تأملات في بديع صنع الله فيك - حقوق كبار السنّ. 13/3/1447

أحمد بن ناصر الطيار
1447/03/12 - 2025/09/04 12:46PM

الحمد لله الذي بنعمته اهتدى المهتدون، وبعدْلِهِ ضلَّ الضالُّون، ولِحُكْمِه خضَع الخلق كلّهم أجمعون، ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، والصلاة والسلام على من بعثه الله هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فبلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حقّ جهاده، صـلى الله وسلم وبــارك وأنعـم عليـه، وعلى آله الأطهار، وصحابته الأبرار، والتابعين وتابعيهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار، وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنّ لله سبحانه وتعالى في كل ذرة آية، تدلّ على عظمته وكمال قدرته.

وإنّ الرجل ليعظم قدْره حينما يخترع اختراعا فريدًا، ويصفُه الناس بالذكاء والعقل، وهو لم يخترع إلا اختراعًا واحدًا، ومع ذلك فهو لم يُوجِد أيّ ذرة منه من العدم، بل تصرّف فيما أوجده الله بالجمع أو التركيب ونحو ذلك.

ومع هذا كله، يأتي بعده من يتعقّبه ويزيد عليه, حتى يُصبح اختراعه بعد ذلك قديمًا لا يُعمل به.

وأما الخالق البارئ المصوّر سبحانه، فقد أوجد كلّ الكون بما فيه من العدم، وأبدع في تنويع المخلوقات، التي يحار العقل في جمالها وتنوّعها وإحكامها.

فهو لم يخلقْ نوعًا واحدا ولا ألفًا ولا مائةَ ألف، بل خلق أكثر من ملايين الأصناف، وكلّ صنف خلق منه ما يزيد على المليارات.

ويقوم عليها كلّها وحده، ويعلم مسْتقرّها ومستودعها، {وَمَا ‌تَحْمِلُ ‌مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ، وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ}.

{وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا ‌وَمَا ‌تَحْمِلُ ‌مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ}

فمَا ‌تَحْمِلُ ‌مِنْ أُنْثَى من حشرة, أو طائر، أو سمكة، أو حيوان، وَلا تَضَعُ مولودًا إِلا بِعِلْمِهِ، وَمَا يزداد عمر مخلوق وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا وقد علمه، وما تخرج ثمرةُ شجرة من الأشجار، إلا وهو يعلمها علمًا تفصيليًا، وعلمُه محفوظ في كتاب.

وأنتَ – أيها الإنسان - من عجيب صنعِ الله تعالى، وبديعِ خلقه، فقد خلقَك من عدم، {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا}، ثم خلقك من ماء مهين، ثم تحوّل هذا الماء بقُدْرة العزيزِ العليم، إلى قطعةٍ صغيرة من الدم، عَلِقَتْ في الرحم، ثم نَمَت وكَبُرَت، وأخرج القادرُ العظيمُ من هذا الدم إنسانًا، وخلق فيه اللحم والدم والعصب والخلايا والمخ والعظام.

فهل في مقدور البشر إلى يخترعوا اختراعًا يتحول بنفسه إلى نوع آخر؟

وصدق الله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ (39) أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ}.

بلى والله، إن الذي خلقك من عدم، قادر على أن يُعيدك بعد موتك.

ومن آيات الله فيك يا عبد الله: أنّ تنتقل من مرحلة إلى مرحلة، فقد كنت في بطن أمك لا تعلم شيئًا، ولا تملك من أمرك مثقال ذرة، جعلك القادر تنمو وتكبر، بإعجاز لا نظير له، فهل اخترع الناس آلة تكبر وتنمو بنفسها؟

لا، ولكنّ الله العظيم خلقك وكل كل كائن حيّ، وجعله يكبر وينمو، فقد كنت يومًا في حجم الكفّ، وهاأنت اليوم كبرت أضعاف ذلك.

ألا يدل هذا على العظيم القدير

{أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون}؟

ومن آيات الله فيك – أيها الإنسان -: أنّ قلْبك يعمل باستمرار على ضخ الدم إلى جميع أنحاء الجسم، ويصل عددُ دقاته إلى مئة ألف نبضة في اليوم دون توقف أو خلل.

وتحتوي العين على مئة مليون مستقبل ضوئي لاستقبال الضوء، ويحافظ سائلُ العين على درجة حرارتها ويغذّي قرنيّتها، مما يجعل رؤيتها دقيقة للغاية.

ويحتوي الأنف على عشرين مليون نهايةٍ عصبية للشم، تتفاعل مع الروائح، وتُرسل إشارات للدماغ لمعالجتها بسرعة فائقة.

ويضم اللسان خلايا تذوّق تتجدّد كل سبعة أيام، مما يحافظ على فعالية حاسة التذوق.

وأوْدَع فيك الله الخالق العظيم أعضاءً داخلية، كالكبد، والطحال، والرئتين، والكليتين، والأمعاء، والمثانة، التي تعمل بدقة وانتظام، لخدمة وظائف الجسم المختلفة.

ثم بعد نضجك وقوّتك تعود للضعف، كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ‌ضَعْفًا ‌وَشَيْبَةً، يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ}.

فلكلّ بداية نهاية، {كما بدأكم تعودون}، فهل من مدكّر ومتّعظ؟

فاعمل صالحًا ما دمت في زمن القوة والنشاط، فما خُلِقْتَ والله للهْو واللعب والمتْعة، بل خُلقت لتعبد الله وحده، وتجتهدَ في العمَل الذي يُرضيه، ليرضا عنك حينما تُلاقيه، أما سمعت ربك يقول: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا ‌أَنَّكُمْ ‌مُلاقُوهُ}.

اللهم أيقظنا من الغفلة، وثبّتنا على الملّة، إنك سميع قريب مجيب.

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على المبعوثِ رحمةً للعالمين, وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد: معاشر المسلمين، لقد كرّم الله المسلم وعظّم حقّه، صغيرًا كان أو كبيرًا، فله حقٌّ على والديه أن يُرْضِعاه حينما يُولد، وأن يرْفُقا به في طفولته، وأن يؤدّباه في شبابه، وحرّم علينا إيذاءه بالقول أو الفعل، فلا تجوز غيبته ولا الاستهزاء به، ولا أكل ماله، ولا غشّه ولا خيانته.

ثم بعد ذلك يكون الحقّ له على أولاده, بأن يبرّوه ويُحسنوا إليه, ويصبروا على آذاه.

وكبير السنّ له حقّ على الجميع، قال رسول الله ﷺ: (إنَّ مِنْ إجْلالِ اللهِ إكْرامَ ذي الشَّيْبةِ المُسْلِمِ).

فاعرفوا الحقوق الواجبة تجاههم، ومن أعظمها: احترامُهم وإكرامُهم، وتوقيرُهم وتقديرُهم، وتقديمُهم في المجالس والحديث، وإفساحُ الطريق لهم، وخدمتُهم بما يحتاجون إليه في الأماكن العامة.

 وتتأكد هذه الحقوق على أهلهم وأولادهم وأقاربهم، وذلك برعايتهم لكبير السنّ والإحسان إليه، وتوفير احتياجاته والعناية به صحيًا وجسديًا ونفسيًا، وأن يُصبر على ما يبدر منه، وأن يراعى ما هو فيه من الضعف الجسدي والنفسي.

نسأل الله تعالى ألا يردنا إلى أرذل العمر، وأن يُحيِيَنا ما كانت الحياةُ خيرًا لنا، وإن يتوفّانا إذا كانت الوفاةُ خيرًا لنا، إن ربنا رؤوف رحيم.

 

عباد الله: أكثروا من الصلاة والسلام على نبي الهدى, وإمام الورى, فقد أمركم بذلك جل وعلا فقال: (إن الله وملائكته يصلون على النبي.. يا أيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما).

اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وعنا معهم بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والربا والزنا، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن.

اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات, وخُصَّ منهم الحاضرين والحاضرات, اللهم فرِّج همومهم, واقض ديونهم, وأنزل عليهم رحمتك ورضوانك يا رب العالمين.

 عباد الله: إنَّ اللَّه يأْمُرُ بالْعدْل والْإحْسانِ وإيتاءِ ذي الْقُرْبى ويَنْهى عن الْفحْشاءِ والمنْكرِ والبغْيِ يعِظُكُم لَعلَّكُم تذكَّرُون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

 

المشاهدات 526 | التعليقات 0