حتى يحبك الله
فهد السعيد
1446/12/09 - 2025/06/05 17:38PM
الحمد للهِ الذي فَتَحَ قلوبَ أَحِبائِه مِن فُيُوضِ رحمته الفِساح، وشَرَحَ صُدُورَ أَوليائِه بنورِ مَعرفته، فأَشرقَ عليهم النورُ ولاَح، أَحْياهم بين رَجائِه وخَشيته، وغَذَّاهم بولايته ومحبته، فلا تَسَلْ عَمَّا هُم فيه من السرور والأَفراح، فسُبحان مَنْ ذِكْرُه قوتُ القلوبِ وقُرةُ العيون وسُرور النفوس، ورُوح الحياة، وحياة الأرواح.
والصلاة والسلام على نبينا محمد الداع إلى الفلاح، وعلى آله وأصحابه كانوا على منهج الحق كالمصباح.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )
اتقوه وراقبوه وأَطيعوه ولا تعصوه، فالمتقون هم المفلحون (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ)
أيها المسلمون:
يَسْعَى كثير من الناس جَاهدين لاسْتجداء رِضا الآخرين، ويبذلون في سبيل ذلك الأَسبابَ الممكنة، ويَلْتمِسون منهم أَحاسيسَ الوُدِّ ومشاعرَ الصفاء.
يَفرحُ أحدُهم إذا أُخبر أنّ فلاناً من الناس يُحبُّه أو يُذكره بخير خاصةً إنْ كان ذا منصب وجاه.
ترى هؤلاء أو كثيراً منهم يُمضون أوقاتاً كبيرةً في قراءة الكُتب وحُضورِ الدورات التي تُعنى بهذا الاتجاه: كَيفَ تَكْسَبُ الأصدقاء؟ وحَتى تكَون مَحبوباً لدى الآخرين؟ وكيف يحبك الناس.... وأمثالُ هذه الكُتبِ والدَّورات.
وهذا المطلب لا تَثْريبَ على صاحبه في الجملة، ولا بأس به من حيثُ الأَصلُ والمبدأ.
ولكن قَد يَخْفَى على هؤلاء أنّ تحصيل محبة الناسِ ليس واجباً شرعياً ولا مَطْلباً دينياً!
قد يَخفى على كثيرٍ من هؤلاء أنَّ الناسَ مَهْما فَعَلْتَ، فَلنْ تُدرِكَ رضاهم، ولو أَحسنت لواحدٍ منهم أَيّما إحسانٍ ثم بَدَرَت منك هَفْوةٌ نَسِيَ كُلَّ ما كان إلا قليلٌ منهم! (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إن كانوا مؤمنين).
وليس يعني هذا الإساءةَ للناسِ وتَعَمَّدَ أَسبابَ سَخَطِهم أو عَدمَ الاكتراثِ بمشاعرهم وأَحاسيسهم، ولكنَّ ذلك ليس من ضَرورياتِ العِشْرةِ وليس من لوازم الحياة، فلا تجعل ذلك شغلك الشاغل.
إنَّ محبةَ الناسِ لَكَ هي أَثرُ صنائعِ المعروف، وثمرةٌ من ثَمارِ التَّخلق بأَخلاق الإسلام وآدبِه.
يَنْسَى هؤلاء في زحمة أَمانيهم أَنّ الله وَحْدَه هو الذي يَستحق أَنْ تُصرف له أَسبابُ الحُب، هو وَحْدَه الذي إذا أَحبك أَحَبك الخَلْقُ كلُّهم وإذا أَبْغَضَكَ فلا معنى لمحبة مَنْ بَعْدَه، بل إنه إذا أَبْغَضَك ومَقَتَكَ أَبْغَضَك الخَلْقُ كُلُّهم ومَقَتُوك، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، قَالَ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ" أخرجه مسلم.
هذا الواحدُ الأَحدِ هو الذي يَنبغي أَنْ تُبْذَلَ له أَسبابُ الحبِّ وهو المستحقُ أَنْ نَستجلبَ أَسبابَ مَحَبتِه وننال رضاه.
أيها المسلمون: إنّ لمحبة الله للعبد أسباباً، وللإنسان في سبيل تحقيق رضاه وسائل ذكرها كثير من العلماء، وهي موجودة في الكتاب والسنة، وهي أسبابٌ في متناول اليد لا تتطلب من أجل تحصيلها مستحيلاً، سأذكر بعضَها وغيرُها كثير، ففتش في نفسك أين أنت منها، وهي والله يسيرة على من يسرها الله عليه:
فأَولها ومُقَدَّمُها: طَاعةُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) وحَقيقةُ هذه المحبة: التأَدبُ بأَدب الرسول صلى الله عليه وسلم باطناً وظاهراً وتَحكيمُه في السرائرِ والعلانية، بحيثُ تَجعلُ الرسولُ شَيْخَكَ وقُدْوَتَك وإمامَكَ الذي لا تُخالفه، وتُعَلِّقُ قَلبَكَ بقلبه الكريم فتُجِيبُه إذا دَعَاكَ وتَقِفُ مَعَه إذا اسْتَوقَفَكَ وتَسِيرُ إذا سَارَ بك وتَغْضبُ لغَضبه وتَرْضَى لرضاه.
أن تكون مع الرسول كما قال الشاعر:
فَلَيتَكَ تَحلو وَالحَياةُ مَريرَةٌ
وَلَيتَكَ تَرضى وَالأَنامُ غِضابُ
وَلَيتَ الَّذي بَيني وَبَينَكَ عامِرٌ
وَبَيني وَبَينَ العالَمينَ خَرابُ
إِذا صحَّ مِنكَ الوُدَّ فَالكُلُّ هَيِّنٌ
وَكُلُّ الَّذي فَوقَ التُرابِ تُرابِ
ثاني هذه الأسبابِ التي تجلب محبةَ الله: قراءةُ القرآنِ بالتدبر والتفهم لمعانيه، كما تتدبر في الكتاب الذي تقرؤه وتريد فهمه وتطبيقه، لأن القرآنَ كلامُه ومَا تَقَربَ العبدُ بشيءٍ أَحَبَّ إلى اللهِ من كلامه.
ثالثها: التقربُ إلى اللهِ بالنوافل بعد الفرائض، وفي الحديث القدسي: (وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ) أخرجه البخاري.
رابعها: أنْ تدوامَ على ذكره في كل أحوالك، باللسان والقلب، فَنَصِيبُكَ من المحبة على قدر نصيبك من هذا الذكر، وفي الحديث: "كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ العَظِيمِ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ" أخرجه البخاري ومسلم.
قال ابن القيم: "فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُحبَّه اللهُ فَلْيلهج بذكره".
خامِسُها: إيثارُ مَحَابِّهِ على مَحابك عند غلبات الهوى، فإذا تَعَارَضَ هَوَاكَ ورَغْبَتُكَ مع مُرادِ اللهِ ومَحبوبِه فأيهما تقدم! هنا مَنَزعُ المحبةِ وأُسُّها، وفي قِصةِ ذَبْحِ الخليلِ إبراهيمَ وَلَدَه إسماعيلَ عِبْرةٌ وآيةٌ ولذلك سُمي: خليلَ الرحمن. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فَمَنْ كان اللهُ يُحبُّه، اسْتعمله فيما يُحب".
أيها المسلمون: ومما يُستعانُ به على تَحصيلَ مَحبةِ اللهِ وهو سادسُ الوسائل: أن يتأملَ الإنسانُ في أسماءِ اللهِ وصِفاتِهِ مُتَعَجَّباً مُتأملاً مُتَلَذِّذاً بمشاهدةِ أَلْطَافه بخلقِه مُطَّلِعَاً على عجائب صِنعه، وفي حديث عائشة أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ، وَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلاَتِهِمْ فَيَخْتِمُ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ؟»، فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ» أخرجه البخاري ومسلم.
فتأمل أيها المسلم، ورَبُّكَ مُسْتوياً على عَرْشِه، مُتَكلماً بأمره ونهيه، بَصِيراً بحركات العالم كلِّه، سَميعاً لأَصواتهم، رَقيباً على ضَمائرِهم وأَسرارِهم، مَوصُوفاً بصفاتِ الكمال، مَنْعُوتاً بِنُعوتِ الجَلال، مُنَزَّهاً عن العيوب والنقائص والمُمَاثلة، هو كما وَصَفَ نَفْسَه في كتابه، وفَوقَ ما يَصِفُه به خَلْقُه، حَيٌّ لا يموت، قَيومٌ لا يَنامَ، بَصيرٌ يَرَى دَبيبِ النملة السوداءِ، على الصخرةِ الصَّماءِ في الليلة الظلماء، يَسْمَعُ ضَجِيجَ الأَصوات، باختلاف اللغات، على تَفَنُّنِ الحَاجات، له الخَلْقُ والأَمرُ، وله النعمةُ والفضل، وله المُلْكُ والحمد، وله الثناءُ والمجد، لم يخلقِ السَّماواتِ والأَرضَ وما بينهما باطلاً، ولا تَرَكَ الإنسانَ سُدَىً عَاطِلاً، بل خَلَق الخلق ليعبدوه وحده.
سابع الوسائل وهو من أَعجبها: انْكسارُ القلب بين يدي الله تعالى، انْكسارَ مُخْبتٍ خَائفٍ وَجِلٍ، انكسار الذليل للعظيم، وانكسارَ الضعيفِ للقويّ الذي ليس منه مَنَاصٌ.
ثامنها: الخَلوةُ به وَقْتَ النزولِ الإلهي، لمناجاته وتلاوةِ كلامَه، والوقوفِ بالقلب والتأدبِ بأَدبِ العبودية بين يديه، ثُم خَتْمُ ذلك بالاستغفار والتوبة، وذلك في الثلثِ الأَخيرِ من الليل كما في الحديث: "يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ" أخرجه البخاري ومسلم.
بارك الله لي ولكم...
الحمد لله الذي له الخلق والأمر فتبارك الله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين.
أما بعد: ففي سنة نبينا مَدَدٌ من فُيوضِ محبة الله، وفي كتاب ربنا لمن تأمل زاد زاخر من أسباب المحبة، ولا أظنها تستعصي على مؤمن حريص، قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ، الْغَنِيَّ، الْخَفِيَّ» أخرجه مسلم.
ألم تعلم أنّ اللهَ يُحبُّ التوابين فجَددِ التوبةَ كلَّ حين تظفر بمحبته، ويُحب المحسنين فأحسن إلى الناس يُحِبُّكَ الله، ويحب المتقين، ويحب المتطهرين، فهل تأملت في نَفْسك وأَنت تَتَطهرُ للهِ في كل يومٍ أكثرَ من مرة متوضئاً أو مغتسلاً أنك في رياض محبة الله، فاحتسبوا وضوءَكم واستشعروا هذا الأجر.
فيا أيها المسلم هذه بعض الأسباب التي تُستجلب بها محبةُ الله لك وغيرُها كثير، فإن طبقتها وبذلت في سبيل تحصيلها عُمُرَكَ كُلَّه فليس كَثيراً، وإنْ غُلِبتَ على تحقيقها كُلِّها فلا تُغْلَبنَّ على بعضها مما هو في مقدورك.
وإذا أردت أن تعرف هل وَصَلْتَ إلى هذه المنزلة، إذا أردت أنْ تعلمَ أَن اللهَ يُحبكَ أَم أَنت دون هذا المقام؟ فانظر أَين أنت من أوامر اللهِ وطاعته، وفي هذا يقول حماد بن مسلم: "إذا أَحب اللهُ عَبداً أَكثر هَمَّه فيما فرَّط". يقصد بذلك أنه يَحْزنُ إذا فاته شيء من أمور الخير، يحزن على تقصيره كما يفرح بطاعته، تراه يهتم إذا فاتته صلاةُ الجماعة أو فاته حِزبُه من القرآن أو فاتته صلاة الوتر أو صلاةُ الضحى، وغيرُ ذلك من أفعال الخير التي كان بمقدوره القيامُ بها.
اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك، والعمل الذي يبلغنا حبك. اللهم اجعل حبك أحب إلينا من أنفسنا وأهلينا. ومن الماء البارد.
اللهم ارزقنا حبك، وحب من ينفعنا حبه عندك. اللهم ما رزقتنا مما نحب، فاجعله قوةً لي فيما تحب، وما زويت عنا مما نحب فاجعله فراغا فيما تحب.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناُ مطمئنا في صحة وإيمان وسائر بلاد المسلمين
والصلاة والسلام على نبينا محمد الداع إلى الفلاح، وعلى آله وأصحابه كانوا على منهج الحق كالمصباح.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )
اتقوه وراقبوه وأَطيعوه ولا تعصوه، فالمتقون هم المفلحون (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ)
أيها المسلمون:
يَسْعَى كثير من الناس جَاهدين لاسْتجداء رِضا الآخرين، ويبذلون في سبيل ذلك الأَسبابَ الممكنة، ويَلْتمِسون منهم أَحاسيسَ الوُدِّ ومشاعرَ الصفاء.
يَفرحُ أحدُهم إذا أُخبر أنّ فلاناً من الناس يُحبُّه أو يُذكره بخير خاصةً إنْ كان ذا منصب وجاه.
ترى هؤلاء أو كثيراً منهم يُمضون أوقاتاً كبيرةً في قراءة الكُتب وحُضورِ الدورات التي تُعنى بهذا الاتجاه: كَيفَ تَكْسَبُ الأصدقاء؟ وحَتى تكَون مَحبوباً لدى الآخرين؟ وكيف يحبك الناس.... وأمثالُ هذه الكُتبِ والدَّورات.
وهذا المطلب لا تَثْريبَ على صاحبه في الجملة، ولا بأس به من حيثُ الأَصلُ والمبدأ.
ولكن قَد يَخْفَى على هؤلاء أنّ تحصيل محبة الناسِ ليس واجباً شرعياً ولا مَطْلباً دينياً!
قد يَخفى على كثيرٍ من هؤلاء أنَّ الناسَ مَهْما فَعَلْتَ، فَلنْ تُدرِكَ رضاهم، ولو أَحسنت لواحدٍ منهم أَيّما إحسانٍ ثم بَدَرَت منك هَفْوةٌ نَسِيَ كُلَّ ما كان إلا قليلٌ منهم! (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إن كانوا مؤمنين).
وليس يعني هذا الإساءةَ للناسِ وتَعَمَّدَ أَسبابَ سَخَطِهم أو عَدمَ الاكتراثِ بمشاعرهم وأَحاسيسهم، ولكنَّ ذلك ليس من ضَرورياتِ العِشْرةِ وليس من لوازم الحياة، فلا تجعل ذلك شغلك الشاغل.
إنَّ محبةَ الناسِ لَكَ هي أَثرُ صنائعِ المعروف، وثمرةٌ من ثَمارِ التَّخلق بأَخلاق الإسلام وآدبِه.
يَنْسَى هؤلاء في زحمة أَمانيهم أَنّ الله وَحْدَه هو الذي يَستحق أَنْ تُصرف له أَسبابُ الحُب، هو وَحْدَه الذي إذا أَحبك أَحَبك الخَلْقُ كلُّهم وإذا أَبْغَضَكَ فلا معنى لمحبة مَنْ بَعْدَه، بل إنه إذا أَبْغَضَك ومَقَتَكَ أَبْغَضَك الخَلْقُ كُلُّهم ومَقَتُوك، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، قَالَ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ" أخرجه مسلم.
هذا الواحدُ الأَحدِ هو الذي يَنبغي أَنْ تُبْذَلَ له أَسبابُ الحبِّ وهو المستحقُ أَنْ نَستجلبَ أَسبابَ مَحَبتِه وننال رضاه.
أيها المسلمون: إنّ لمحبة الله للعبد أسباباً، وللإنسان في سبيل تحقيق رضاه وسائل ذكرها كثير من العلماء، وهي موجودة في الكتاب والسنة، وهي أسبابٌ في متناول اليد لا تتطلب من أجل تحصيلها مستحيلاً، سأذكر بعضَها وغيرُها كثير، ففتش في نفسك أين أنت منها، وهي والله يسيرة على من يسرها الله عليه:
فأَولها ومُقَدَّمُها: طَاعةُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) وحَقيقةُ هذه المحبة: التأَدبُ بأَدب الرسول صلى الله عليه وسلم باطناً وظاهراً وتَحكيمُه في السرائرِ والعلانية، بحيثُ تَجعلُ الرسولُ شَيْخَكَ وقُدْوَتَك وإمامَكَ الذي لا تُخالفه، وتُعَلِّقُ قَلبَكَ بقلبه الكريم فتُجِيبُه إذا دَعَاكَ وتَقِفُ مَعَه إذا اسْتَوقَفَكَ وتَسِيرُ إذا سَارَ بك وتَغْضبُ لغَضبه وتَرْضَى لرضاه.
أن تكون مع الرسول كما قال الشاعر:
فَلَيتَكَ تَحلو وَالحَياةُ مَريرَةٌ
وَلَيتَكَ تَرضى وَالأَنامُ غِضابُ
وَلَيتَ الَّذي بَيني وَبَينَكَ عامِرٌ
وَبَيني وَبَينَ العالَمينَ خَرابُ
إِذا صحَّ مِنكَ الوُدَّ فَالكُلُّ هَيِّنٌ
وَكُلُّ الَّذي فَوقَ التُرابِ تُرابِ
ثاني هذه الأسبابِ التي تجلب محبةَ الله: قراءةُ القرآنِ بالتدبر والتفهم لمعانيه، كما تتدبر في الكتاب الذي تقرؤه وتريد فهمه وتطبيقه، لأن القرآنَ كلامُه ومَا تَقَربَ العبدُ بشيءٍ أَحَبَّ إلى اللهِ من كلامه.
ثالثها: التقربُ إلى اللهِ بالنوافل بعد الفرائض، وفي الحديث القدسي: (وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ) أخرجه البخاري.
رابعها: أنْ تدوامَ على ذكره في كل أحوالك، باللسان والقلب، فَنَصِيبُكَ من المحبة على قدر نصيبك من هذا الذكر، وفي الحديث: "كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ العَظِيمِ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ" أخرجه البخاري ومسلم.
قال ابن القيم: "فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُحبَّه اللهُ فَلْيلهج بذكره".
خامِسُها: إيثارُ مَحَابِّهِ على مَحابك عند غلبات الهوى، فإذا تَعَارَضَ هَوَاكَ ورَغْبَتُكَ مع مُرادِ اللهِ ومَحبوبِه فأيهما تقدم! هنا مَنَزعُ المحبةِ وأُسُّها، وفي قِصةِ ذَبْحِ الخليلِ إبراهيمَ وَلَدَه إسماعيلَ عِبْرةٌ وآيةٌ ولذلك سُمي: خليلَ الرحمن. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فَمَنْ كان اللهُ يُحبُّه، اسْتعمله فيما يُحب".
أيها المسلمون: ومما يُستعانُ به على تَحصيلَ مَحبةِ اللهِ وهو سادسُ الوسائل: أن يتأملَ الإنسانُ في أسماءِ اللهِ وصِفاتِهِ مُتَعَجَّباً مُتأملاً مُتَلَذِّذاً بمشاهدةِ أَلْطَافه بخلقِه مُطَّلِعَاً على عجائب صِنعه، وفي حديث عائشة أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ، وَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلاَتِهِمْ فَيَخْتِمُ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ؟»، فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ» أخرجه البخاري ومسلم.
فتأمل أيها المسلم، ورَبُّكَ مُسْتوياً على عَرْشِه، مُتَكلماً بأمره ونهيه، بَصِيراً بحركات العالم كلِّه، سَميعاً لأَصواتهم، رَقيباً على ضَمائرِهم وأَسرارِهم، مَوصُوفاً بصفاتِ الكمال، مَنْعُوتاً بِنُعوتِ الجَلال، مُنَزَّهاً عن العيوب والنقائص والمُمَاثلة، هو كما وَصَفَ نَفْسَه في كتابه، وفَوقَ ما يَصِفُه به خَلْقُه، حَيٌّ لا يموت، قَيومٌ لا يَنامَ، بَصيرٌ يَرَى دَبيبِ النملة السوداءِ، على الصخرةِ الصَّماءِ في الليلة الظلماء، يَسْمَعُ ضَجِيجَ الأَصوات، باختلاف اللغات، على تَفَنُّنِ الحَاجات، له الخَلْقُ والأَمرُ، وله النعمةُ والفضل، وله المُلْكُ والحمد، وله الثناءُ والمجد، لم يخلقِ السَّماواتِ والأَرضَ وما بينهما باطلاً، ولا تَرَكَ الإنسانَ سُدَىً عَاطِلاً، بل خَلَق الخلق ليعبدوه وحده.
سابع الوسائل وهو من أَعجبها: انْكسارُ القلب بين يدي الله تعالى، انْكسارَ مُخْبتٍ خَائفٍ وَجِلٍ، انكسار الذليل للعظيم، وانكسارَ الضعيفِ للقويّ الذي ليس منه مَنَاصٌ.
ثامنها: الخَلوةُ به وَقْتَ النزولِ الإلهي، لمناجاته وتلاوةِ كلامَه، والوقوفِ بالقلب والتأدبِ بأَدبِ العبودية بين يديه، ثُم خَتْمُ ذلك بالاستغفار والتوبة، وذلك في الثلثِ الأَخيرِ من الليل كما في الحديث: "يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ" أخرجه البخاري ومسلم.
بارك الله لي ولكم...
الحمد لله الذي له الخلق والأمر فتبارك الله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين.
أما بعد: ففي سنة نبينا مَدَدٌ من فُيوضِ محبة الله، وفي كتاب ربنا لمن تأمل زاد زاخر من أسباب المحبة، ولا أظنها تستعصي على مؤمن حريص، قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ، الْغَنِيَّ، الْخَفِيَّ» أخرجه مسلم.
ألم تعلم أنّ اللهَ يُحبُّ التوابين فجَددِ التوبةَ كلَّ حين تظفر بمحبته، ويُحب المحسنين فأحسن إلى الناس يُحِبُّكَ الله، ويحب المتقين، ويحب المتطهرين، فهل تأملت في نَفْسك وأَنت تَتَطهرُ للهِ في كل يومٍ أكثرَ من مرة متوضئاً أو مغتسلاً أنك في رياض محبة الله، فاحتسبوا وضوءَكم واستشعروا هذا الأجر.
فيا أيها المسلم هذه بعض الأسباب التي تُستجلب بها محبةُ الله لك وغيرُها كثير، فإن طبقتها وبذلت في سبيل تحصيلها عُمُرَكَ كُلَّه فليس كَثيراً، وإنْ غُلِبتَ على تحقيقها كُلِّها فلا تُغْلَبنَّ على بعضها مما هو في مقدورك.
وإذا أردت أن تعرف هل وَصَلْتَ إلى هذه المنزلة، إذا أردت أنْ تعلمَ أَن اللهَ يُحبكَ أَم أَنت دون هذا المقام؟ فانظر أَين أنت من أوامر اللهِ وطاعته، وفي هذا يقول حماد بن مسلم: "إذا أَحب اللهُ عَبداً أَكثر هَمَّه فيما فرَّط". يقصد بذلك أنه يَحْزنُ إذا فاته شيء من أمور الخير، يحزن على تقصيره كما يفرح بطاعته، تراه يهتم إذا فاتته صلاةُ الجماعة أو فاته حِزبُه من القرآن أو فاتته صلاة الوتر أو صلاةُ الضحى، وغيرُ ذلك من أفعال الخير التي كان بمقدوره القيامُ بها.
اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك، والعمل الذي يبلغنا حبك. اللهم اجعل حبك أحب إلينا من أنفسنا وأهلينا. ومن الماء البارد.
اللهم ارزقنا حبك، وحب من ينفعنا حبه عندك. اللهم ما رزقتنا مما نحب، فاجعله قوةً لي فيما تحب، وما زويت عنا مما نحب فاجعله فراغا فيما تحب.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناُ مطمئنا في صحة وإيمان وسائر بلاد المسلمين