خطر الغلو و أثره على التوحيد

خطر الغلو و أثره على التوحيد

الخطبة الأولى

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ . صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا . أمّا بعد :-

فأوصيكم ونفسي بتقوى الله ، فهي وصية الله للأولين والآخرين .

عباد الله : الله جلَّ وعلا : ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [التوبة:33] ، وجعل دينه دينًا وسطًا خِيرًا بين الأمم والأديان ، فقال سبحانه : ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة:143] ، وخصَّ هذا الدين بالسماحة والرفق واليسر في أصوله وشرائعه وآدابه ، وأمر الناس بسلوك منهج الصالحين ، سبيل الحق الواضح المبين ، بلا إفراطٍ ولا تفريط ، ونهاهم عن الغلو في الدين ؛ وهو مُجاوزةَ الحدِّ في أمورِ الدِّينِ ، والتَّشدُّدَ فيه بالإفراطِ والزيادة ، كما نهى الأمم السابقة فقال سبحانه وتعالى لأهل الكتاب وهو لهم ولغيرهم : ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ﴾ [المائدة:77] . ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أمته عن الغُلو ، فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ ، فَإِنَّما أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ » [صحيح رواه ابن ماجه والنسائي وأحمد] . أي : لمَّا بالَغوا في دِينِهم وشدَّدوا فيه ، أصابَتْهم الهَلكةُ في دِينِهم بالتَّحريفِ والضَّياعِ عن أصْلِ الدِّينِ .  والنَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم حذَّرَنا مِن البِدَعِ والغُلوِّ في الدِّينِ ؛ لأنَّ ذلك يُؤدِّي إلى إفسادِ المجتمَعاتِ ، وربَّما أدَّى التَّشدُّدُ مع عدَمِ الفِقهِ في الدِّينِ إلى تَبْديعِ وتكفيرِ المُجتمَعاتِ المسلِمةِ ، والخروجِ على الحُكَّامِ بغيرِ وجهِ حقٍّ . كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم أمته عن التَّشَدُد والتَّنَطُّع ،  فَعَنِ ابنِ مَسْعودٍ رَضْيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال : «هَلَكَ المُتنَطِّعونَ» قالها ثلاثًا . رواه مسلم . و المُتنَطِّعونَ : هم المتشددون في أمورهم الدينية والدنيوية . ومعناه : الزيادة على ما شرعه الله ، ومن ذلك : البناء على القبور ، واتخاذ المساجد عليها ، والصلاة عندها ، هذا زيادة على ما شرع الله ، شرع الله زيارتها ، والدعاء لأهلها بالمغفرة والرحمة ، أما كونه يبني عليها مساجد ، أو قباب هذا من الغلو ومن وسائل الشرك ومحرم ، والرسول ﷺ أنكر ذلك ، ولعن اليهود والنصارى على فعل ذلك . فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ : « لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ » . قالَتْ : فَلَوْلَا ذَاكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ ، غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ - أَوْ خُشِيَ - أَنَّ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا "  رواه البخاري ومسلم . فنهَى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أُمَّتَه عن مُشابَهةِ ذلك الفِعلِ ؛ لأنَّه مِن فِعلِ اليهودِ والنَّصارى ، ولأنَّه ذَريعةٌ مُوصِلةٌ للشِّركِ باللهِ .

عباد الله : إن الغلو والتشدد والتنطع من سمات التطرف الذي يسلك فيه الغالي مسلكًا خطيرًا في فهم النصوص الشرعية والسنن النبوية ويتكلف عند العمل حتى يتجاوز الحد . وهذا من مداخل الشيطان وخطواته ؛ ليفتن الناس عن دينهم ، حتى رأينا اليوم من شباب الإسلام من فتنه الشيطان وغرَّه فهمه القاصر والناقص للدين ، فغلى في فهمه وتطبيقه فلم يقبل رشدًا، ولم يسمع نصحًا، ولم يرجع للراسخين في العلم ، فصرفه ذلك عن الحق والعدل . وقد حصل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم نوع غلوٍ ، إلا أنه عليه الصلاة والسلام عالجه وواجهه بالنصح والتوجيه ثم بالتحذير والتخويف ، ففي الصحيحين عن أنس بن مالكٍ رضي الله تعالى عنه أنه قال : جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إلى بُيُوتِ أزْوَاجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، يَسْأَلُونَ عن عِبَادَةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأنَّهُمْ تَقَالُّوهَا ، فَقالوا : وأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، قدْ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ ، قالَ أحَدُهُمْ : أمَّا أنَا فإنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أبَدًا ، وقالَ آخَرُ : أنَا أصُومُ الدَّهْرَ ولَا أُفْطِرُ ، وقالَ آخَرُ : أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فلا أتَزَوَّجُ أبَدًا ، فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليهِم ، فَقالَ : « أنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا ، أَمَا واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له ، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي » متفق عليه . نسأل الله عزَّ وجلَّ الهداية والرشاد لشبابنا وأبنائنا ، وأن يديم أمننا ويقوي إيماننا ، ويحفظ بلادنا وسائر بلاد المسلمين . أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على فضله وإحسانه ، وأشكره على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيرا . أما بعد :-

عباد الله : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصًا على توجيه أمته ونصحها ، فشدد في تحذيرها من خطر التطرف والغلو حتى لا تقع فيه كما وقعت الأمم السابقة.  روى أبو داود في سننه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : « لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ ، فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللهُ عَلَيْهِمْ ، فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارِ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ». فهذا نهي عن التشدد في الدين ؛ فالله سبحانه وتعالى جعل الدين سهلًا سمحًا ، فعلى شبابنا اليوم ، وعلى كل من غرَّه وفتنه الشيطان ، ورفقاء السوء والهوى بفتنة التطرف والغلو والخروج أن يستمعوا إلى نصح العلماء الربانيين ، وتوجيه الفضلاء المخلصين ، والعقلاء المتزنين ، فدين الله تعالى يسرٌ في كل تشريعاته وأحكامه وآدابه ، عَنْ أبي هُريرةَ رضْيَ اللهُ عنه عَنِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال :  « إنَّ الدِّينَ يُسرٌ ، ولن يُشادَّ الدِّينَ أحَدٌ إلَّا غلَبه » رواه البخاري .

عباد الله : الغلو هو أول خطوات الانحراف عن الدين القويم والوقوع في الشرك العظيم ،  ومن أعظم أنواع الغلو ، الغلو في الصالحين ، وذلك أنهم يرفعون الصالحين فوق منزلتهم التي أنزلهم الله إيَّاها فيعظمونهم ، ويعظمون أشخاصهم ، ويتبركون بذواتهم ، وإذا مات الصالحون عظَّمُوا قبورهم بدعاء أصحابها والذبح لهم ، والطواف حولها ، وشد الرحال إليها ويعتقدون فيهم ما يعتقدون في الله من كشف الضرِّ وجلب النفع . كما حدث لقوم نوح ، وكما فعل اليهود في تأليه العُزَيْر ، والنصارى في تأليه المسيح . قال الله تعالى عن قوم نوح عليه السلام : { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا  } وقال تعالى عن اليهود والنصارى : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ۝ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [التوبة:30-31] .

وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو في مدحه ، والمبالغة في إطرائه ، قال عليه الصلاة والسلام : « لا تُطْرُوني كما أطرت النصارى ابن مريم؛ فإنما أنا عبد ، فقولوا : عبد الله ورسوله » رواه البخاري . وإذا كان هذا في حقِّه عليه الصلاة والسلام فكيف بغيره من الناس ممن هو دونه؟! وهؤلاء الناس الذين يفزعون عند الشدائد إلى دعاء الصالحين والرغبة إليهم ، فقد أشركوا بالله العظيم : ﴿ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾ [فاطر: 13، 14] . والعجيب أن صاحب هذا القبر لمَّا كان حياً ؛ إذا مرض ذهبوا به إلى الطبيب لعلاجه ، وإذا كان في بيته فإنه لا يسمع من كان خارج البيت ، هذا وهو حي ، فلما مات يطلبون منه الشفاء ، ويعتقدون أنه يسمعهم وهو عنهم في أقصى الدنيا . إن الغلوَّ في الصالحين له نتائج وخيمة وآثار سيئة ؛ تُوقِع العبد في الهلاك وتجُرُّه إلى الشرك بالله أو الابتداع في دين الله . فالواجب تنزيل الصالحين منازلهم ، وترك الغلو فيهم . ثم إن الله أمرنا بأمر عظيم ، ألا وهو الصلاة والسلام على النبي الكريم . اللهم صلِّ وسلِّمْ على نبينا وحبيبنا محمد ، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين وعن الصحابة أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . وارضَ عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين . اللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين . اللهم اجعلنا عند النعماء من الشاكرين ، وعند البلاء من الصابرين . اللهم اشرح صدورنا بالإيمان ، ونوِّر قلوبنا بالسنة والقرآن . اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذلَّ الشرك والمشركين . اللهم اجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين . اللهم وفِّق ولاة أمورنا لما تحب وترضى ، وأعنهم على البر والتقوى ، وهيئ لهم البطانة الصالحة التي تدلهم على الخير وتُعينهم عليه يا رب العالمين . اللهم آتِ نفوسَنا تقواها ، وزكِّها أنت خيرُ مَن زكَّاها ، أنت وليُّها ومولاها . اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات . { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } . وأقم الصلاة .

( خطبة الجمعة 9/5/1447هـ . جمع وتنسيق خطيب جامع العمار بمحافظة الرين / عبد الرحمن عبد الله الهويمل                          للتواصل جوال و واتساب /  0504750883  ) .

المرفقات

1761724287_خطر الغلو و أثره على التوحيد.docx

المشاهدات 55 | التعليقات 0