ذكر الله وأثره في الحياة الطيبة

سليمان بن خالد الحربي
1447/05/01 - 2025/10/23 14:05PM

 

الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يَهْدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومن سار على نهجه، واقتفى أثره، إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أمَّا بَعْدُ:

فاتَّقُوا اللهَ، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلمونَ} [آل عمران:102].

إخوةَ الإسلام: طُبِعَتِ الحياةُ على الكَدر والشِّدةِ والضيقِ، هكذا أخبر الله -سبحانه وتعالى- عن حال الأرض والدنيا، قال الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4]، قال الحسن: «يُكابِد مصائبَ الدنيا وشدائدَ الآخرة»([1]).

 هذه هي الحياة، طُبِعَتِ على كدر وأذى، إلا أنَّ من رحمة الله -جل وعلا- بالعباد أنْ شرع لهم ما يزيل همومَها وغمومها، بل ويقضي على لَأْوَائِها وتنغيصها، فمَنْ رَامَ علاج نكدها فليتمسك بقول الخبير وخبره: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه:124].

 قال القرطبي: (لا يُعْرِضُ أحدٌ عن ذِكر ربِّه إلا أظلم عليه وقته)([2]).

فالذِّكرُ هو أعظمُ سلاحٍ جعله الله للعبد المؤمن للوقوف أمام هذه الحياة، فمهما حاولتِ الفلسفاتُ القديمة والمعاصرة أن تدرس نظرية الحياة والسعادة والطمأنينة لا يمكن لها أن تصل إلى حقيقتها بمَعْزِلٍ عن العبادة والذكر، ففي الذكر يسعد الغني والفقير والمصاب والمعافى والشريد والطريد، وبسواه تكون السعادة خاصة بغير المأمون إن وجدت أيضا، فالغني يخشى على ماله، والصحيح يخشى على صحته، والرئيس يخشى على منصبه، فهي سعادة غير مأمونة، أما الفقير والمريض ونحوهما فلا معنى لسعادته إذ لا يملك السعادة المؤقتة، بل أحيانا تكون هذه المتع سببا للتنغيص والتكدير، فكَمْ من غنيٍّ أورثه غناه التعب والمرض، وكم من مسؤولٍ أورثه منصبه الهم والحزن، بينما متعة وحلاوة ذكر الله لا تنفك عنك في أي وقت، وسعادتها ملازمة لك في الدنيا والآخرة، وتورثك سعادة وأُنْسًا لا يورثه غيرها.

 وتأمل قول الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، كلنا نبحث عن هذه الحياة الطيبة الهانئة، فمن تطلَّبها بغير هذا السلاح فهو كالمتطلب في الماءِ جَذْوَةَ نارٍ، ولهذا تأمل ما قال الله بعد هذه الآية السابقة: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]، هذا أعظم الذكر، وأعظم أسباب الحياة الطيبة، {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} [ص:29]، مباركٌ على نفسِكَ وروحكَ وعملكَ وأهلكَ وولدكَ؛ فبركته متتالية لأنه كلام الله -سبحانه وتعالى- فالذكر هو الحياة، وهذا ما يوضحه ما رواه الشيخان من حديث أبي موسى: «مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ وَالْبَيْتِ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ مَثَلُ الْحَيِّ وَالميِّتِ»([3]).

فهل الميت يشعر بالحياة؟ وهل الميت مستمتع بما هو فيه؟ وقد اتفقت عبارات المجربين من الأغنياء والفقراء والساسة والعامة أن الذكر سلاح متين جالب للفرح والسرورة والطمأنينة، {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]، وقد أمر الله تعالى بذكره، {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152]، ووعد عليه أفضل جزاء، وهو ذكره لمن ذكره، كما قال تعالى على لسان رسوله في الحديث الذي رواه الشيخان: «مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ»([4]).

وقد قيل في معنى قوله تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]؛ أي: ذِكر الله لكم بالثوابِ والثناءِ عليكم أكبرُ من ذكرِكم له في عبادتكم وصلواتكم. وهذا اختيارُ الطبريِّ.

 وقِيلَ ما في الصلاة من ذكر الله أكبرُ من نهيها عن الفحشاء والمنكر، ومصداقُ هذا الذكر ما رواه الترمذيُّ في جامعه، عن أبي هريرة وأبي سعيد، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِذَا قَالَ الْعَبْدُ لَا إلهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أكْبَرُ، قَالَ يَقُولُ الله -سبحانه وتعالى-: صَدَقَ عَبْدِي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا وَأَنَا أَكْبَرُ، وَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، قَالَ صَدَقَ عَبْدِي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا وَحْدِي، وَإِذَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، قَالَ صَدَقَ عَبْدِي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، وَلَا شَرِيكَ لِي، وَإِذَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، لَهُ الملُكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، قَالَ صَدَقَ عَبْدِي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، لِيَ الملْكُ وَلِيَ الْحَمْدُ، وَإِذَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، قَالَ صَدَقَ عَبْدِي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِي. مَنْ رُزِقَهُنَّ عِنْدَ مَوْتِهِ لم تَمَسَّهُ النَّارُ»([5]).

 تأمَّلْ هذا الجوابَ من الربِّ الكبير، مناجاة عظيمة من العبد لربه، وتأمل قوله: «رُزِقَهُنَّ» أي والله إنه لمن جملة الرزق، والله ما رُزِقَ العبدُ بمثل تحبيبه لذكر الله، ادعو الله أن يرزقكم ذكره؛ فهو رزق كريم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:190 - 192].

بَاركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونَفَعني وإياكُم بما فيه من الآياتِ والذِّكر الحكيم، أقولُ ما سَمِعْتُم، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأعوانه.

أمَّا بَعْدُ:

إخوتي في الله: كم هم الذين يشتكونَ من الأمراض النفسيةِ والتسلطاتِ الروحية، وقد أنزل الله علاجَه، وعرَّفه رسوله أمتَّه، فهو السلاحُ الناجِعُ المجرَّب، إن دواءَه هو ذكرُ الله، فالرُّقْيَةُ كلها أذكارٌ، والقرآنُ أعظمُ الذِّكرِ، إنَّ مِنَ الناس لو قِيلَ له علاجُك في أقصى الأرض لبذلَ الأسبابَ العظيمةَ لعلاجه، ومن أعظمِ الأمراض أمراضُ النفوس والتسلطات، ومع هذا يكسلُ المريضُ عن تناولِ دوائِه، هل هناك أعظمُ من هذا الدعاء العظيم الذي يجمع بين خيري الدنيا والآخرة وبين العصمةِ من الشياطين؟ تاللهِ لو أن النفوسَ صحيحةٌ لكان قولها له قبل تناولِها طعامَها وشرابَها.

 جاء في عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الملْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلم يَأْتِ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلاَّ أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ»([6]).

«إِلاَّ أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ»؛ هذا فيه دليلٌ على أنه لو قال هذا التهليلَ أكثرَ من مائةِ مرةٍ فى اليوم كان له هذا الأجر المذكور فى الحديث على المائة، ويكون له ثواب آخر على الزيادة، وليس هذا من الحدود التي نُهِيَ عن اعتدائِها ومجاوزةِ أَعدادِها، أو التي لا فَضْلَ في زيادتها، أو التي تَبْطُلُ بالزيادةِ، كالزيادةِ فى عددِ الطهارةِ وعدد ركعات الصلاة.

لقد جَرَّبَ هذا الذكر أناسٌ كُثُرٌ كانوا في تعبٍ وهَمٍّ وتَسَلُّطٍ، فلما داوموا عليه وجدوا أثرًا لم يتوقعوه وزال عنهم ما كانوا يشعرون، لِيَتَوَاصَ الزوجانِ عليه والوالدانِ مع أولادهما؛ ففيهِ خيرٌ كثيرٌ.

وختامًا، لو لم يكن هذا الذكر بهذه المكانة لما رأينا الشريعةَ جعلت جميعَ الوقت ذكرًا، فالصلاةُ لها وَقْتُ نَهْيٍ، والصوم له وَقْتُ نَهْيٍ، والعمرة والحج لا يُتَصَوَّرُ أن يقطع الزمان بهما، لكنَّ الذِّكرَ من حين القيام، والأوراد الخاصة والعامة تلاحقك وتناديك، أليس هذا دليلًا على حُبِّ الله له وعظم أثره على حياتنا؟! فدعوةٌ عامةٌ لمراجعة أنفسنا، فالتقصير كبير، والأجر عظيم، والعاقبة حميدة، والحسرة كبيرة، فما تمر ساعة على ابن آدم لا يذكر الله تعالى فيها إلا تحسَّرَ عليها يوم القيامة، اللهم أَعِنَّا على ذكرك.



([1]) تفسير القرطبي (20/62).
([2]) روح المعاني (16/289).
([3]) أخرجه البخاري (5/2353، رقم 6044)، ومسلم (1/539، رقم 779).
([4]) أخرجه البخاري (6/2694، رقم 6970)، ومسلم (4/2061، رقم 2675).
([5]) أخرجه الترمذي (5/492، رقم 3430).
([6]) أخرجه البخاري (3/1198، رقم 3119)، ومسلم (4/2071، رقم 2691).

المرفقات

1761217537_ذكر الله وأثره في الحياة الطيبة.docx

المشاهدات 322 | التعليقات 0