خطبة تدبر سورتي الشمس والليل
محمد المطري
الحمد لله العلي الأعلى، الذي خلق فسوَّى، والذي قدَّر فهدى، أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنتدبر معكم في هذه الخطبة الأولى سورة الشمس، يقول الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] أي: أُقسِم بالشمس وضوئها. {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} [الشمس: 2] أي: وأُقسِم بالقمر إذا تبع الشمس في الإضاءة وفي السير بعدها. {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} [الشمس: 3] أي: وأُقسِم بالنهار إذا أضاء الأرض بنوره. {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} [الشمس: 4] أي: وأُقسِم بالليل إذا يغطي الأرض بظلامه. {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5] أي: وأُقسِم بالسماء، وأُقسِم بالله الذي بناها. {وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} [الشمس: 6] أي: وأُقسِم بالأرض، وأُقسِم بالله الذي بسطها ووسَّعها. {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7] أي: وأُقسِم بكل نفسٍ، وأُقسِم بالله الذي خلقها بإتقان، فعدَّل أعضاء الإنسان، وخلقه على الفطرة، وأنعم عليه بالعقل، وجعله قابلا لمعرفة ما ينفعه في دينه ودنياه. {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8] أي: فبين الله لكل نفسٍ طريقَ الخير لتسلُكَه، وطريقَ الشر لتجتنبَه، وعرَّفها الحق بفطرتها وبإرسال الرسل وإنزال الكتب، فاهتدت إلى الحق بتوفيقه، أو ضلت عن الحق بخُذلانه، كما قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3]، وكان رسول الله ﷺ يقول في دعائه: «اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها».
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9] هذا هو جواب القسم، أي: قد فاز بالنجاة من النار والخلود في الجنة من طهَّر نفسه من الكفر والمعاصي والأخلاق السيئة، ونمَّاها وعظَّمها وشرَّفها بالإيمان والعلم النافع والأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة. كما قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14، 15]. {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 10] أي: وقد خسر وشقي بدخول النار من أخفى نفسه وحقَّرها بالكفر والمعاصي، ودنَّسها بالذنوب والعيوب، ولم يُشرِّف نفسه بطاعة الله سبحانه. فعلينا أيها المسلمون أن نتقى الله ونزكي أنفسنا بطاعته ونترك معصيته، ويجب علينا أن نخاف بطش الله وعذابه، قال الله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} [الشمس: 11] أي: كذَّبت أمةُ ثمودَ بالحق الذي جاءهم به رسولهم صالح، بسبب طغيانهم الذي جاوزوا فيه الحد. {إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} [الشمس: 12] أي: حين نهض أشقى ثمودَ لعقر الناقة التي جعلها الله لهم آية وفتنة كما قال تعالى: {إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ * وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ * فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} [القمر: 27 - 29].
{فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس: 13] أي: فقال لهم رسول الله صالح عليه الصلاة والسلام: احذروا ناقة الله أن تمسوها بسوء، واحذروا أن تمنعوها من الشرب في يومها الذي جعله الله نصيبا لها، حين قسم الماء بينكم وبينها.
{فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} [الشمس: 14] أي: فكذَّب كفار ثمودَ نبيَهم صالحا فيما جاءهم به من الحق، وما توعدهم به من العذاب، فقتلوا الناقة كفرا وعنادا. وقد نسب الله عقرَ الناقةِ إلى جميع ِكفارِ ثمودَ - وإن كان عاقرها واحدا - لأنهم رضوا بفعله، فصاروا كالفاعلين لهذا الذنب، فمن رضي بالمعصية فهو كمن عملها، فيجب الحذر من الرضا بالكفر والمعاصي.
{فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} [الشمس: 14] أي: فأطبق الله على أمة ثمودَ العقوبةَ بسبب كفرهم وعقرهم الناقة، فسوى الهلاكَ على جميعهم، كبارِهم وصغارِهم، أغنيائهم وفقرائهم، ذكورِهم وإناثِهم، فلم ينج منهم أحدٌ إلا المؤمنين. والمراد بهذه الدمدمةِ الصيحةُ التي أُهلكوا بها.
{وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس: 15] أي: ولا يخاف الله عاقبةَ إهلاكِ جميعِ أمةِ ثمودَ، فهو العزيز القهار القوي الذي لا يخشى أحدا.
فثمود أمةٌ عظيمة، لا يعلم عددَهم إلا اللهُ سبحانه، كانوا أشد منا قوة، ومن قوتهم أنهم كانوا ينحِتون من الجبال بيوتا آمنين، فأهلكهم الله أجمعين، ولم يبال بهم، ولا يخافُ أن يسأله أحدٌ عنهم. قال الله سبحانه عن ثمود: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [النمل: 52].
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم وجميع المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وسلام على عباد الله الصالحين المتقين، أما بعد:
فنتدبر في هذه الخطبة الثانية سورة الليل، يقول الله تعالى:
يقول الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] أي: أُقسِم بالليل إذا يغطي الأرض ومن عليها بظلامه. {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل: 2] أي: وأُقسِم بالنهار إذا ظهر للخلق بنوره.
{وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [الليل: 3] أي: وأُقسِم بالله الذي خلق الذكر والأنثى بقدرته. أقسم الله بالليل والنهار، وهما مختلفان، وبالذكر والأنثى وهما مختلفان، على أن سعي الناس مختلف فقال: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 4] أي: إن أعمالكم - أيها الناس - لمختلفةٌ أشد الاختلاف، فمنكم المؤمن والكافر، ومنكم المطيع والعاصي، ومنكم المهتدي والضال، ومنكم المخلص والمرائي، ومنكم المتَّبع والمبتدع.
{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل: 5] أي: فأما من أعطى ما أمره الله بإعطائه من الزكاة والنفقات والصدقات، وسائر الواجبات الاعتقادية والقولية والفعلية، واتقى الله بترك المحرمات الظاهرة والباطنة. {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل: 6] أي: وصدَّق بالتوحيد وأركان الإيمان، ومن ذلك التصديقُ بالجنة. {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 7] أي: من أعطى الواجبات واتقى المحرمات وصدَّق بالحق فسنسهل له أمور دينه ودنياه في جميع أحواله، فمن أراد أن يسهل الله أموره، فليتصدق، وليتقي الله، وليحقق الإيمان، وليبشِر بالخير العظيم في الدنيا والآخرة، كما وعد الله بذلك في كتابه في آيات كثيرة، كقوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97]، وقوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]، وقوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4].
{وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} [الليل: 8] أي: وأما من بخل بما أمره الله من الزكاة والنفقات والصدقات، واستغنى بماله وشهوات الدنيا عن الله وعبادته، وأصر على ضلاله. {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} [الليل: 9] أي: وكذَّب بالتوحيد والإيمان، وكذَّب بالجنة. {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 10] أي: من بخل واستغنى عن الله فسنعسر عليه فعل الخير الذي ينفعه في دينه ودنياه وآخرته، فلا يوفقه الله إلى الإيمان والأعمال الصالحة، ويَخذُله، ويسلط عليه شياطين الإنس والجن.
{وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل: 11] يعني: وأيُّ شيء يدفع عن الكافر مالُه الذي بخل به وأعرض بسببه عن عبادة الله إذا مات، وسقط يوم القيامة في جهنم؟!
{إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} [الليل: 12] أي: إن علينا أن نبين الهدى من الضلال بإنزال الكتب وإرسال الرسل، فقد بين الله الصراط المستقيم الموصلَ إلى الله وإلى جنته.
{وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} [الليل: 13] أي: وإن لنا الآخرة والدنيا، فنعطي خير الدنيا والآخرة من نشاء، ونمنعه عمن نشاء، فمن أراد خير الدنيا والآخرة فليسأل الله سبحانه، فهو مالكُهما، والمتصرفُ فيهما بقدرته ومشيئته وحكمته.
{فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14] أي: فحذَّرتكم - أيها الناس - نار جهنم التي تشتعل، فاحذروا الكفر والمعاصي حتى لا تدخلوا النار بسبب ذنوبكم.
{لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل: 15، 16] أي: لا يدخلُ نار جهنم خالدا فيها أبدا، وتُحيطُ به من جميع جوانبه، إلا الكافرُ الشقي الذي كذَّب بالحق، فلم يؤمن بالله وآياته، وتولى عن طاعة الله وطاعة رسوله.
{وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} [الليل: 17] أي: وسيُباعد عن النار المؤمنُ الذي اتقى الله بفعل الواجبات، واجتناب المحرمات، قال المفسرون: المراد بالأتقى في هذه الآية أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهي تعم كل من آمن واتقى.
{الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل: 18] أي: الذي يقيه الله عذابَ جهنم هو الذي يتصدقُ من ماله بإخلاص، من أجل أن يزكي نفسه بالطاعات، ويتطهر من السيئات.
{وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل: 19] أي: وليس إنفاقُه ليكافئَ من أحسن إليه من الناس، بل هو مخلص في صدقاته، لا يريد من الذين يحسن إليهم جزاء ولا شكورا، وليس لأحد من الخلق عليه نعمة تُجزى إلا وقد كافأه عليها.
{إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل: 20] أي: لكن ينفق أمواله يبتغي بذلك وجه ربه الأعلى؛ ليرضى عنه، ويدخله جنته.
{وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 21] أي: وأُقسِم لسوف يرضى أبو بكر المتقي المتصدق حين يُدخله الله جنته، ويُثيبه الثواب العظيم على تقواه وصدقاته. وقد أجمع المفسرون على أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وحكمها عام لكل من اتقى الله، وتصدق من ماله بإخلاص.
وأبو بكر الصديق هو أول من أسلم من الرجال، وهو الصحابي الوحيد الذي ذكره الله بصحبة نبيه في القرآن، قال الله سبحانه: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، قال له النبي عليه الصلاة والسلام حين خاف أن يرى المشركون رسول الله وهو في غار ثور: (لا تحزن إن الله معنا)، ولم يقل: إن الله معي فقط، فالله مع رسوله ومع أبي بكر بالحفظ والنصر والتأييد، فهذه الآية الثانية التي أجمع المفسرون أنها نزلت في أبي بكر، وفيها شرف عظيم له، وأنه ثاني اثنين، وتوجد آية ثالثة أجمع المفسرون أنها نزلت في أبي بكر، وهي قوله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]، وذلك حين حلف أبو بكر أن يترك النفقة على مِسْطح بن أُثاثة حين خاض مع أهل الإفك في أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها، وكان ينفق عليه أبو بكر لكونه من أقاربه، وكان مسكينًا من المهاجرين، فأنزل الله هذه الآية، فقال أبو بكر: (بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي)، فرجع إلى الإنفاق على مِسْطح رضي الله عنه، ومعنى الآية: ولا يحلف أهل الفضل في الدِّين وأصحاب السَّعة في المال على ترك إعطاء أقربائهم المحتاجين، فأخبر الله تعالى أن أبا بكر من أهل الفضل في الدين، وهذه منقبة عظيمة لأبي بكر رضي الله عنه.
وفضائل أبي بكر كثيرة، وهو أكثر صحابي صَحِب النبي عليه الصلاة والسلام، فقد صَحِبه في مكة 13 سنة قبل الهجرة، ثم صَحِبه في هجرته، وصَحِب النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة حضرًا وسفرًا، وكان ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد وغزوة حنين حين ولى الناس، وكان أبو بكر من أعلم الصحابة بالقرآن الكريم والسنة النبوية، وكان فقيها عالمًا بالقضاء والأنساب وتعبير الرؤى، وكان من الخطباء، وكان من العُبَّاد الزُّهَّاد، شديد الورع، كثير البكاء من خشية الله، وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم جميع غزواته، وأمَّره النبي عليه الصلاة والسلام على الحج سنة 9 للهجرة، وفي مرض موته اختاره ليصلي بالناس دون غيره، وحين توفي النبي صلى الله عليه وسلم شك بعض الصحابة في موته فقال أبو بكر: (من كان يعبد محمدًا صلى الله عليه وسلم فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، فأتاهم عمر فقال: ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمَّر أبا بكر فأمَّ الناس، فأيكم تطيب نفسُه أن يتقدم أبا بكر؟! فقالوا: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر رضي الله عنه.
وبايع علي بن أبي طالب رضي الله عنه أبا بكر الصديق، وكان من وزرائه ومستشاريه، وكان يعرف فضل أبي بكر، وصح عنه أنه قال: (خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر)، وقال ابنه محمد ابن الحنفية: قلت لأبي: أيُّ الناس خيرٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: (أبو بكر)، قلت: ثم من؟ قال: (ثم عمر).
وأبو بكر الصديق أول الخلفاء الراشدين، وأول من أمر بجمع المصحف الشريف، وأول من أمر بالجهاد بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام، فحين ارتد كثير من العرب بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام ومنع بعضهم الزكاة جهَّز أبو بكر الصديق الجيوش لقتالهم، وبعد أن انتصر عليهم ورجع غالب المرتدين إلى الإسلام جهَّز أبو بكر الجيوش لغزو فارس والروم، فهو أول من بدأ الفتوح الإسلامية التي استمرت بعد موته، وله أجرها وأجر من أسلم في تلك البلدان، كما له أجر جمع القرآن الكريم في المصاحف وأجر من تلا القرآن وتعلمه إلى يوم القيامة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والإمام أبو بكر هو الثاني في الإسلام، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو الأول، وأبو بكر هو الثاني كما قال الله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ}، فكان في حياة النبي عليه الصلاة والسلام الثاني، وبعد موت النبي كان هو الثاني في القيام بالإمامة وأمر الأمة، وسُمِّي خليفة رسول الله ولم يُسمَّ بذلك أحدٌ سواه، فهو إمام المسلمين بعد رسول الله، واستمر خليفة سنتين وثلاثة أشهر، وتوفي أبو بكر الصديق رضي الله عنه في المدينة النبوية سنة 13 للهجرة، وعمره 63 عامًا كعُمْرِ النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يترك دينارًا ولا درهمًا، ودُفِن بجانب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبره هو القبر الثاني، اختاره الله لصحبة نبيه في حياته ومجاورته بعد موته، فلا أحد أقرب منه من النبي صلى الله عليه وسلم لا في حياته ولا بعد موته، ويوم القيامة يُبعث من نفس البقعة التي يَبعث الله منها نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم، فيكون أقربَ الناس من النبي عليه الصلاة والسلام يوم القيامة، فهو صاحب النبي عليه الصلاة والسلام في الدنيا والآخرة، رضي الله عنه وأرضاه، وصدق الله في قوله: {ولسوف يرضى}.
اللهم ارض عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وجميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم بارك لنا في القرآن العظيم، وارزقنا تلاوته وتدبره والعمل به، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، وألِّف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم عليك بالكفرة والظالمين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، انتقم منهم يا عزيز يا جبار، واكف المسلمين شرهم يا رحيم يا رحمن، فإنك على كل شيء قدير، وأنت فعال لما تريد، وأنت أحكم الحاكمين، وأنت علام الغيوب، سبحانك لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
المرفقات
1752295772_خطبة تدبر سورتي الشمس والليل.docx
1752295773_خطبة تدبر سورتي الشمس والليل.pdf