«لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى».          20 /3/ 1447هـ

د عبدالعزيز التويجري
1447/03/19 - 2025/09/11 18:10PM

الخطبة الأولى : «لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى».           20 /3/ 1447هـ

الحمدُ للهِ، نوَّرَ قلوبَ العارفينَ بالإيمانِ واليقينِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، المَلِكُ الحقُّ المبينُ، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، صلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ عليه، وعلى آلهِ وأصحابِه وأزواجِه، ومَن تبِعَهُم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ. أمَّا بعدُ

﴿يَأَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا استَعِينُوا بالصَّبرِ وَالصَّلاةِ، إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرينَ﴾.

في الصحيحين عن عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ r حَدَّثَتْهُ، أَنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللهِ: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ فَقَالَ: " لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، وعند الطبراني " وخرج مَاشِيًا عَلَى قَدَمَيْهِ، حتى َأَتَى ظِلَّ شَجَرَةٍ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: «اللهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ ، أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي؟، إِلَى عَدُوٍّ يَتَجَهَّمُنِي، أَمْ إِلَى قَرِيبٍ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي، إنْ لَمْ يَكُنْ بِك غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي؛ غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَك أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمَرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَكَ، أَوْ تُحِلَّ عَلَيَّ سَخَطَكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، لَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ»

ما أعظم الموقف وما أجل الدرس .. يخرج من الطائف، مجروح الجسد، مكلوم النفس،  لم يكن جسده وحده المثخن بالجراح، بل قلبه المكلوم، ذهب يحمل دعوة ورحمة، فكان جزاؤه الأذى والردّ الجارح.

وبعد أن خلا بنفسه بينه وبين ربه، لم يشْك، ولم يصرخ، ولم يُحاسب القدر ، بل ارتقى فوق الألم. . وتوسّل إلى ربه «إنْ لَمْ يَكُنْ بِك غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي.. لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى»

أيُّ قلبٍ هذا الذي لا يرى في المصائب سببًا للشكوى،  بل يقول بلسان الحال والمقال :إن كنتَ راضيًا يارب، فكل ما سوى ذلك هيّن، حتى لو انقلبت عليّ الدنيا!

إِنْ لَمْ يكُنْ بك غَضْبُ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي، ولكن عَافِيَتَكَ أَوْسَعُ لِي،

إِذَا صحَّ مِنْكَ الوُدُّ فَالكُلُّ هَيِّنٌ ... وَكُلُّ الَّذِي فَوقَ الترَابِ تُرَابُ

وَليْتَ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَامِرٌ ... وَبَيْني وَبَيْنَ العَالَمِيْنَ خَرَابُ

في هذه اللحظة، ارتقى النبي ﷺ إلى أسمى مقامات الرضى: لا رضا المتكلف، ولا رضا الصابر فحسب، بل رضى المحبّ الذي لا يرى في البلاء إلا عنايةً خفية، وتربيةً ربانية.، رضا أيقن معه أن ما اختاره الله له، خيرٌ مما كان يختاره لنفسه.

ولكم ان تتخيلوا رجلاً تقدم لوظيفة أحلامه، ومرّ بجميع المراحل بنجاح، ثم في النهاية، تُرفض أوراقه لأمرٍ بسيط.

شعر بالخذلان، وتساءل: "لماذا أنا؟" لكن بدلًا من السخط، رضي بقضاء الله وقال في نفسه: اللهم إن كنتَ قد صرفتها عني لحكمةٍ تعلمها، فإني راضٍ، مطمئنّ القلب."

مضت شهور، وفيها فتح الله له بابًا أعظم: وظيفة قريبة من أهله، بدوام مريح، وبراتب أعلى.. حينها شعر بسعادة لا توصف، لا لأنه كسب المال، بل لأنه أدرك أن ما قدّره الله له أعظم مما كان يتمناه.

تمامًا كما كان حال النبي ﷺ في الطائف: لم يحزن حزن اليائس، بل وقف على عتبة الرضا وقال «إنْ لَمْ يَكُنْ بِك غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي » فلم تكن مكافاته في الطائف، بل كانت بعده :

 جاءه مَلَك الجبال ، وأسلم الجن ، وتهيأت له بيعة العقبة ، وأقام دولة في المدينة ، وفتح مكة وغنم الطائف، ودانت له العرب واعطي كنوز فارس والروم .

لم يربط النبي ﷺ سعادته بالنتيجة، بل ربط سعادته برضا الله عنه.

فمن رضي عن الله، رضي الله عنه، وألقى في قلبه من الطمأنينة ما لا يعرفها إلا من ذاقها.

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾

قد لا يوفق إنسان بزواج او عمل ، فيرضى ويسلم فيعقبه الله خيراً واجرا 

     دع الأيامَ تفعل ما تشاءُ      وطِب نفسًا إذا حكمَ القضاءُ

     ولا تجزعْ لحادثة الليالي        فما لحوادثِ الدنيا بقاءُ

قال ابْنُ مَسْعُودٍ h : هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ.

    وارضَ بما قسمَ المليكُ فإنّهُ       بالرّضى تُغْلَقُ أبوابُ الهمومِ

فالقلبُ إن رضِيَ استراح، وإن أبى   ضجَّت بهِ الأرواحُ في كلِّ الغُيومِ

الرضى ليس ضعفًا، بل قوّة داخلية تنبُت في الداخل ولا تُصنَع في الخارج..

 السرُ في السعادة ليس بكثرة العطاء، بل في قلبٍ يرى في القليل كفاية.. وليس في التملّك، بل في التعلّق بمن يملك كل شيء..

الرضى ليس أن تملك الدنيا، بل أن تملك قلبًا لا يحتاجها.

زينب بنت جحش كانت ترى أن زيد بن حارثة ليس كفئًا لها في النسب، لكنها قبلت الزواج وتزوجت رضاً بأمر النبي ﷺ ورضاً بحكم الله.. ثم طلقها زيد، وأكرمها الله بأن تزوجها النبي ﷺ بوحي من الله! ..الرضا بالتكليف الأول، قادها إلى كرامة لم تتوقعها.

قد يُعجِبُ المرءَ ما يُرجى ويحرمهُ       لعلَّ في ذاكَ حرمانٌ له نعمُ

كم من بلاءٍ رأيناهُ بأعيننا              كان النجاةَ، وفي التأخيرِ يُنحتمُ

الرضا لا يعني أن نُغلق أعيننا عن الألم، بل أن نراهُ بعينٍ راضية .. تعلم أن للقدرِ رسائل، وللبلاءِ مواسم، وأنّ في كلِّ ما كُتب علينا خيرٌ نجهله. فطوبى لمن صافح القدر بقلبٍ ساكن، وابتسم في وجه الحزن لأنه عرف أن الله لا يُخطئ التدبير.

" وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَل اللَّه فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا "

أستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إن ربنا لغفور شكور.

الخطبة الثانيةا لحمدلله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتننا وصلى الله وسلم على على عبده ورسوله اما بعد .

لما توفي النبي ﷺ، ارتجّت المدينة، وذهل الناس، حتى أن عمر بن الخطاب قال وَاللَّهِ مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ: فَلَيُقَطِّعَنَّ أَيْدِي رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ، زَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَدْ مَاتَ !” ولما بلغ أبا بَكْرٍ الصديق موت رسول الله r أَسْنَدَ ظَهْرَهُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاقْطَعَ ظَهْرَاهُ، فَلَمَّا بَلَغَ الْمَسْجِدَ دخل على النبي ﷺ، وقبّله، قال: "طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا". ثم خرج إلى الناس، وقال كلمته الخالدة: "مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ"

أي قلب هذا الذي ثبت وسط زلزال الفقد؟!  لم يكن هذا الثبات من أبي بكر لأنه أقلهم مصيبة بل هو اشدهم حباً للنبي r وأعظمهم تألما لموته ، ولكنه الرضا في قلب أبي بكر أعظم من كل مشاعر الفقد ..

ولد للنبي ﷺ ابناً وسماه إبراهيم فأحبّه النبي ﷺ حبًّا شديدًا، فكان يُلاعبه ويقبّله ويحمله ويشمه، قال أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ h على ابنه إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ r إِبْرَاهِيمَ، فَقَبَّلَهُ، وَشَمَّهُ، فمرض ابنه إِبْرَاهِيمَ بعد ذلك، فلما اشتدّ عليه المرض، وبدأت علامات الموت تظهر ، قال أنس : ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ r تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ»، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى، فَقَالَ: «إِنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، وَالقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلاَ نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ»

لم يدفن النبي r الحزن داخل قلبه، بل أطلقه دموعًا جرت على خده الشريف ..

الرضا لا يُناقض الإحساس ، الرضا لا يعني إطفاء المشاعر، بل أن تكون المشاعر راضية بالله، تُبكيك عاطفتُك، لكن لا تُزعزع يقينك. «وَلاَ نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا»

ولستُ أرى السُرورَ بدائمٍ لي        ولا حُزنًا يدومُ ولا سرورا

إذا ما ضاقَ صدري قلتُ صبرًا     لعلّ اللهَ يكتبُ لي أجورا

{ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}

ثم صلوا وسلموا على المبعوث رحمة وهداية للعالمين اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد ..

اللهم آمنا في دورنا واصلح ولاة امورنا .....

المرفقات

1757603443_«لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى».docx

1757603443_«لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى».pdf

المشاهدات 1075 | التعليقات 0