تسليم إبراهيم عليه السلام
الشيخ عصام بن عبدالمحسن الحميدان
بسم الله الرحمن الرحيم
تسليم إبراهيم عليه السلام
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي تسبحه الأعيان المائعة والجامدة، والعيون الجارية والراكدة، والعيون المتيقظة والراقدة، والقلوب القلقة والباردة، أسجد الملائكة لآدم لإنها عائدة، ونجى نوحاً وغرق الأمم الجاحدة، وسلم الخليل يوم النار فأصبحت خامدة، وكلم موسى كفاحاً وأعظم بها من فائدة، وأحيا الموتى لعيسى وأنزل المائدة، وقدم محمداً فما ولدت مثله والدة، ودحر الشياطين لمبعثه فذلت الماردة، وأطلق سيوفه في أعدائه فأصبحت حاصدة، وجعل أمته على الأمم قبلها شاهده؛ فاشكروه فقد أحبكم ، واحمدوه إذ أعذب شربكم؛ (يا أيُها الناسُ اِتَّقوا رَبَّكُم الَّذِي خَلَقَكُم مِن نَفسٍ واحِدَة)، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
إنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هديُ محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]؛ أما بعد:
عباد الله: إن من أعظم عبر ودروس قصة إبراهيم -عليه السلام- في القرآن الكريم تسليمه لله -سبحانه-، وهذا متجل واضح في جميع خطواته ومراحل حياته، كان همه -عليه السلام- أن يكون مسلماً؛ (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ)، يريد أن يكون تام الاستسلام لله، لا يجادل ولا يناقش ربه فيما لا فائدة فيه، مستجيبا لأمر الله؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ).
أيها المسلمون: كان أحد الصحابة -رضي الله عنهم- يصلي نافلة فناداه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي، فلم يستجب وأتم صلاته، فلما انتهى قال له صلى الله عليه وسلم "لِم لم تجبني؟" قال: إني كنت أصلي؛ قال صلى الله عليه وسلم: "ألم يقل الله: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)؟ تجب الاستجابة لله والرسول مباشرة.
نحن نقول نحن مسلمون.. نعني بذلك أصل الإسلام، ولكن ما بالكم بحقيقة الإسلام؟ ما هي حقيقة الإسلام وتمام الإسلام؟ الاستسلام المطلق لله -سبحانه-، الاستجابة المباشرة لله، وللرسول، ولإجماع المسلمين.
من أجل هذه الرتبة العالية مدح الله -تعالى- إبراهيم -عليه السلام-: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)؛ فهل تعتقدون أن الله يأمره أن يدخل في الإسلام؟ (أسلِم) لا، ولكن الله -تعالى- يريده أن يكون تام الاستسلام لله، سريع الاستجابة له، خالصاً من كل قصد سوى الله -سبحانه-.
وقد قص الله علينا من تسليم نبيه إبراهيم -عليه السلام- قصصا كثيرة في التسليم؛ وأظهر دليل على ذلك قصته مع ابنه إسماعيل -عليه السلام-؛ حيث قال الله عنه: (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).
ففي هذه القصة -عباد الله- يأمره الله -سبحانه- أن يترك ابنه وأم ابنه وحيدين في أرض خلاء لا نبات فيها ولا ماء! فقد روى البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء، فوضعهما هنالك ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقا فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؛ فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها؛ فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت إذا لا يضيعنا. ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهذه الدعوات ورفع يديه فقال: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ).
ألا تعجبون من هذه النفوس الشجاعة الطاهرة، استسلام من الأب والزوجة والابن!
عباد الله: ولما لاقى إبراهيم -عليه السلام- من قومه ما لاقى، وصار في غربته الحادة، يحتاج إلى ولد يؤنسه، ويُعينه في شيخوخته؛ فعمره أصبح ستا وثمانين سنة، فدعا الله أن يرزقه بابن صالح من زوجه هاجر، فاستجاب الله لدعوته، ورزقه بابن صالح، وبلغ الابن السعي؛ أي القدرة التي تمكنه من مصاحبة أبيه، ومساعدته في واقع الحياة. فلما تم له ذلك وقرت عينه به، أمره الله أن يذبحه!! سبحان الله! يذبح الابن؟ لماذا؟ ما الحكمة؟ هل هذا من أمر الله أو حديث نفس أو حلم شيطاني؟ لم يناقش إبراهيم -عليه السلام- ولم يتردد ولم يسأل ولم يعترض ولم يتشكك ولم يوسوس، بلّغ ابنه بالأمر لينفذ. أولاً لأنه يعلم أنه من أمر الله؛ لأن رؤيا الأنبياء وحي وحق، ولأن ذلك اختبار للحب والاستسلام، ومن تمام التسليم المطلق قيام إبراهيم -عليه السلام- وهو يهم بذبح ابنه بأن (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ)؛ أي كبّه على وجهه؛ حتى لا يرى عينيه أثناء الذبح، فتغلبه عاطفة الأبوة، فيخالف وحي ربه في أمره، أو متعلق من متعلقاته بالتراجع، أو التردد، أو تأخير الذبح.
والغريب -يا مسلمون- ليس في استجابة إبراهيم -عليه السلام- فحسب، ولكن في استجابة الابن إسماعيل -عليه السلام- الذي يستقبل الحياة، ويحب العيش لا الموت لأنه شاب، عمره ثلاث عشرة سنة، ولكنه قال مقولة المسلم (يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ)؛ فلم يجادل أباه، ويسأله عن تفاصيل الرؤيا، ومكانها، وزمانها، ووقت التنفيذ، والحكمة من أن يذبح الأب ابنه الوحيد.
قلت ما سمعتم ولي ولكم فاستغفروا الله ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه..
أيها المنون: وتتابع الابتلاءات على إبراهيم الخليل -عليه السلام- فيقابلها بالرضى والتسليم المطلق؛ فيأمره الله -سبحانه- ببناء البيت فيسلم لله ويبلغ ابنه بالأمر الإلهي؛ "إن الله -تعالى- أمرني أن أبني هاهنا بيتاً؛ قال إسماعيل: فافعل ما أمرك ربك؛ قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. فجعلا يبنيان ويقولان: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، لم يقل لم هاهنا؟ ولم الآن ولم بهذا الشكل؟
ويبشر بولد آخر من سارة بعد إسماعيل بثلاث عشرة سنة وهو إسحاق؛ فيستقبل الأمر بل كل رضى وثقة بربه الكريم الوهاب؛ (وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ).
هل نحن مسلمون؟ هل نحن مستسلمون لله -سبحانه- وللرسول -عليه الصلاة والسلام-؟ لا أقصد الاستسلام في التطبيق؛ فالإنسان معرض للتقصير والخطأ، ولكن الاستسلام في التشريع والحكم والاعتقاد.
أيها المسلمون: هل نناقش في أمور الشريعة أم نرضخ لها؟ هل نعترض على بعض المحرمات في الشرع والتي لا توافق أهواءنا ورغباتنا؟ هل نسارع في التزام حكم الشرع في الحجاب الشرعي للنساء وعدم الخلوة أم نتحجج بالأعذار؟ (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
وهذا معقل بن يسار -رضي الله عنه- صحابي زوّج أخته لرجل، لكن هذا الرجل طلقها، ثم ندم وجاء يخطبها مرة أخرى؛ فقال معقل: زوجتك وأكرمتك ثم طلقت أختي، لا والله لا ترجع إليك أبداً؛ فلما أنزل الله: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ)؛ قال معقل: سمعاً لربي وطاعة، ثم دعاه فقال: أزوجك وأكرمك"(رواه الترمذي). هذا مثال على مخالفة الهوى لله سبحانه والرسول(وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى)
وعندما خرمت الخمر كسروا الدنان وألقوا الكؤوس مباشرة، وعندما فرض الحجاب شقت النساء أمراطهن فاختمرن بها مباشرة، وعندما نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- صحابياً عن لبس خاتم الذهب ألقاه، فقيل له: خذه انتفع به؛ قال: "لا آخذه وقد طرحه رسول الله".
عباد الله: (إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، وقال صلى الله عليه وسلم؛ "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة"، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فأكثروا علي من الصلاة فيه؛ فإن صلاتكم معروضة علي"، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ.
اللهم أمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل هذا البلد آمناً مباركاً وجميع بلاد المسلمين.
اللَّهُمَّ إنَّا نَسْألُكَ مُوجِباتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزائِمَ مَغْفِرَتِكَ، والسَّلامَةَ مِنْ كُلِّ إثمٍ، والغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ، والفَوْزَ بالجَنَّةِ، والنَّجاةَ مِنَ النَّارِ.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل بلادنا آمنةً مطمئنة وسائر بلاد المسلمين.
المرفقات
1757578812_إبراهيم عليه السلام والتسليم.docx
1757578812_إبراهيم عليه السلام والتسليم.pdf