدَّلائِلُ والقَرائِنُ شِدَّةَ حَاجَتِهِا، ضَعْفُ المَوَارِدِ مَعَ قِلَّةُ ذاتِ اليَد، أَو مَرَضُ العَائِلِ مَعَ فَقْرِه، أَو غِيابُ الرَّاعِي أَو فَقْدِه ، أَو تَراكُمُ الدُّيُونِ أَو غَيْرِ ذلِكَ مِن القَرائِن التي هِيَ مِنْ سِيّمَا المُتَعَفِّفِيْنَ وعَلامَاِتهِم التي بِها يُعرَفُون {تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}  ... أَولئِكَ هُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بالإِحْسان، وأَوْلَى الفُقَراءِ بالعَطْفِ والمَواساةِ.  حَثَّ الإِسْلامُ عَلى العِنايَةِ بِهِم. اللهمَّ إنه لا حول لنا ولا قوة إِلا بك.. كُن لنا ولياً ونصيراً..

( سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

المشاهدات 504 | التعليقات 0