عناية الإسلام بالمرأة وحفظه لحقوقها
الشيخ عبد الله بن علي الطريف
عناية الإسلام بالمرأة وحفظه لحقوقها 1447/6/21هـ
الحمد لله القائل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً) [النساء:1] وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله القائل: «استوصوا بالنساء خيرا» رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد..
أيها الإخوة: كانت المرأةُ قبل الإسلامِ في ذلٍ وهوان واستعبادٍ لم تنج من أَتُونِهِ نساءُ أمة أو ملة، والمتصفح للتاريخ الإنساني يرى كيف عامل الرجلُ المرأة واستعبدها، وسلبها حريتها وجعلها سلعةً رخيصة الثمن، وقَعَّدَ لذلك ونظمَهُ.. فتعرّضت المرأة لحملاتِ اضطهادٍ وظلمٍ لكونها العنصر البشري الأضعف، فلم تمرْ حضارةٌ من الحضارات، إلا وسقتها ألوانَ العذاب، وأصنافَ الظلمِ والقهرِ، وَرَوَّجَ لهذه الأفكار فلاسفةٌ وثنيون عبروا عن تراثهم.. ولم تزل حضاراتُ العالم الآن في حاضرها العفن.! تمارس إهانة المرأة ولكل زمانٍ أسلوبُهُ وطريقتُه..
أما نحن معاشر المسلمين فالقضية عندنا محسومة فقد أنزل الله تعالى على نبينا محمدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- تفاصيلَ حقوقِ المرأة وواجباتِها، وهو دينٌ ندين الله تعالى به. لم ولن يأتَ مثلَهُ.. فهذا الدينُ رحمةُ اللهِ المهداةِ إلى البشرية جمعاء.. فقد غير وجه التاريخ القبيح، وخلق حياة لم تَعْهَدْها البشريةُ في حضاراتها أبدًا.. وأول تكريم كرم الإسلام به المرأة أنه أعلن إعلانًا صريحًا بأن المرأة جزء من الرجل، ليستأنسَ بها ويطمئنَّ إليها اطمئنان الشيء إلى جزئِهِ أو جِنْسِهِ، ولَا يَسْكُنُ شَيْءٌ لِشَيء كَسُكُونِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ إِلَى الْآخَرِ، فقال الله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) [الأعراف:195] هذا الإعلان لأصلِ الخلقة أعظم إعلان بتكريم الإسلام للمرأة وكأنه يقول: لا تتكبر أيها الرجل فهي منك وأنت منها.. وهذا الإعلان أعظمُ ثورة على احتقار المرأة في عصور الظلام الغابرة واللاحقة في العالم أجمع بكل حضارته ودُوَلِه ومِلَلِهِ..
أيها الإخوة: جاء الإسلام ليكرم المرأة أعظم تكريم.. وشَرُفَتْ به أعظم تشريف، كرمها أماً وخالةً وبنتاً وأختًا وزوجةً أو امرأةً من سائر أفراد المجتمع.. فإن كانت أماً فقد قرنَ حقَها بحقِهِ فقال: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [الإسراء:23] وأي تكريمٍ أعظمُ من أن يقرنَ اللهُ حقَّها بحقه.! وجعلها المصطفى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- أحقَّ الناس بحسنِ الصحبة وإسداء المعروف.. فَقَد جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي.؟ [أي: أولى الناس بمعروفي وبري ومصاحبتي المقرونة بلين الجانب وطيب الخلق وحسن المعاشرة] قَالَ: «أُمُّكَ».. قَالَ: ثُمَّ مَنْ.؟ قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ».. قَالَ: ثُمَّ مَنْ.؟ قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ».. قَالَ: ثُمَّ مَنْ.؟ قَالَ «ثُمَّ أَبُوكَ».. متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-.. وكرم المرأةَ خالةً وجعلها بمنزلة الأم.. فَقَدْ أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ ذَنْبًا عَظِيمًا فَهَلْ لِي تَوْبَةٌ.؟ قَالَ: «هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ.؟» قَالَ لَا.. قَالَ: «هَلْ لَكَ مِنْ خَالَةٍ.؟» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَبِرَّهَا». رواه الترمذي. عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- وصححه الألباني.. وكرَّمَ المرأة بنتًا كانت أو أختًا فخصَ من قامَ برعايتهن بمنزلةٍ عاليةٍ ومِنحةٍ عظيمةٍ، بأن جعلَه معه فِي الْجَنَّةِ، وهذه منزلةٌ تمتدُّ نحوَها الأعناق، وتهفو إليها القلوب.. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ عَالَ ابْنَتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، أَوْ أُخْتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، حَتَّى يَبِنَّ -أي: ينفصلن عنه بتزويج أو موت- أَوْ يَمُوتَ عَنْهُنَّ؛ كُنْتُ أَنَا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ وَأَشَارَ بِأُصْبَعِهِ الْوُسْطَى وَالَّتِي تَلِيهَا». رواه أحمد وابن حبان عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- وصححه الألباني.
وكرم الإسلام الزوجة فقال الله تعالى للرجال: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) [النساء:19] قال الشيخ السعدي-رَحِمَهُ اللهُ-: "وهذا يشمل المعاشرة القولية والفعلية، فعلى الزوج أن يعاشر زوجته بالمعروف، من الصحبة الجميلة، وكفِ الأذى وبذلِ الإحسان، وحُسنِ المعاملة، ويدخل في ذلك النفقة والكسوة ونحوهما، فيجب على الزوج لزوجته المعروفُ منْ مِثْلِهِ لمثلِها في ذلك الزمانِ والمكان، وهذا يتفاوت بتفاوت الأحوال".
وثَنَّى الرسولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- بتكريم الزوجة وجعلَها في أعلى مراتبِ الحبِ والتقديرِ في حال حياتِها وبعد موتها؛ فقد سأله عَمْرُو بْنِ العَاصِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْكَ؟ قَالَ: «عَائِشَةُ». رواه الترمذي وصححه الألباني.. وكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- إِذَا أُتِيَ بِالشَّيْءِ [هدية ونحوها] يَقُولُ: «اذْهَبُوا بِهِ إِلَى فُلَانَةٍ؛ فَإِنَّهَا كَانَتْ صَدِيقَةَ خَدِيجَةَ. اذْهَبُوا بِهِ إِلَى بَيْتِ فُلَانَةٍ؛ فَإِنَّهَا كَانَتْ تُحِبُّ خَدِيجَةَ». رواه البخاري في الأدب المفرد عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وصححه الألباني. بل عَدَّ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- المرأة الصالحة مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ في الدنيا وَعَدَّ الْمَرْأَةَ السُّوءَ مِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ فقال: «مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ ثَلاثَةٌ، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ ثَلاثَةٌ: مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ الْمَرْأَةُ السُّوءُ». الحديث رواه أحمد في مسنده عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وقال الألباني صحيح لغيره.
وأوصى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- بعموم النساء خيرًا عندما قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا» رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-.. ويؤكد هذه الوصية بقوله: «لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ» أَوَ قَالَ «غَيْرَهُ». رواهما مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أي لا يبغضُها بغضًا تامًا بسبب بعضِ الأخلاق التي كره منها، لأن غض البصر عن المحاسن، وَلَحْظُ المساوئِ ولو كانت قليلة عَدَمُ إنصافٍ، ولا تخلو زوجة من نقص كذلك الرجل.. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- مثنيًا على المحسنين للتعامل مع نسائهم: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم» رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَة َ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-. وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي» رواه الترمذي وابن عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- وصححه الألباني. أَيْ مَنْ كَانَ خَيَّرًا لِأَهْلِهِ فَهُوَ مِنْ خَيْرِكُمْ، والمُرَادُ أَنَّ حُسْنَ الْعِشْرَةِ مَعَ الْأَهْلِ مِنْ جُمْلَةِ الْأَشْيَاءِ الْمَطْلُوبَةِ فِي الدِّينِ فَالْمُتَّصِفُ بِهِ مِنْ جُمْلَةِ الْخِيَارِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُتَّصِفَ بِهِ يُوَفَّقُ لِسَائِرِ الصَّالِحَاتِ حَتَّى يَصِيرَ خَـيَّرًا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.. اللهم وفقنا لحسن الخلق وحسنِ العشرة مع أهلنا إنك جواد كريم.. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الإخوة: اتقوا الله حق التقوى، واعلموا أن الإسلام كما كرم المرأة، ببعض ما سمعتم فقد حذر من إهانتِها ومن إهانتها عضلُها، والمقصود بالعضل: منع المرأة من الزواج بالكفء، قال تعالى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة:232] وإن كانت هذه الآية في طلب المطلق بعدما خرجت زوجته من العدة الرجوعَ لها، إلا أنَّه يعم ُكلَ عضلٍ، وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَدِينَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ» رواه الترمذي وابن ماجة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وحسنه الألباني.
ومما يجب التأكيدُ عليه تحريمُ حرمان المرأة من حقها من الميراث، أو تأخيرُ قسمته بدون سبب؛ فالميراثُ حقٌ فرضه الله تعالى لا يجوز تعطيله أو التحايل عليه، يقول تعالى: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا). [النساء:7]
وبعد أيها الإخوة: إن هذه اللوحةَ الزاهيةَ بألوانِها.. المبهرةَ بتناسقِ محتواها لوضعِ المرأةِ في الإسلامِ.. تقطع كلَّ صوتٍ يعلو بدعوى أنَّ المرأةَ في الإسلامِ مهانة.. أو لم تأخذ حقوقها.. وما ذكرته اليوم نزرٌ يسيرٌ مما كَفَلَهُ الإسلامُ لها.. ألا فليخرسْ مدعو تحرير المرأة، وإنَّ رفع أحدهم عقيرته بنداءات الزور والبهتان.. وملأوا الفضاء بضجيجهم الفج.. اللهم وفقنا لحفظ حدودك.. ووفق نساءنا لامتثال أمرك وشكرك على جميل شريعتك..