حَديثُ الإفْكِ، والدرسُ المُسْتَفَاد
فهد السعيد
1447/01/22 - 2025/07/17 12:17PM
حَديثُ الإفْكِ، والدرسُ المُسْتَفَاد
الحمد لله الذي أَحاطَ بكل شيءٍ خُبراً، وجعل لكل شيء قَدَرَاً، وأَسْبغَ على الخلائق من حفظه سِتْراً. أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أَنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وأشهد أنَّ سَيدَنَا ونبيَنا محمداً عبدُه ورسولُه، أَرْسَلَه إلى الناس كافَّةً عُذْراً ونُذْرَاً. صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه الذين أَخْلَدَ اللهُ لهم ذِكراً، وأَعْظَمَ لهم أَجْراً، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم يُجزى الظالمون خزياً، ويُجزى المتقون ذُخراً، ثم أما بعد:
فيا أيها المسلمون: أوصيكم بتقوى الله فإنها خيرُ الوصايا من رب البرايا، فاتقوه والزموا عَتَبةَ التقوى تَنَالوا بها الرِّفعةَ والسعادةَ في الدنيا والأخرى.
مَعَاشرَ مَنْ آمن بالله:
مِمَّا قَصَّه اللهُ علينا في مُحْكمِ كتابه وبليغِ خِطابه حَادثةٌ من أَشَدِّ الحوادثِ وَقْعَاً في نفوس المجتمع المسلم في عصر النبوة، وفاجعةٌ أَثْقَلَتْ قَلبَ النبي صلى الله عليه وسلم، وحَزِنَ لها المؤمنون حتى أَظْلمت المدينةُ منها، لشَنَاعتها وفظاعتها، تقول عائشة رضي الله عنها واصفةً وَقْعَها في قلبها، وهي صاحبةُ القِصةِ قالت: (وَقَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا لَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ وَلَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ حَتَّى إِنِّي لَأَظُنُّ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي) (أخرجه البخاري ومسلم)
إنها حادثةُ الإفكِ، وما أَدْراكَ ما حادثةُ الإفك! التي خَلَّدَ ذكرَهَا القرآنُ وسَطَّرها في عَشرِ آياتٍ تُتْلَى إلى يوم الدين، لتكون للمسلمين دُسْتوراً يًتعلمون منه، ونِبْراساً يًهْتدون به، على مَرِّ العصور وتعاقب الأزمان.
حادثةٌ كاسْمِهَا، إفْكٌ وافْتَراءٌ، وقَذْفٌ وتَشْويهٌ لمقام النبوة العَليّ، وإنك لتَعْجَبُ من هذه القصةِ التي وقعت أحداثها في وقتِ تَنَزُّلِ الوَحي، وكان اللهُ قَادِراً أَنْ يُنْزلَ وَحْيه فيها بعدها بيومٍ أو يومين، ولكن لِحِكْمةٍ ربانيةٍ وسِرٍّ إلهي، فَقَدِ انْحَبَسَ الوحيُ ما يَنِيفُ عن الشهر كاملاً، حتى سُرِّيَ عن رسولِ الله وتَنَفَّس المؤمنون فَرَحَاً واستبشاراً، ونَزَلَ الوحي ببراءة عائشة أمِّ المؤمنين مما أَتَّهَمَا به المنافقون من الفاحشة، وطَهَّرَها مما رَمَاها به أَهْلُ الإفكِ والبَهتان فأَنْزَلَ اللهُ عز وجل براءتَها وصيانةَ سَاحتِهَا حِفْظاً لعِرضِ الرسولِ عليه أفضلُ الصلاة والسلام فقال: (إنّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ) أي: جَماعةٌ منكم، يعني: ليس واحداً ولا اثنان بل جماعةٌ، وكان المُقَدَّمُ في هذه اللَّعنة عبدُ اللهِ بنُ أُبيِّ بنِ سَلولٍ رأسُ المنافقين، فإنه كان يَجمعُ الحَديث ويَسْتَوْشِيه، حتى دَخَلَ ذلك في أذهانِ بعض المسلمين، فتكلموا به، وجَوَّزَه آخرون منهم، وبقي الأَمرُ كذلك قريباً من شَهْر، والناس يدوكون فيه ،ويتحدثون فيه في بيوتهم.
في قِصةٍ حَدَثتْ تفاصيلُها في غَزوةِ المُرَيْسِيع، وحين انتهَتْ الغَزْوةُ قَفَلَ النبيُّ راجِعَاً إلى المدينة وفي طريقه وأثناءِ نُزولِ الجيش للرَّاحة، فَقَدَتْ عائشةُ عِقْدَاً لها، فَذَهَبَتْ تَلْتَمِسُه وتبحثُ عنه، فلما عَزَمَ الجيشُ على إكمال مَسِيرِه وَبَعَثُوا الْجَمَلَ الذي كان يُقِلُّ عائشةَ، تقول: وَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَمَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ، فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ، فَتَيَمَّمْتُ مَكانيَ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، وَظَنَنْتُ أَنَّ الْقَوْمَ سَيَفْقِدُونِي فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ، وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ قَدْ عَرَّسَ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ وكان رضي الله يتفقد مكان الجيش كلما نزلوا وارتحلوا ، تقول عائشة: فَأَتَانِي فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي، وَقَدْ كَانَ قد رآني قبل نزولِ الْحِجَابِ، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي، فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي، وَوَاللهِ مَا يُكَلِّمُنِي كَلِمَةً وَلَا سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ، حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ، فَوَطِئَ عَلَى يَدِهَا فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِيَ الرَّاحِلَةَ، حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ، بَعْدَمَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ فِي شَأْنِي، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، فَقَدِمْنَا المدينةَ وكان الناس قد خاضوا في حديث أهل الإفك. (أخرجه البخاري ومسلم)
هنا وَجَدَ المنافقون فرصتهم لتلويث عِرضِ الرسول واتَّهامِ عائشة بما هي مِنْهُ بريئةٌ، فاختلقوا الشائعات وتكلموا بَغْيَاً وَعَدْواً، وما أَرَادُوا بذلك إلا تَوْهينَ قَلبِ النبيِّ وَزَعْزَعَةَ قُلوبِ الناسِ في نبيهم وقُدوتِهم وليَصُدوا الناسَ عن دينه، ولم يَتوقّف الحديثُ عند المنافقين فَحَسْب، بل امْتَّدَ ليَتَحَدّث به أُناسٌ من المؤمنين خطئاً منهم وجَهْلاً.
أيها المسلمون: هذه الحادثةُ مليئةٌ بالدروس والعِبر، وكلُّ آيةٍ منها تَوجيهٌ وخَبَر، وهذه الآيات مَدرسةٌ يَسْتَقي المؤمنون منها المنهجَ السَويَّ عند سماع الأخبار، ويَلتقطون آدابَ الحديثِ وآدابَ الاستماع، وفيها من الخير أَنها مدرسةٌ لعبادِ اللهِ المؤمنين أنْ يَتَحَفَّظوا في نَقْلِ الشائعات، وأنْ لا يَعْتنوا بنقل الروايات دُونَ تَثَبت، خاصةً إذا اشتملت تلك الرواياتُ والشائعاتُ على طَعْنٍ في عَبْدٍ مِن عِبادِ الله، فعلى المسلم أنْ يَتقيَ اللهَ عز وجل في إخوانه.
فهذه الحادثة هَذَّبتْ أَلْسِنَةَ المؤمنين، وأَدَّبَتْ عِبادَ اللهِ المتقين، ودَلَّتْهم على ما يَنبغي أنْ يكونوا عليه من سُننِ الدين، ومراعاةِ أعراضِ عبادِ اللهِ المسلمين.
إنّ أهم الدروسِ المستفادةِ من هذه الحادثة التي كان لها وَقْعُها على قَلْب النبيِّ وقلبِ زَوجه وأهله وعلى قلوب الصحابة أجمعين.
إنّ أَهَمَّ الدروسِ الحَيَّةِ والمواعظِ الجليّة: خَطَرُ الشَّائعات.
قصةُ الإفك تُعَلمنا دُروساً في التَّثَبتِ وحِفظِ اللسانِ، وتُبَينُ عِظَمَ خَطَرِه.
قال الحسن رحمه الله: "الغِيبةُ ثلاثةُ أَوْجُهٍ -كلُّها في كتاب ﷲ تعالى-: الغيبة، والإفك، والبهتان".
فأمَّا الغيبة، فهو أَنْ تَقولَ في أخيك ما هو فيه.
وأما الإِفْكُ، فأَنْ تقولَ فيه ما بَلَغَكَ عنه.
وأما البُهْتَانُ، فأَنْ تَقولَ فيه ما ليس فيه".
أيها المسلمون: في كل زَمانٍ ومكانٍ يُوجدُ مَنْ يُثِيرُ الشائعاتِ والأَخبارَ التي لا زِمَامَ لها ولا خِطام.
كما يُوجَدُ الكثيرُ مِمن يُصْغي لها ويُصَدِّقُها ويَبْني عليها، ورُبَّما رَدَّدَها وتَلَقَّاها فأَلقاها على غيره، دُونَ تَثَبُّتٍ ورَويَّةٍ، (وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ).
أيها المسلمون: في كُلِّ زَمانٍ ومَكان يُوجدُ كثيرون غَيرُ قليلين من الناس ينْقَادُون بسهولة وبلا أَيِّ مَشَقَّة لأقوالٍ مَسْمومةٍ واتهاماتٍ فَجّةٍ، ويَسارعون في تصديقها وربما طاروا بها وأشاعوها، أولئك الرَّعَاعُ وبُسَطَاءُ العَقل ومحدودو التفكير.
أولئك الذين لا يعلمون خطر اللسان وأن المرء يدخل النار بسبب كلمة واحدة (وهَلْ يَكُبُّ الناسَ في النارِ على وجوههم إلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهم) (أخرجه الترمذي والنسائي)
ويقول الله: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
أَلَا فَلْيَنْتَهِ كُلُّ عاقلٍ وكلُّ مُسلم يُريدُ نَجَاةَ نَفْسِه عن القيل والقالِ وتَصديقِ كلِّ ما يُقالُ، فليسَ أسْلَمَ للمسلم من حِفظِ لسانِه ويَدِه، وصدق الله إذ يقول مُحَذِّراً عِبادَه: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)
ثم قال ربنا في آيات الإفك: (يعظكم الله أن تعودوا لمثله)
ما أَعْظَمَه من عِتابٍ وما أعظمه من تَوجيهٍ، وما أَزْكَاها من تربيةٍ ربانيةٍ للبشرية فسبحان اللطيف الرحيم العليم الخبير.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد للهِ مُعِزِّ مَنْ أَطَاعه، ومُذلِّ مَنْ عصاه، والصلاة والسلام على نبيه ومصطفاه، وعلى آله وصحبه ومَنْ والاه، أما بعد:
فأيها المسلمون: إنّ للشائعاتِ أَثَرَاً وتأثيراً في الأفراد والمجتمع كلِّه، بل خَطَرُها على الدُّولِ والأُمم كذلك، فهي تُزَعْزِعُ الأَمْنَ وتُثيرُ القَلَقَ، وتُوهِنُ الصِّلةَ بين الراعي والرعية، فما الذي جَمَّعَ الأَحزابَ على دولة الإسلام في المدينة، وما الذي أَلَّبَ الرعاع في فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه، وما الذي أَوْهَنَ قلوبَ المسلمين في أُحدٍ حِين أًشيعَ مَقتلُ النبي صلى الله عليه وسلم!
كَمْ تَهَدَّمَتْ بالشائعاتِ مِن بُيوتٍ وتَفَرَّقَتْ أُسَرٌ وتَبَاغَضَ خِلَّانٌ وانْفَضَّتْ عُرى الصَّداقة، كَم قُدِحَ في أَعراضٍ غارةٍ غافلةٍ، وكم تَلَّوَثَتْ سُمعةٌ نَزِيهةٌ بسبب أَخبارٍ مَصْدرُها: يَقُولون، أو تغريدةٌ، أو رسالةٌ مكتوبةٌ لا يُعرفُ مَصْدرُها ولا مَنْ قَالها ولا مَنْ كَتَبها ولا مَنْ أَرْسَلَها، ورُبَّ كلمةٍ قَالت لصاحبها: دَعْني.
ويَعْظُمُ الإثم ويَشْتدَّ الخَطْبُ إذا كانت الشائعاتُ تُلاكُ فيمَن هُم في مَراكز الثِقةِ وأُولي الرأي من الناصحين والمفكرين وأُولي الأمر والمُؤثرين في الناس.
أيها المسلمون:
إنّ الحَلَّ الأَمْثلَ عند سِماعِ الأَخبارِ والتقاطِ أحَاديثِ المجالسِ أَنْ تَجْعَلها في حَيِّزِ المُحْتَمِلاتِ وأَحاديثِ المَجالسِ التي لا تُصَدَّقُ ولا تكذب، مع تقديمِ النصيحةِ لأولئك المُتَقوِّلون والمُتَصدرون للأَحاديثِ أَنْ يَتَّقوا اللهَ عز وجل وأَنْ يَحفظوا أَلسنتهم، وسؤالِهم عن مصدرهم في نقلِ هذه الأحاديث، حِينها لا يَجدُ أمثالُ هَؤلاءِ مَفرَّاً من السكوتِ والتزامِ الصَّمْتِ أو التثبت، ولكنهم للأسف وجدوا آذاناً صاغية، وقلوباً خاوية! (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبْحَانَكَ هَٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ)
ثانياً: إيَّاكَ ثُمَّ إيّاكَ أَنْ تَنْقُلَ ما سَمِعتَ إلى غَيرك، فرُّبما كان كَذِباً ورُبما كان وَهْمَاً أو خَطئاً فَتَنْقُلُه إلى غيرك فيَبْلُغُ الأَفاقَ خَاصةً ما يُنْشرُ في ظِل وسائلِ التواصل الحديثة والأجهزة الذكية وفي الحديث: (أنّ النبيَّ ﷺ قال: "رَأيتُ الليلةَ رَجُلينِ أَتَيَاني، قالا: الذي رَأَيتَه يُشَقُّ شِدْقُه فَكَذَّابٌ، يَكْذِبُ بالكَذْبَةِ، تُحْمَلُ عنه حتى تَبْلُغَ الآفاق، فيُصْنَعُ به إلى يوم القيامة) (أخرجه البخاري)، وفي الحديث: (كَفَى بالمَرْءِ كَذِبًا أنْ يُحَدِّثَ بكُلِّ ما سَمِعَ) (أخرجه أبو داود وابن حبان، وصححه ابن حجر)
فإنْ كان هذا الحديث يَعْنِيكَ فاعْرِضْه على ميزان التَّثَبت والتَّبيُّن ولا تَحْكم حتى تَتَحقَّق، واجعل هذه الآية نُصب عينيك: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ).
فإن كان اتَّهاماً لأحدٍ أَو فريةً في شَخصٍ فالواجب أن تَظُنَّ بأخيك المسلم خَيراً. دَخَل أبو أيوب الأنصاريُّ دَارَهُ، فقالت له زوجتُه: أما تسمعُ ما يقولُ الناسُ في عائشة؟! فقال: نعَم، وذلك الكَذِب، ثم قال: أكنتِ فاعلةً ذلك، يا أُمَّ أيُّوب؟ يعني الوقوع في الفتنة، قالت: لا والله، فقال: فعائشةُ واللهِ خيرٌ منكِ وأطيب) (أخرجه البخاري ومسلم) وهكذا ينبغي أنْ نَحْملَ المسلمين على أَحْسنَ المحامل، وهذا هو الأصل في المسلمين، وقد دَلَّ على هذا الأدبِ قولُه تعالى: (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ).
أخَ الإسلام: طَهِّر لسَانَكَ وَنَزِّه قَلْبَك وَصُنْ سَمْعَك عن الاستماع لأَحاديث تَلَغُ في أَعْراضِ الناس، وهذا شأن المسلم أَبداً. وَتَرَفَّعْ عن أحاديثِ المجالس، وقَدْ أَفْلَحَ مَنْ صَانَ لسَانَه وخَاب مَنْ أَطْلَقَه، وفي الحديث: (إنّ العبدَ ليَتَكلّمُ بالكلمةِ ما يَتَبيّنُ ما فيها يَهْوي بِهَا في النارِ أَبْعَدَ ما بين المشرق والمغرب) وفي رواية: (إنّ العبدَ ليتكلمُ بالكلمةِ لا يَرَى بِها بَأساً يَهْوي بِها سِبعينَ خَريفاً في النار)، وهذا أَدَبٌ رَفيعٌ ومَنْهجٌ قَويمٌ للمؤمنين. قالت عائشة رضي الله عنها: (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُ زَينبَ ابنةَ جَحْشٍ عن أَمْري فقال: يا زَيْنبُ ماذا عَلمِتِ أو رَأيتِ؟ فقالت: يا رسولَ اللهِ أَحْمِي سَمْعي وَبَصَري ما عَلِمت إلا خيراً) (أخرجه البخاري ومسلم)
اللهم احفظ أسماعنا وأبصارنا وألسنتنا عن الحرام، وصن جوارحنا عن الآثام
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة الحق في الرضى والغضب، ونسألك حبك وحب العمل الصالح الذي يقربنا إلى حبك
اللهم وفقنا لتقواك واجعلنا نخشاك كأنا نراك
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئنا سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الحمد لله الذي أَحاطَ بكل شيءٍ خُبراً، وجعل لكل شيء قَدَرَاً، وأَسْبغَ على الخلائق من حفظه سِتْراً. أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أَنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وأشهد أنَّ سَيدَنَا ونبيَنا محمداً عبدُه ورسولُه، أَرْسَلَه إلى الناس كافَّةً عُذْراً ونُذْرَاً. صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه الذين أَخْلَدَ اللهُ لهم ذِكراً، وأَعْظَمَ لهم أَجْراً، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم يُجزى الظالمون خزياً، ويُجزى المتقون ذُخراً، ثم أما بعد:
فيا أيها المسلمون: أوصيكم بتقوى الله فإنها خيرُ الوصايا من رب البرايا، فاتقوه والزموا عَتَبةَ التقوى تَنَالوا بها الرِّفعةَ والسعادةَ في الدنيا والأخرى.
مَعَاشرَ مَنْ آمن بالله:
مِمَّا قَصَّه اللهُ علينا في مُحْكمِ كتابه وبليغِ خِطابه حَادثةٌ من أَشَدِّ الحوادثِ وَقْعَاً في نفوس المجتمع المسلم في عصر النبوة، وفاجعةٌ أَثْقَلَتْ قَلبَ النبي صلى الله عليه وسلم، وحَزِنَ لها المؤمنون حتى أَظْلمت المدينةُ منها، لشَنَاعتها وفظاعتها، تقول عائشة رضي الله عنها واصفةً وَقْعَها في قلبها، وهي صاحبةُ القِصةِ قالت: (وَقَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا لَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ وَلَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ حَتَّى إِنِّي لَأَظُنُّ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي) (أخرجه البخاري ومسلم)
إنها حادثةُ الإفكِ، وما أَدْراكَ ما حادثةُ الإفك! التي خَلَّدَ ذكرَهَا القرآنُ وسَطَّرها في عَشرِ آياتٍ تُتْلَى إلى يوم الدين، لتكون للمسلمين دُسْتوراً يًتعلمون منه، ونِبْراساً يًهْتدون به، على مَرِّ العصور وتعاقب الأزمان.
حادثةٌ كاسْمِهَا، إفْكٌ وافْتَراءٌ، وقَذْفٌ وتَشْويهٌ لمقام النبوة العَليّ، وإنك لتَعْجَبُ من هذه القصةِ التي وقعت أحداثها في وقتِ تَنَزُّلِ الوَحي، وكان اللهُ قَادِراً أَنْ يُنْزلَ وَحْيه فيها بعدها بيومٍ أو يومين، ولكن لِحِكْمةٍ ربانيةٍ وسِرٍّ إلهي، فَقَدِ انْحَبَسَ الوحيُ ما يَنِيفُ عن الشهر كاملاً، حتى سُرِّيَ عن رسولِ الله وتَنَفَّس المؤمنون فَرَحَاً واستبشاراً، ونَزَلَ الوحي ببراءة عائشة أمِّ المؤمنين مما أَتَّهَمَا به المنافقون من الفاحشة، وطَهَّرَها مما رَمَاها به أَهْلُ الإفكِ والبَهتان فأَنْزَلَ اللهُ عز وجل براءتَها وصيانةَ سَاحتِهَا حِفْظاً لعِرضِ الرسولِ عليه أفضلُ الصلاة والسلام فقال: (إنّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ) أي: جَماعةٌ منكم، يعني: ليس واحداً ولا اثنان بل جماعةٌ، وكان المُقَدَّمُ في هذه اللَّعنة عبدُ اللهِ بنُ أُبيِّ بنِ سَلولٍ رأسُ المنافقين، فإنه كان يَجمعُ الحَديث ويَسْتَوْشِيه، حتى دَخَلَ ذلك في أذهانِ بعض المسلمين، فتكلموا به، وجَوَّزَه آخرون منهم، وبقي الأَمرُ كذلك قريباً من شَهْر، والناس يدوكون فيه ،ويتحدثون فيه في بيوتهم.
في قِصةٍ حَدَثتْ تفاصيلُها في غَزوةِ المُرَيْسِيع، وحين انتهَتْ الغَزْوةُ قَفَلَ النبيُّ راجِعَاً إلى المدينة وفي طريقه وأثناءِ نُزولِ الجيش للرَّاحة، فَقَدَتْ عائشةُ عِقْدَاً لها، فَذَهَبَتْ تَلْتَمِسُه وتبحثُ عنه، فلما عَزَمَ الجيشُ على إكمال مَسِيرِه وَبَعَثُوا الْجَمَلَ الذي كان يُقِلُّ عائشةَ، تقول: وَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَمَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ، فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ، فَتَيَمَّمْتُ مَكانيَ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، وَظَنَنْتُ أَنَّ الْقَوْمَ سَيَفْقِدُونِي فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ، وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ قَدْ عَرَّسَ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ وكان رضي الله يتفقد مكان الجيش كلما نزلوا وارتحلوا ، تقول عائشة: فَأَتَانِي فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي، وَقَدْ كَانَ قد رآني قبل نزولِ الْحِجَابِ، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي، فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي، وَوَاللهِ مَا يُكَلِّمُنِي كَلِمَةً وَلَا سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ، حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ، فَوَطِئَ عَلَى يَدِهَا فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِيَ الرَّاحِلَةَ، حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ، بَعْدَمَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ فِي شَأْنِي، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، فَقَدِمْنَا المدينةَ وكان الناس قد خاضوا في حديث أهل الإفك. (أخرجه البخاري ومسلم)
هنا وَجَدَ المنافقون فرصتهم لتلويث عِرضِ الرسول واتَّهامِ عائشة بما هي مِنْهُ بريئةٌ، فاختلقوا الشائعات وتكلموا بَغْيَاً وَعَدْواً، وما أَرَادُوا بذلك إلا تَوْهينَ قَلبِ النبيِّ وَزَعْزَعَةَ قُلوبِ الناسِ في نبيهم وقُدوتِهم وليَصُدوا الناسَ عن دينه، ولم يَتوقّف الحديثُ عند المنافقين فَحَسْب، بل امْتَّدَ ليَتَحَدّث به أُناسٌ من المؤمنين خطئاً منهم وجَهْلاً.
أيها المسلمون: هذه الحادثةُ مليئةٌ بالدروس والعِبر، وكلُّ آيةٍ منها تَوجيهٌ وخَبَر، وهذه الآيات مَدرسةٌ يَسْتَقي المؤمنون منها المنهجَ السَويَّ عند سماع الأخبار، ويَلتقطون آدابَ الحديثِ وآدابَ الاستماع، وفيها من الخير أَنها مدرسةٌ لعبادِ اللهِ المؤمنين أنْ يَتَحَفَّظوا في نَقْلِ الشائعات، وأنْ لا يَعْتنوا بنقل الروايات دُونَ تَثَبت، خاصةً إذا اشتملت تلك الرواياتُ والشائعاتُ على طَعْنٍ في عَبْدٍ مِن عِبادِ الله، فعلى المسلم أنْ يَتقيَ اللهَ عز وجل في إخوانه.
فهذه الحادثة هَذَّبتْ أَلْسِنَةَ المؤمنين، وأَدَّبَتْ عِبادَ اللهِ المتقين، ودَلَّتْهم على ما يَنبغي أنْ يكونوا عليه من سُننِ الدين، ومراعاةِ أعراضِ عبادِ اللهِ المسلمين.
إنّ أهم الدروسِ المستفادةِ من هذه الحادثة التي كان لها وَقْعُها على قَلْب النبيِّ وقلبِ زَوجه وأهله وعلى قلوب الصحابة أجمعين.
إنّ أَهَمَّ الدروسِ الحَيَّةِ والمواعظِ الجليّة: خَطَرُ الشَّائعات.
قصةُ الإفك تُعَلمنا دُروساً في التَّثَبتِ وحِفظِ اللسانِ، وتُبَينُ عِظَمَ خَطَرِه.
قال الحسن رحمه الله: "الغِيبةُ ثلاثةُ أَوْجُهٍ -كلُّها في كتاب ﷲ تعالى-: الغيبة، والإفك، والبهتان".
فأمَّا الغيبة، فهو أَنْ تَقولَ في أخيك ما هو فيه.
وأما الإِفْكُ، فأَنْ تقولَ فيه ما بَلَغَكَ عنه.
وأما البُهْتَانُ، فأَنْ تَقولَ فيه ما ليس فيه".
أيها المسلمون: في كل زَمانٍ ومكانٍ يُوجدُ مَنْ يُثِيرُ الشائعاتِ والأَخبارَ التي لا زِمَامَ لها ولا خِطام.
كما يُوجَدُ الكثيرُ مِمن يُصْغي لها ويُصَدِّقُها ويَبْني عليها، ورُبَّما رَدَّدَها وتَلَقَّاها فأَلقاها على غيره، دُونَ تَثَبُّتٍ ورَويَّةٍ، (وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ).
أيها المسلمون: في كُلِّ زَمانٍ ومَكان يُوجدُ كثيرون غَيرُ قليلين من الناس ينْقَادُون بسهولة وبلا أَيِّ مَشَقَّة لأقوالٍ مَسْمومةٍ واتهاماتٍ فَجّةٍ، ويَسارعون في تصديقها وربما طاروا بها وأشاعوها، أولئك الرَّعَاعُ وبُسَطَاءُ العَقل ومحدودو التفكير.
أولئك الذين لا يعلمون خطر اللسان وأن المرء يدخل النار بسبب كلمة واحدة (وهَلْ يَكُبُّ الناسَ في النارِ على وجوههم إلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهم) (أخرجه الترمذي والنسائي)
ويقول الله: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
أَلَا فَلْيَنْتَهِ كُلُّ عاقلٍ وكلُّ مُسلم يُريدُ نَجَاةَ نَفْسِه عن القيل والقالِ وتَصديقِ كلِّ ما يُقالُ، فليسَ أسْلَمَ للمسلم من حِفظِ لسانِه ويَدِه، وصدق الله إذ يقول مُحَذِّراً عِبادَه: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)
ثم قال ربنا في آيات الإفك: (يعظكم الله أن تعودوا لمثله)
ما أَعْظَمَه من عِتابٍ وما أعظمه من تَوجيهٍ، وما أَزْكَاها من تربيةٍ ربانيةٍ للبشرية فسبحان اللطيف الرحيم العليم الخبير.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد للهِ مُعِزِّ مَنْ أَطَاعه، ومُذلِّ مَنْ عصاه، والصلاة والسلام على نبيه ومصطفاه، وعلى آله وصحبه ومَنْ والاه، أما بعد:
فأيها المسلمون: إنّ للشائعاتِ أَثَرَاً وتأثيراً في الأفراد والمجتمع كلِّه، بل خَطَرُها على الدُّولِ والأُمم كذلك، فهي تُزَعْزِعُ الأَمْنَ وتُثيرُ القَلَقَ، وتُوهِنُ الصِّلةَ بين الراعي والرعية، فما الذي جَمَّعَ الأَحزابَ على دولة الإسلام في المدينة، وما الذي أَلَّبَ الرعاع في فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه، وما الذي أَوْهَنَ قلوبَ المسلمين في أُحدٍ حِين أًشيعَ مَقتلُ النبي صلى الله عليه وسلم!
كَمْ تَهَدَّمَتْ بالشائعاتِ مِن بُيوتٍ وتَفَرَّقَتْ أُسَرٌ وتَبَاغَضَ خِلَّانٌ وانْفَضَّتْ عُرى الصَّداقة، كَم قُدِحَ في أَعراضٍ غارةٍ غافلةٍ، وكم تَلَّوَثَتْ سُمعةٌ نَزِيهةٌ بسبب أَخبارٍ مَصْدرُها: يَقُولون، أو تغريدةٌ، أو رسالةٌ مكتوبةٌ لا يُعرفُ مَصْدرُها ولا مَنْ قَالها ولا مَنْ كَتَبها ولا مَنْ أَرْسَلَها، ورُبَّ كلمةٍ قَالت لصاحبها: دَعْني.
ويَعْظُمُ الإثم ويَشْتدَّ الخَطْبُ إذا كانت الشائعاتُ تُلاكُ فيمَن هُم في مَراكز الثِقةِ وأُولي الرأي من الناصحين والمفكرين وأُولي الأمر والمُؤثرين في الناس.
أيها المسلمون:
إنّ الحَلَّ الأَمْثلَ عند سِماعِ الأَخبارِ والتقاطِ أحَاديثِ المجالسِ أَنْ تَجْعَلها في حَيِّزِ المُحْتَمِلاتِ وأَحاديثِ المَجالسِ التي لا تُصَدَّقُ ولا تكذب، مع تقديمِ النصيحةِ لأولئك المُتَقوِّلون والمُتَصدرون للأَحاديثِ أَنْ يَتَّقوا اللهَ عز وجل وأَنْ يَحفظوا أَلسنتهم، وسؤالِهم عن مصدرهم في نقلِ هذه الأحاديث، حِينها لا يَجدُ أمثالُ هَؤلاءِ مَفرَّاً من السكوتِ والتزامِ الصَّمْتِ أو التثبت، ولكنهم للأسف وجدوا آذاناً صاغية، وقلوباً خاوية! (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبْحَانَكَ هَٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ)
ثانياً: إيَّاكَ ثُمَّ إيّاكَ أَنْ تَنْقُلَ ما سَمِعتَ إلى غَيرك، فرُّبما كان كَذِباً ورُبما كان وَهْمَاً أو خَطئاً فَتَنْقُلُه إلى غيرك فيَبْلُغُ الأَفاقَ خَاصةً ما يُنْشرُ في ظِل وسائلِ التواصل الحديثة والأجهزة الذكية وفي الحديث: (أنّ النبيَّ ﷺ قال: "رَأيتُ الليلةَ رَجُلينِ أَتَيَاني، قالا: الذي رَأَيتَه يُشَقُّ شِدْقُه فَكَذَّابٌ، يَكْذِبُ بالكَذْبَةِ، تُحْمَلُ عنه حتى تَبْلُغَ الآفاق، فيُصْنَعُ به إلى يوم القيامة) (أخرجه البخاري)، وفي الحديث: (كَفَى بالمَرْءِ كَذِبًا أنْ يُحَدِّثَ بكُلِّ ما سَمِعَ) (أخرجه أبو داود وابن حبان، وصححه ابن حجر)
فإنْ كان هذا الحديث يَعْنِيكَ فاعْرِضْه على ميزان التَّثَبت والتَّبيُّن ولا تَحْكم حتى تَتَحقَّق، واجعل هذه الآية نُصب عينيك: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ).
فإن كان اتَّهاماً لأحدٍ أَو فريةً في شَخصٍ فالواجب أن تَظُنَّ بأخيك المسلم خَيراً. دَخَل أبو أيوب الأنصاريُّ دَارَهُ، فقالت له زوجتُه: أما تسمعُ ما يقولُ الناسُ في عائشة؟! فقال: نعَم، وذلك الكَذِب، ثم قال: أكنتِ فاعلةً ذلك، يا أُمَّ أيُّوب؟ يعني الوقوع في الفتنة، قالت: لا والله، فقال: فعائشةُ واللهِ خيرٌ منكِ وأطيب) (أخرجه البخاري ومسلم) وهكذا ينبغي أنْ نَحْملَ المسلمين على أَحْسنَ المحامل، وهذا هو الأصل في المسلمين، وقد دَلَّ على هذا الأدبِ قولُه تعالى: (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ).
أخَ الإسلام: طَهِّر لسَانَكَ وَنَزِّه قَلْبَك وَصُنْ سَمْعَك عن الاستماع لأَحاديث تَلَغُ في أَعْراضِ الناس، وهذا شأن المسلم أَبداً. وَتَرَفَّعْ عن أحاديثِ المجالس، وقَدْ أَفْلَحَ مَنْ صَانَ لسَانَه وخَاب مَنْ أَطْلَقَه، وفي الحديث: (إنّ العبدَ ليَتَكلّمُ بالكلمةِ ما يَتَبيّنُ ما فيها يَهْوي بِهَا في النارِ أَبْعَدَ ما بين المشرق والمغرب) وفي رواية: (إنّ العبدَ ليتكلمُ بالكلمةِ لا يَرَى بِها بَأساً يَهْوي بِها سِبعينَ خَريفاً في النار)، وهذا أَدَبٌ رَفيعٌ ومَنْهجٌ قَويمٌ للمؤمنين. قالت عائشة رضي الله عنها: (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُ زَينبَ ابنةَ جَحْشٍ عن أَمْري فقال: يا زَيْنبُ ماذا عَلمِتِ أو رَأيتِ؟ فقالت: يا رسولَ اللهِ أَحْمِي سَمْعي وَبَصَري ما عَلِمت إلا خيراً) (أخرجه البخاري ومسلم)
اللهم احفظ أسماعنا وأبصارنا وألسنتنا عن الحرام، وصن جوارحنا عن الآثام
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة الحق في الرضى والغضب، ونسألك حبك وحب العمل الصالح الذي يقربنا إلى حبك
اللهم وفقنا لتقواك واجعلنا نخشاك كأنا نراك
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئنا سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المرفقات
1752743834_حديث الإفك، والدرس المستفاد.pdf