شهادة المرأة بين عدل التشريع وافتراءات التغريب

د مراد باخريصة
1447/01/18 - 2025/07/13 14:47PM

الخطبة الأولى:

الحمد لله العليم الحكيم، الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان، وجعل لكل شيء قدرًا، وشرع لنا من الدين ما يصلح به أمر الدنيا والأخرى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه ومن سار على هديه إلى يوم الدين.

أما بعد، فأوصيكم ونفسي المقصرة بتقوى الله، فإنها وصية الله للأولين والآخرين، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ [النساء: 131].

أيها المسلمون: في زمنٍ تتبدل فيه المفاهيم، وتُساق فيه الشبهات تحت شعار المساواة وحقوق الإنسان، تطالعنا بعض الأبواق المستغربة، تتساءل مستنكرة: لماذا شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل؟ ويزعمون أن في ذلك انتقاصًا من عقل المرأة، وإجحافًا بحقها، وتمييزًا جندريًّا لا يليق بعدالة الإسلام!

ولكن الحق –عباد الله– لا يُؤخذ من أفواه المبهورين، ولا يُوزن بميزان الغرب، وإنما يُؤخذ من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن فهم علماء الأمة الراسخين الذين يعلمون أن أحكام الشريعة مبناها على علم الله الكامل بخلقه، وحكمته البالغة في التشريع، وعدله المطلق في الحقوق والواجبات، كما قال تعالى: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14]، وقال أيضًا: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ [الأنعام: 115].

أيها الإخوة المؤمنون: إن الذين يطعنون في هذه الأحكام لا يميزون بين الكرامة الإنسانية التي يقرها الإسلام للمرأة، وبين الوظائف والتكاليف التي تختلف بين الرجل والمرأة بحسب التكوين والطبع والدور المنوط بكل منهما.

والحقيقة أن المرأة في الإسلام مساوية للرجل في الأصل الإنساني والتكريم الشرعي، ولكنها ليست نسخة مكررة منه.

فكما أن الرجل لا يحمل الحمل، ولا يرضع الطفل، ولا يقوم بمقام الأمومة، كذلك المرأة لم تُكلّف بأعباء الجهاد والقيادة العامة والقضاء؛ لأن الله خلقها لوظيفة، وهيأها لها، كما خلق الرجل لوظيفة وهيأه لها، والعدل أن تُعطى كل نفس ما يناسب طبيعتها، لا أن تُساوى بالمخالفة للفطرة.

إن الآية التي استندت إليها الشبهة –وهي قوله تعالى في آية الدين: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة : 282] ليست قاعدة عامة في جميع الشهادات، وإنما وردت في مقام الشهادة على الحقوق المالية المؤجلة، وهي أمور تحتاج إلى ضبط شديد، ومتابعة دقيقة، ومراجعة حسابية متكررة، وهي وظائف يغلب أن تتولاها الرجال، لما جبلهم الله عليه من الخروج والكسب والخبرة، وليس لقصور في المرأة أو احتقار لها.

وقد بيّن الله العلة بصراحة فقال: ﴿أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى﴾ فهو النسيان الطبيعي العارض الذي قد يصيبها، وليس ضعفًا في عقلها كما يروّج المغرضون.

أي إن تنسى إحداهما فتُذَكّرها الأخرى، وهذا ليس ذمًّا للمرأة، بل بيان لطبائع البشر، إذ المرأة بحكم عاطفتها العالية، وتعدد مسؤولياتها المنزلية والنفسية، قد تتعرض للنسيان أكثر، وليس هذا انتقاصًا، بل هو اختلاف في الوظائف والتكوين لا في القيمة الإنسانية.

ثم إن هذا الحكم ليس مطردًا، بل تُقبل شهادة المرأة وحدها في مواضع، كالولادة والرضاع وعيوب النساء، وقد لا تُقبل شهادة الرجل وحده في مواضع لا خبرة له بها.

بل إن الإسلام –في كثير من المواضع– قدم شهادة المرأة على شهادة الرجل، كما في قذف الزوج لزوجته، حيث تقوم شهادة المرأة (بالملاعنة) مقام شهادة أربعة رجال! بل وتردّ قول زوجها.

فالشريعة –يا عباد الله– تبني الحكم على الخبرة والتخصص، لا على مجرد الذكورة والأنوثة.

بل أكثر من ذلك، إن كانت المرأة أعلم وأضبط في مجال من المجالات، فهي مقدمة على الرجل فيه، وكم من مسألة فقهية رجع فيها الصحابة إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وكانت مرجعًا في الطب، والحديث، والفتيا.

أيها المسلمون: إن الهجوم على أحكام الشريعة ليس جديدًا، وإنما الجديد هو ترويج هذه الشبهات عبر الإعلام، ومواقع التواصل، ومقررات بعض المنظمات الدولية التي لا ترى الحق إلا في أطر ثقافتها الغربية، وتريد فرض رؤيتها على الأمم الأخرى، وإن خالفت دينها وقيمها.

وإن من واجبنا في هذا الزمن أن نرد هذه الشبهات بالأدلة، وأن نربي أبناءنا على الاعتزاز بالشريعة، لا الاعتذار عنها، وأن نحذر من الفخاخ الفكرية التي تنسف الشريعة باسم "حقوق المرأة"، فهل حقوق المرأة أن تُسْلَب من بيتها، وتُجبر على الشهادة، وتُختلط في المحاكم، وتتحمل أعباء لم تخلق لها؟!

وإن علينا –معشر المسلمين– أن نكون على بصيرة من ديننا، وحصانة في فكرنا، وثقة في عدالة شريعتنا، وأن لا ننساق خلف كل ناعق، أو ننبهر بكل متكلم.

فديننا دين علمٍ وعدلٍ ورحمة، لا دين جمودٍ أو تعصب، وإذا كان الغربيون قد احتاجوا إلى قرون من النضال لإثبات أن المرأة إنسان!

فالإسلام قد قرر ذلك منذ نزول القرآن، وأعطاها حقها كأمّ، وزوجة، وابنة، وشريكة في الجهاد والعلم والعبادة.

{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة : 3].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ..

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، أمر بالعدل والإحسان، ونهى عن الظلم والطغيان، وصلى الله وسلم على نبينا العدنان، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.

أما بعد:

عباد الله: إن الذين يثيرون هذه الشبهات ليسوا جادين في طلب الحق، بل يريدون إسقاط الشريعة، وتحريف الأحكام لتوافق "المعايير الغربية"، فهل نأخذ شرعنا من الذين لا يعرفون عن المرأة إلا أنها جسدٌ يُسَوَّق، ويُستَغلّ، وتُسْلَبُ أمومتها وأنوثتها؟!

هل نأخذ رؤيتنا من حضارة ترى في العزوف عن الأمومة تقدُّمًا، وفي التعري حرية، وفي الشذوذ تحضُّرًا، وفي "الرجولة الزائدة" سُمِّيَّة؟!

أين هم من قول الله تعالى في حق المرأة: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ﴾؟ أين هم من سنة النبي صلى الله عليه وسلم الذي جعل أعظم المعروف: "خيركم خيركم لأهله"؟

أين هم من شريعة سوّت بين الصحابة والنساء في طلب العلم والعبادة، وجعلت امرأة كأم المؤمنين عائشة مرجعًا للمجتهدين والفقهاء؟

 

اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، اللهم احفظ ديننا من تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وكيد الحاقدين.

وصلّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

المرفقات

1752407256_شهادة المرأة بين عدل التشريع وافتراءات التغريب.doc

المشاهدات 23 | التعليقات 0