خطر الغلو و أثره على التوحيد
الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله الهويمل
خطر الغلو و أثره على التوحيد
الخطبة الأولى
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ . صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا . أمّا بعد :-
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله ، فهي وصية الله للأولين والآخرين .
عباد الله : الله جلَّ وعلا : ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [التوبة:33] ، وجعل دينه دينًا وسطًا خِيرًا بين الأمم والأديان ، فقال سبحانه : ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة:143] ، وخصَّ هذا الدين بالسماحة والرفق واليسر في أصوله وشرائعه وآدابه ، وأمر الناس بسلوك منهج الصالحين ، سبيل الحق الواضح المبين ، بلا إفراطٍ ولا تفريط ، ونهاهم عن الغلو في الدين ؛ وهو مُجاوزةَ الحدِّ في أمورِ الدِّينِ ، والتَّشدُّدَ فيه بالإفراطِ والزيادة ، كما نهى الأمم السابقة فقال سبحانه وتعالى لأهل الكتاب وهو لهم ولغيرهم : ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ﴾ [المائدة:77] . ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أمته عن الغُلو ، فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ ، فَإِنَّما أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ » [صحيح رواه ابن ماجه والنسائي وأحمد] . أي : لمَّا بالَغوا في دِينِهم وشدَّدوا فيه ، أصابَتْهم الهَلكةُ في دِينِهم بالتَّحريفِ والضَّياعِ عن أصْلِ الدِّينِ . والنَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم حذَّرَنا مِن البِدَعِ والغُلوِّ في الدِّينِ ؛ لأنَّ ذلك يُؤدِّي إلى إفسادِ المجتمَعاتِ ، وربَّما أدَّى التَّشدُّدُ مع عدَمِ الفِقهِ في الدِّينِ إلى تَبْديعِ وتكفيرِ المُجتمَعاتِ المسلِمةِ ، والخروجِ على الحُكَّامِ بغيرِ وجهِ حقٍّ . كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم أمته عن التَّشَدُد والتَّنَطُّع ، فَعَنِ ابنِ مَسْعودٍ رَضْيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال : «هَلَكَ المُتنَطِّعونَ» قالها ثلاثًا . رواه مسلم . و المُتنَطِّعونَ : هم المتشددون في أمورهم الدينية والدنيوية . ومعناه : الزيادة على ما شرعه الله ، ومن ذلك : البناء على القبور ، واتخاذ المساجد عليها ، والصلاة عندها ، هذا زيادة على ما شرع الله ، شرع الله زيارتها ، والدعاء لأهلها بالمغفرة والرحمة ، أما كونه يبني عليها مساجد ، أو قباب هذا من الغلو ومن وسائل الشرك ومحرم ، والرسول ﷺ أنكر ذلك ، ولعن اليهود والنصارى على فعل ذلك . فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ : « لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ » . قالَتْ : فَلَوْلَا ذَاكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ ، غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ - أَوْ خُشِيَ - أَنَّ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا " رواه البخاري ومسلم . فنهَى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أُمَّتَه عن مُشابَهةِ ذلك الفِعلِ ؛ لأنَّه مِن فِعلِ اليهودِ والنَّصارى ، ولأنَّه ذَريعةٌ مُوصِلةٌ للشِّركِ باللهِ .
عباد الله : إن الغلو والتشدد والتنطع من سمات التطرف الذي يسلك فيه الغالي مسلكًا خطيرًا في فهم النصوص الشرعية والسنن النبوية ويتكلف عند العمل حتى يتجاوز الحد . وهذا من مداخل الشيطان وخطواته ؛ ليفتن الناس عن دينهم ، حتى رأينا اليوم من شباب الإسلام من فتنه الشيطان وغرَّه فهمه القاصر والناقص للدين ، فغلى في فهمه وتطبيقه فلم يقبل رشدًا، ولم يسمع نصحًا، ولم يرجع للراسخين في العلم ، فصرفه ذلك عن الحق والعدل . وقد حصل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم نوع غلوٍ ، إلا أنه عليه الصلاة والسلام عالجه وواجهه بالنصح والتوجيه ثم بالتحذير والتخويف ، ففي الصحيحين عن أنس بن مالكٍ رضي الله تعالى عنه أنه قال : جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إلى بُيُوتِ أزْوَاجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، يَسْأَلُونَ عن عِبَادَةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأنَّهُمْ تَقَالُّوهَا ، فَقالوا : وأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، قدْ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ ، قالَ أحَدُهُمْ : أمَّا أنَا فإنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أبَدًا ، وقالَ آخَرُ : أنَا أصُومُ الدَّهْرَ ولَا أُفْطِرُ ، وقالَ آخَرُ : أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فلا أتَزَوَّجُ أبَدًا ، فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليهِم ، فَقالَ : « أنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا ، أَمَا واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له ، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي » متفق عليه . نسأل الله عزَّ وجلَّ الهداية والرشاد لشبابنا وأبنائنا ، وأن يديم أمننا ويقوي إيماننا ، ويحفظ بلادنا وسائر بلاد المسلمين . أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على فضله وإحسانه ، وأشكره على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيرا . أما بعد :-
عباد الله : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصًا على توجيه أمته ونصحها ، فشدد في تحذيرها من خطر التطرف والغلو حتى لا تقع فيه كما وقعت الأمم السابقة. روى أبو داود في سننه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : « لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ ، فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللهُ عَلَيْهِمْ ، فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارِ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ». فهذا نهي عن التشدد في الدين ؛ فالله سبحانه وتعالى جعل الدين سهلًا سمحًا ، فعلى شبابنا اليوم ، وعلى كل من غرَّه وفتنه الشيطان ، ورفقاء السوء والهوى بفتنة التطرف والغلو والخروج أن يستمعوا إلى نصح العلماء الربانيين ، وتوجيه الفضلاء المخلصين ، والعقلاء المتزنين ، فدين الله تعالى يسرٌ في كل تشريعاته وأحكامه وآدابه ، عَنْ أبي هُريرةَ رضْيَ اللهُ عنه عَنِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال : « إنَّ الدِّينَ يُسرٌ ، ولن يُشادَّ الدِّينَ أحَدٌ إلَّا غلَبه » رواه البخاري .
عباد الله : الغلو هو أول خطوات الانحراف عن الدين القويم والوقوع في الشرك العظيم ، ومن أعظم أنواع الغلو ، الغلو في الصالحين ، وذلك أنهم يرفعون الصالحين فوق منزلتهم التي أنزلهم الله إيَّاها فيعظمونهم ، ويعظمون أشخاصهم ، ويتبركون بذواتهم ، وإذا مات الصالحون عظَّمُوا قبورهم بدعاء أصحابها والذبح لهم ، والطواف حولها ، وشد الرحال إليها ويعتقدون فيهم ما يعتقدون في الله من كشف الضرِّ وجلب النفع . كما حدث لقوم نوح ، وكما فعل اليهود في تأليه العُزَيْر ، والنصارى في تأليه المسيح . قال الله تعالى عن قوم نوح عليه السلام : { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } وقال تعالى عن اليهود والنصارى : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [التوبة:30-31] .
وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو في مدحه ، والمبالغة في إطرائه ، قال عليه الصلاة والسلام : « لا تُطْرُوني كما أطرت النصارى ابن مريم؛ فإنما أنا عبد ، فقولوا : عبد الله ورسوله » رواه البخاري . وإذا كان هذا في حقِّه عليه الصلاة والسلام فكيف بغيره من الناس ممن هو دونه؟! وهؤلاء الناس الذين يفزعون عند الشدائد إلى دعاء الصالحين والرغبة إليهم ، فقد أشركوا بالله العظيم : ﴿ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾ [فاطر: 13، 14] . والعجيب أن صاحب هذا القبر لمَّا كان حياً ؛ إذا مرض ذهبوا به إلى الطبيب لعلاجه ، وإذا كان في بيته فإنه لا يسمع من كان خارج البيت ، هذا وهو حي ، فلما مات يطلبون منه الشفاء ، ويعتقدون أنه يسمعهم وهو عنهم في أقصى الدنيا . إن الغلوَّ في الصالحين له نتائج وخيمة وآثار سيئة ؛ تُوقِع العبد في الهلاك وتجُرُّه إلى الشرك بالله أو الابتداع في دين الله . فالواجب تنزيل الصالحين منازلهم ، وترك الغلو فيهم . ثم إن الله أمرنا بأمر عظيم ، ألا وهو الصلاة والسلام على النبي الكريم . اللهم صلِّ وسلِّمْ على نبينا وحبيبنا محمد ، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين وعن الصحابة أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . وارضَ عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين . اللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين . اللهم اجعلنا عند النعماء من الشاكرين ، وعند البلاء من الصابرين . اللهم اشرح صدورنا بالإيمان ، ونوِّر قلوبنا بالسنة والقرآن . اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذلَّ الشرك والمشركين . اللهم اجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين . اللهم وفِّق ولاة أمورنا لما تحب وترضى ، وأعنهم على البر والتقوى ، وهيئ لهم البطانة الصالحة التي تدلهم على الخير وتُعينهم عليه يا رب العالمين . اللهم آتِ نفوسَنا تقواها ، وزكِّها أنت خيرُ مَن زكَّاها ، أنت وليُّها ومولاها . اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات . { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } . وأقم الصلاة .
( خطبة الجمعة 9/5/1447هـ . جمع وتنسيق خطيب جامع العمار بمحافظة الرين / عبد الرحمن عبد الله الهويمل للتواصل جوال و واتساب / 0504750883 ) .
المرفقات
1761724287_خطر الغلو و أثره على التوحيد.docx