فضل أيام التشريق
الشيخ محمد بن هديب المهيدب رحمه الله
فضل أيام التشريق([1])
الخطبة الأولى
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾([2])، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ له، خَلَقَ كُلَّ شيءٍ فَقَدَّره تقديرا، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبده ورسُولُه، أرسله إلى الثَّقَلَيْنِ بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى اللهِ بإذنه وسِراجًا مُنيرا، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وصَحبِه وسَلَّمَ تسليمًا كثيرا.
أما بعد، فيا أيُّها المسلمون:
اتَّقُوا اللهَ تعالى حَقَّ تُقاتِه.
عبادَ الله:
بارك اللهُ لكم في عيدِكُم، وتقبَّلَ اللهُ طاعتكُم، ووفَّقكُم لِما يُحِبُّهُ ويرضاه.
أيُّها المسلمون:
خَرَّجَ الإمامُ مُسلمٌ في صحيحه من حديثِ نُبَيشةَ الهُذَليِّ أن النبيَّ ﷺ قال: «أيامُ مِنًى أيامُ أكلٍ وشُربٍ وذِكرٍ للهِ عزَّ وجلّ»([3])، وأيامُ مِنًى هي الأيامُ المعدوداتِ التي قال اللهُ فيها عزَّ وجلّ: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾([4])، وهي ثلاثةُ أيامٍ بعد يومِ النحرِ هي أيامُ التشريق، وأفضلُ أيامِ التشريقِ أولُها، وهو يومُ القَرّ؛ لأن أهلَ مِنًى يستقِرُّونَ فيه ولا يجوزُ فيه النَّفْر، وفي حديثِ عبدِ اللهِ بنِ قُرْطٍ عن النبِيِّ ﷺ قال: «أعظَمُ الأيامِ عند اللهِ يومُ النَّحْرِ ثم يومُ القَر»([5]).
وقد أَمَرَ اللهُ تعالى بذِكرِهِ في هذه الأيام؛ كما قال تعالى: (واذكروا الله في أيام معدودات) وقال ﷺ: «إنها أيامُ أكْلٍ وشُرْبٍ وذِكرٍ للهِ عزَّ وجلّ»([6]).
وذِكرُ اللهِ عزَّ وجلَّ المأمورُ به في أيامِ التشريقِ أنواعٌ مُتعدِّدة، منها: ذِكرُ اللهِ عزَّ وجلَّ عَقِبَ الصَّلَواتِ المكتوباتِ بالتكبيرِ في أدبارِها، وهو مشروعٌ إلى آخِرِ أيامِ التشريق.
ومنها: ذِكرُهُ بالتَّسميةِ والتكبيرِ عندَ ذَبْحِ النُّسُك، فإن وقتَ ذَبحِ الهدايا والأضاحي يمتدُّ إلى آخِرِ أيامِ التشريق.
ومنها: ذِكرُ اللهِ عزَّ وجلَّ على الأكلِ والشُّرْب، بالتسميةِ في أولِه، والحمْدِ في آخِرِه، وفي الحديثِ عن النبيِّ ﷺ أنه قال: «إن اللهَ عزَّ وجلَّ يَرضَى عنِ العبدِ أن يأكُلَ الأكْلةَ فيَحْمَدَهُ عليها، ويَشرَبَ الشَّرْبةَ فيَحْمَدَهُ عليها» أخرجه مسلم([7]).
ومنها: ذِكرُهُ بالتكبيرِ عند رَمْيِ الجمارِ في أيامِ التشريق، وهذا يَخْتَصُّ به أهلُ المَوسِم.
ومنها: ذِكرُ اللهِ تعالى المُطْلَق؛ فإنه يُستَحَبُّ الإكثارُ منه في أيامِ التشريق، وقد كان عمرُ يُكَبِّرُ بِمنًى في قُبَّتِه، فيسْمَعُهُ الناسُ فيُكَبِّرُون، فتَرْتَجُّ مِنًى تكبيرا([8])، وقد قال تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾([9]).
وقد اسْتَحَبَّ كثيرٌ من السلفِ كَثرَةَ الدعاءِ بهذا في أيام التشريق، قال عِكرِمَة: (كان يُسْتَحَبُّ أن يُقَال في أيام التشريق: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾)([10])، وهذا الدعاءُ مِن أجْمَعِ الأدعيةِ للخير، وكان النبيُّ ﷺ يُكْثِرُ منه (ورُوِيَ أنه أكثرُ دعائِه، وكان إذا دعا بِدُعاءٍ جعله معه؛ فإنه يجمعُ خيرَ الدنيا والآخرة، قال الحسن: الحسنةُ في الدنيا: العِلمُ والعبادة، وفي الآخرة: الجنة، وقال سفيان: الحسنةُ في الدنيا: العِلمُ والرِّزْقُ الطيب، وفي الآخرة الجنة) ([11]).
وقد أمَرَ اللهُ بذِكرِه عند انقضاءِ الصلاة، قال تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾([12])، وقال تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾([13])، وقال تعالى: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾([14])، قال الحسنُ البصري: (أمَرَه إذ فَرَغَ من غَزْوِه أن يجتهِدَ في الدعاءِ والعبادة) ([15])، فـــ (الأعمالُ كُلُّها يُفْرَغُ منها إلا الذِّكر؛ فإنه لا فراغَ له ولا انقضاء) ([16])، قال أحدُ الصالحين: (واللهِ ما طابتِ الدنيا إلا بذِكرِه، ولا الآخرةُ إلا بعَفْوِه، ولا الجنةُ إلا برُؤيتِه)([17])، وبالجُملَةِ فإن (أيامَ التشريقِ يجتمِعُ فيها للمؤمنينَ نعيمُ أبدانِهِم بالأكلِ والشُّرْب، ونعيمُ قُلُوبِهِم بالذِّكرِ والشُّكْر، وبذلك تَتِمُّ النِّعَم، وكُلَّما أحدثُوا شُكْرًا على النِّعمةِ كان شُكْرُهُم نِعمةً أخرى؛ فيُحتاجُ إلى شُكْرٍ آخَر، ولا يَنتهي الشُّكْرُ أبدا)([18])، ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾([19]).
أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيم: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾([20]).
بارك اللهُ لي ولكم في القرآنِ والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآياتِ والحِكمة، وأقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمين، فاستغفِرُوهُ إن ربي غفورٌ رحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والعاقبةُ للمتقين، ولا عُدوانَ إلا على الظالمين، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ له، إلهُ الأولينَ والآخِرِين، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُهُ ورسُولُه، صلى اللهُ وسَلَّمَ وباركَ عليه، وعلى آلِه وصَحبِه أجمعين.
أما بعد:
فاتَّقوا اللهَ عبادَ الله.
أيُّها الإخوةُ في الله:
إن مِن تَمامِ شُكْرِ النِّعَمِ أن يُستعانَ بها على طاعةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وقد أمَرَ اللهُ تعالى في كتابِه العظيمِ بالأكلِ من الطيباتِ والشُّكرِ له، فمن استعان بِنِعَمِ اللهِ على مَعاصيهِ فقد كفر النِّعمَة، وهو جَديرٌ بـأن يُسْلَبَها، ومن هذه النِّعَمِ نِعمَةُ الأكلِ من لُحومِ بهيمةِ الأنعامِ كما في أيامِ التشريق.
وقد أباحَ اللهُ عزَّ وجلَّ ذَبْحَ هذه البَهائِمِ المُطيعةِ الذاكِرةِ له لعبادِهِ المؤمنين؛ حتى تَتَقوَّى بها أبدانُهُم، وتَكْمُلَ لَذَّاتُهُم، فلا يَليقُ بالمؤمنِ إلا مُقابَلةُ هذه النِّعَمِ بالشُّكرِ عليها، والاستعانةِ بها على طاعةِ اللهِ عزَّ وجلَّ وذِكرِه، كما أن هذه الأيامَ أيامُ أكلٍ وشُرْبٍ مَنْهيٌّ عن صِيامِها، وفي ذلك سِرٌّ حسن، وهو أن اللهَ تعالى لَمَّا عَلِمَ ما يُلاقي الوافدونَ إلى بَيتِهِ مِن مَشَاقِّ السَّفَرِ وتَعَبِ الإحرامِ وجِهادِ النُّفوسِ على قضاءِ المَناسِك، شَرَعَ لهم الاستراحةَ عَقِبَ ذلك بالإقامةِ بِمِنًى يومَ النَّحْرِ وثلاثةَ أيامٍ بعدَه، وأمَرَهُم بالأكلِ فيها من لُحومِ نُسُكِهِم، فَهُم في ضِيافةِ الرحمنِ عزَّ وجلَّ فيها؛ لُطْفًا من اللهِ بهم ورأفةً ورحمة، ويُشارِكُهُم في ذلك أهلُ الأمصار؛ لأنهم شارَكُوهم في حُصولِ المغفرة، وفي التَّقَرُّبِ إلى الله تعالى بإراقةِ دِماءِ الأضاحي؛ فشارَكُوهم في أعيادِهِم، وهكذا اشترَكَ الجميعُ في الراحةِ في أيامِ الأعيادِ بالأكلِ والشُّرْب، ونهاهُم عن صِيامها؛ لأن الكريمَ لا يليقُ به أن يُجِيعَ أضيافَه.
صَلُّوا بعد هذا على نبيِّكُم محمد، فقد أَمَرَكُم سُبحانه في مُحْكَمِ تنزيلِهِ بالصلاةِ والسلامِ على رسولِه؛ فقال إرشادًا لكم وتعليما: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
([1]) أُلقيت في 11/12/1420هـ.
([2]) الإسراء: 111.
([3]) (1141).
([4]) البقرة: 203.
([5]) أخرجه أبو داود (1765) والحاكم في "المستدرك" (7522) وقال: (حديث صحيح الإسناد).
([6]) أخرجه مسلم (1141) من حديث نُبيشة الهذلي رضي اللهُ عنه.
([7]) (2734) من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه.
([8]) يُنظر: "صحيح البخاري" (2/20).
([9]) البقرة: 200-201.
([10]) يُنظر: "تفسير ابن رجب" (1/161).
([11]) يُنظر: المصدر السابق (1/161).
([12]) النساء: 103.
([13]) الجمعة: 10.
([14]) الشرح: 7-8.
([15]) يُنظر: "تفسير ابن رجب" (1/162).
([16]) يُنظر: المصدر السابق (1/162).
([17]) هو ذو النون المصري، وقد رواه عنه بإسناده إليه أبو نُعيم في "حلية الأولياء" (9/372) دُون قَسَم.
([18]) "لطائف المعارف" لابن رجب (ص 291).
([19]) إبراهيم: 7.
([20]) البقرة: 203.