جَرِيمَةً بِثَوْبِ الْمَزَاحِ

عبدالله حمود الحبيشي
1447/05/15 - 2025/11/06 16:07PM
جَرِيمَةً بِثَوْبِ الْمَزَاحِ*
 
الخطبة الأولى
 
الحمدُ للهِ خَلقَ فَسوَّى، وقَدَّرَ فَهَدَى، أَضحَكَ وأَبكَى، وأَسعَدَ وأَشقَى، وهو رب العالمين، وأَشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، المَلِكُ الحَقُّ المبينُ، وأَشهدُ أنَّ مُحمدًا عَبدُ اللهِ ورسولُه، خَيْرُ
الخَلْقِ دِينًا، وأَحسنُهم أَخْلاقًا، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، فَلَا نَجَاةَ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا سَعَادَةَ لَهُ فِي الدُّنْيَا، إِلَّا بِصِلَتِهِ بِاللَّهِ تَعَالَى ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾.

عباد الله.. رَجُلٌ كَبِيرٌ فِي السِّنِّ دَعَا ضُيُوفًا إِلَى بَيْتِهِ، وَكَانَ يَنْتَظِرُ وُصُولَ الطَّعَامِ مِنَ الْمَطْعَمِ، وَمِنْ فَرْطِ قَلَقِهِ أَصْبَحَ يَخْرُجُ إِلَى خَارِجِ الْمَنْزِلِ لِيَنْظُرَ، ثُمَّ يَعُودُ مُتَوَتِّرًا يَتَرَقَّبُ.
فَأَرَادَ أَبْنَاؤُهُ أَنْ يُمَازِحُونَهُ، فَأَخْبَرُوا سَائِقَ الْمَطْعَمِ أَنْ يَنْتَظِرَ فِي آخِرِ الشَّارِعِ، ثُمَّ جَاؤُوا إِلَى أَبِيهِمْ يُخْبِرُونَهُ أَنَّ الْمَطْعَمَ أَلْغَى الطَّلَبَ وَلَا طَعَامَ سَيَأْتِي.. فَمَا هِيَ إِلَّا لَحَظَاتٌ حَتَّى سَقَطَ الرَّجُلُ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أُصِيبَ بِجَلْطَةٍ.. تِلْكَ لَمْ تَكُنْ مزحة، بَلْ جَرِيمَةً بِثَوْبِ الْمَزَاحِ، وَمَشْهَدًا مُؤْلِمًا لِمَا يُمْكِنُ أَنْ تَفْعَلَهُ كَلِمَةٌ تُقَالُ ضَحِكًا، فَتُسْقِطُ جَسَدًا، وَتُفْقِدُ عَقْلًا، وَتُؤْلِمُ قَلْبًا.. إِنَّهُ نَمُوذَجٌ لِمِزَاحٍ لَا أَقُولُ إِنَّهُ مَمْنُوعٌ فَقَطْ، بَلْ مَحْرَّمٌ، لِأَنَّ نَتِيجَتَهُ كَانَتْ دَمْعَةً وَحَسْرَةً، وَقَدْ أَرَادُوهَا مُضْحِكَةً.

صَدِيقٌ تَعَلَّقَ بِسَيَّارَةِ صَدِيقِهِ يُمَازِحُهُ، ثُمَّ قَفَزَ مِنْهَا وَهِيَ تَسِيرُ، فَتَعَثَّرَ وَسَقَطَ عَلَى الأَرْضِ مَيِّتًا.

وَآخَرُ أَرَادَ أَنْ يُمَازِحَ صَدِيقَهُ، فَدَفَعَ السَّيَّارَةَ باتِّجَاهِهِ، فَصَدَمَتْهُ وَكَسَرَتْ رِجْلَهُ.

كُلُّ هَذِهِ الْجَرَائِمِ وَالْحَوَادِثِ يُسَمُّونَهَا مِزَاحًا!

المُزاحُ أنيسُ المَجالسِ، ومُفتاحُ القُلوبِ والنُّفوسِ، بالمُزاحِ يَتَحوَّلُ جَو المَجالسِ من الكآبةِ إلى الفَرحِ، وبالمُزاحِ يتَجدَّدُ نَشاطُ العَاملِ بشيءٍ مِن المَرحِ، كَيفَ لا نَمزحُ وقَد مَزَحَ سيِّدُ المُرسلينَ، وإمامُ المُتَّقينَ، عليهِ أفضلُ الصلاة والتسليم، فقد أَتتْ عَجوزٌ إلى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ، فَقَالتْ: يَا رَسولَ اللهِ، اُدعُ اللهَ أن يُدخلَني الجَنَّةَ، فَقَالَ: يَا أُمَّ فُلانٍ، إنَّ الجَنةَ لا تَدخُلُها عَجوزٌ، فَوَلَّتْ تَبكي، فَقَالَ: أَخبروها أَنَّها لا تَدخُلُها وهي عَجوزٌ، إنَّ اللهَ تَعالى يَقولُ ﴿إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا﴾.

وقد مَزحَ الصَّحابةُ رضيَ اللهُ عَنهم وضَحَكوا والإيمانُ في قُلوبِهم كالجبالِ.

وهَكَذا سَلفُ هَذهِ الأمَّةِ مِن العُلماءِ والأخيارِ، وكَانَ إمامُ الحَديثِ عَامرُ بنُ شُراحيلَ الشَّعبيُّ رَحمَه اللهُ ممن اشتهرَ بالمُزاحِ في إجاباتِه على الأسئلةِ الثَّقيلةِ، فَقد جَاءَه رجلٌ فَسَألَهُ: ما اسمُ امرأةِ إبليسَ؟، فَقَالَ الشَّعبيُّ: إنَّ ذَاكَ لَعِرسٌ مَا شَهدتُه.

ولذلكَ قِيلَ لسُفيانَ بِنِ عُيَينةَ: المُزَاحُ هُجنةٌ -أي مُستَنكَرٌ-؟ فَقَالَ: بل سُنَّةٌ، ولَكنْ الشَّأنُ فِيمنْ يُحسِنُه، ويَضعُه مَواضعَه، فالمُزاحُ سُنَّةٌ مِنَ السُّنَنِ، ولكنْ فَعَلَهُ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أحياناً ليُقتدى بهِ، فيَنبغي أن يكونَ مِقدارُ المَزحِ، كَمِقدارِ المِلحِ في الطَّعامِ، فإذا نَقَصَ لم يَكن للمَجالسِ حَلاوةٌ، وإذا زَادَ كَانَ سَبباً للضَّغينةِ والعَداوةِ.

وكَذلكَ يَنبغي عَدمُ الكَذبِ في المُزاحِ، قَالَ الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عَنهم: إنَّك تُداعِبُنا يَا رسولَ اللهِ، قَالَ "إنِّي لأمزَحُ، ولا أقولُ إلَّا حقًّا"، وللأسفِ عِندما أصبحتْ غَالبُ المَجالسِ مَجالسَ ضَحِكٍ ولهوٍّ، وأصبحَ المُقَدَّمُ فيها هُم أصحابَ الكَذبِ واللغوِ، أَصبحَ هُناكَ مَن يَكذبُ لِيَلفتَ إليهِ الأنظارُ، فَيضحَكُ النَّاسُ ويَبوءُ بالأوزارِ، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ، ثُمَّ وَيْلٌ لَهُ» واللهِ إنَّه لوعيدٌ شَديدٌ، لِمنْ كَانَ لَهُ قَلبٌ أو ألقى السَّمعَ وهو شَهيدٌ.

وإيَّاكَ والمَزحَ الذي فيهِ استهزاءٌ بالآخَرينَ، واستَشعِر نِداءَ ربِّ العالمينَ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ فَكَم مِن كَلمةٍ هَدَمَتْ حُصونَ الإخاءِ، وأورَثَتْ الجَفَاءً، وقَطَعتْ مَا لمْ يَستَطعْ وَصلُه العُقلاءُ.. نسأل الله أن يرزقنا السداد في أقوالنا وأعمالنا ويجعلنا من الصادقين وممن يستمع القول فيتبع أحسنه..
 
الخطبة الثانية
 

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سيد المرسلين نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ

أَمَّا بَعْدُ: عِبَادَ اللهِ: ومِن المَحاذيرِ في المُزاحِ، تَرويعُ المُسلمِ بأيِّ نَوعٍ مِن أنواعِ التَّخويفِ.. كَانَ الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عَنهم يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ فَأَخَذَهُ -بِقَصدِ المُزاحِ-، فَفَزِعَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا» فإذا كَانَ لا يَحلُّ تَرويعُه في حَبلٍ، فَكيفَ ما يَحدثُ اليومَ بما يُسمى بالمَقالبِ التي تَشيبُ مِنها الرؤوسُ، والتي لا يُرادُ منها إلا التَّصويرُ والضَّحِكُ المَشينُ، وإيذاءُ عِبادِ اللهِ المُؤمنينَ ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المؤْمِنِينَ وَالمؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾.. بِنْتٌ تَتَّصِلُ عَلَى أُمِّهَا لِتَقُولَ لَهَا إِنَّهَا حَامِلٌ، وَهِيَ لَمْ تَتَزَوَّجْ، وَابْنٌ يَتَّصِلُ عَلَى أَبِيهِ لِيُخْبِرَهُ أَنَّهُ مَقْبُوضٌ عَلَيْهِ فِي قَضِيَّةِ مُخَدِّرَاتٍ، وَبَعْدَ أَنْ تَقَعَ الْفَجِيعَةُ مِنَ الْأُمِّ وَالْأَبِّ، يُخْبِرُونَهُمَا أَنَّهُ مَقْلَبٌ! فَأَيُّ سَخَافَةٍ، وَأَيُّ عُقُوقٍ، وَأَيُّ وِقَاحَةٍ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَقَالِبِ؟

وأما قَاصمةُ الظَّهرِ، فَهو أن يَكونَ المُزاحُ في عِبادةٍ من العباداتِ، أو شَعيرةٍ مِن شَعائرِ ربِّ الأرضِ والسَّماواتِ، فإذا كَانَ مَن يَمزحُ بالكلامِ ويَقطعُ عَناءَ الطَّريقِ، فَقالَ: ما رأينا مِثلَ قُرائنا هَؤلاءِ؛ أَرغبُ بَطوناً، ولا أَكذبُ أَلسناً، ولا أَجبنُ عندَ اللقاءِ؛ فنزلَ قولُ اللهِ فِيهم ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾، فَكيفَ اليومَ بمن يستهزئُ بالصَّلاةِ، ويَجعلونَها مُزاحَ مَجالسِهم، وتَمثيلَ مَقَالبِهم، ثُمَّ يأتي مَن يَضحَكُ ويَنشرُ، وقد قَالَ اللهُ ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾، فإيَّاكَ ثُمَّ إيَّاكَ أن تَجعلَ دِينَكَ مَضحكَّةً للآخَرينَ.

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً، وَعَمَلاً صَالِحاً، وَعِلْماً نَافِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ
 

مستفادة من خطبة للشيخ هلال الهاجري بعنوان المزاح المعتدل بتاريخ 21/12/1443هـ
 
المرفقات

1762435283_جَرِيمَةً بِثَوْبِ الْمَزَاحِ.docx

1762435283_جَرِيمَةً بِثَوْبِ الْمَزَاحِ.pdf

المشاهدات 486 | التعليقات 0