لنُعِيدَ ضَبطَ البوصَلة (تعظيمُ الله جلّ في عُلاه)

نواف الشيخي
1447/04/24 - 2025/10/16 20:45PM
 
الحمد لله ذي العِزَّةِ والجَلالِ، غافِرِ الذَّنْبِ وقابِلِ التَّوبِ شديدِ المِحالِ، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسولُهُ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ وبارَكَ عليه، وعلى آلِ بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.
(يا أيها الذين آمَنوا اتقوا الله حقَّ تقاته ولا تموتُنّ إلا وأنتم مسلمون).
 
أما بعد ؛
فإن خطبةَ اليومِ مختلفةٌ تمامًا، وذاتُ شأنٍ آخر، حديثُنا المساء له طابعٌ خاص، ووقعٌ فريدٌ على النفسِ، حديثٌ يكسرُ عجلةَ الحياةِ المتسارعةِ، للتوقفِ قليلًا، والتفكيرِ فيه كثيرا..
.إنه حديثٌ نابعٌ عن وحشةٍ أجدها في القلبِ، وأزعم أن كلَّ واحدٍ منكم يجدها في نفسِه.. أحدثُكم عن ربِّنا الله، جلَّ في علاه
..
أيها المسلمون: الله الذي إياه تعبدون، وله تصلّون وتصومون، إلهٌ عظيمٌ، هو أحقُّ من ذُكِرَ، وأحقُّ من عُبِدَ، وأنصرُ من ابتُغِي، وأرأفُ من ملكَ، وأجودُ من سُئِلَ، وأكرمُ من قصِدَ، وأعزُّ من التُجِئَ إليهِ، وأوثقُ من تُوكِّلَ عليه، أرحمُ بعبدهِ من الوالدةِ بولدِها، وأشدُّ فرَحًا بتوبةِ التائبِ من فرَحِ من وجد ناقتَه بعد فقدِها.
إن في القلبِ شعثٌ لا يَلُمُّه إلا الإقبالُ على الله، وفي النفسِ وحشةٌ لا يزيلها إلا الأنسُ باللهِ في خلوته، وفيه حزنٌ لا يذهبه إلا السرورُ بمعرفتِه وصدقِ معاملتِه، وفيه قلقٌ لا يُسكِّنه إلا الاجتماعُ عليه، ولو أعطيَ الدنيا 
 ..وما فيها لم تُسد تلك الفاقةُ أبدًا.
 
الله أعظمُ مما جال في الفكرِ
وحكمُه في البرايا حكمُ مقتدرِ
مولىً عظيمٌ حكيمٌ واحدٌ صمدٌ
حيٌّ عزيزٌ كبيرٌ فاطرُ الفطرِ.

والله لو كانت البحارُ محابر، والأرضونُ السبعُ دفاتر؛ ما وفَت بتدوينِ فضله وأفضاله، وبيانِ عظمته وبديعِ فعاله.
تأملْ يا رعاك الله في آياتِ الله واربطْ بينها: آياتٌ تقرأها في كتابٍ مسطور، وآياتٌ تشاهدها في الكون المنظور.. تفكّر فيها وتدبر ليمتلئ قلبك إجلالًا وتعظيمًا للعلي الكبير، وهذا أقربُ طريقٍ للتعرّفِ على
الله، أن تتفكّر وتتدبر في كل موطنٍ في القرآن عرّف الله فيه بنفسه، وصفاتِه، وبديعِ صنعِه في خلقه.

فلقد تعرف اللهُ -جلَّ جلالُه- إلى عباده فقال: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ
(الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ).
إنه ربنا الرحمن الرحيم، الذي تمدّح ومجّد نفسه فقال: (هو الذي يُريكُمُ البرقَ خوفًا وطمعًا ويُنشئُ السحابَ الثقَال، ويُسَبِّحُ الرعدُ بحمدِهِ، والملائكةُ من خيفتِه، ويُرسِلُ الصواعقَ فيصيبُ بها من يشاءُ وهم يُجادِلُونَ في اللهِ وهو شديدُ المحالِ).
إنه اللهُ الذي أبانَ عظمته فقال: (وما قدَرُوا اللهَ حق قدره، والأرضُ جميعًا قبضتُهُ يوم القيامة، والسمواتُ مطوِيَّاتٌ بيمينه، سبحانَه وتعالى عمَّا يُشْرِكُونَ).
  تأملْ هذا النظامَ الدقيق لجريانِ الشمسِ والقمر، كيف أنه لم يتعطّلْ ولا يتعطّلُ إلى يوم القيامة؟ (وَٱلشَّمۡسُ تَجۡرِي لِمُسۡتَقَرّٖ لَّهَاۚ ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ * وَٱلۡقَمَرَ قَدَّرۡنَٰهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلۡعُرۡجُونِ ٱلۡقَدِيمِ * لَا ٱلشَّمۡسُ يَنۢبَغِي لَهَآ أَن تُدۡرِكَ ٱلۡقَمَرَ وَلَا ٱلَّيۡلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِۚ وَكُلّٞ فِي فَلَكٖ يَسۡبَحُونَ
بل كيف لشأن السماوات السبعِ الطباق أن يُرفعَ سقفُها بلا عمدٍ؟ (اللهُ الذي رفعَ السمواتِ بغير عمدٍ ترونها ثم استوى على العرشِ).
ولا تذهب بعيدًا، فنفسُك التي بين جنبيك، كيف سوّاها وركّبَ عليها جسدَك؟ {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ}.
فهذه وغيرها من الآيات التي تتحدث عن الله جل في علاه، وآياتِه في خلقِه وبديعِ فِعالِه، ينبغي للعبد أن يقفَ معها متدبرًا ويتعرفَ إلى ربه منها.

عباد الله: وصعودًا إلى عالم الملائكة، يحكي لنا نبيُنا صلى الله عليه وسلم تلك الأحوال العجيبة في تعظيمهم لسيدهِم وخالقِهم، فيقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسنِ في سننِ الترمذي: (إني أرى ما لا ترون، وأسمعُ ما لا تسمعون، أطَّت السماء، وحُقّ لها أن تئطّ، ما فيها موضِعُ أربعِ أصابعَ إلا وملكٌ واضعٌ جبَهتَه ساجدًا لله، والله لو تعلمون ما أعلم لضَحِكتم قليلًا ولَبَكَيْتم كثيرًا، وما تلذّذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصُعُدات تجأرون إلى الله).

وفي حديثٍ آخر حسّنه ابن كثير، يصف النبيُّ صلى الله عليه وسلم حالَ ملائكة الرحمن الذين يعرفون ربهم: أنهم ما بين راكعٍ وساجدٍ لم يرفعوا رؤوسهم منذ خلق اللهُ السماوات والأرض، ولا يرفعونها إلى يوم القيامة، فإذا رفعوا رؤوسَهم نظروا إلى وجهِ الله عز وجل، قالوا: "سبحانك! ما عبدناك حقَّ عبادتك."

وأما نحن، فيعاتبنا ربُّنا ويقول: {مَالكُم لا ترجون لله وقارًا)، أي لا تعظمونه حق تعظيمه؟ والجواب، ذكره الله في موطنٍ آخر فقال تعالى: { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ }.قالَ الحَسَنُ البصريُّ عن هذا الران: هو الذَّنْبُ عَلى الذَّنْبِ، حَتّى يُعْمِيَ القَلْبَ.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وأصلح فساد قلوبنا..
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..

الخطبة الثانية

الحمد لله حمداً كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وصلى الله وسلم على رسوله وأتباعه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فإن أعظمَ البلاءِ في البشرية هو الجهلُ بالله، وأعظمَ التوفيقِ والهداية هو العلمُ بالله، فبقدرِ ما في قلبك من تعظيمِ الله تترجمُهُ إلى أقوالٍ وأفعال، وبقدر من تعظّم؛ تكونُ العبوديةُ منك إليه.
فيا إخواني: لنجلس مع أنفسِنا، بخلوةِ ربِّنا، لنوقفَ عجلةَ الحياةِ المتسارعة، ونعيدَ ضبطَ البوصلة..
 
إلى متى علاقتُنا بالله جوفاء؟ لا قرآن ولا دعاءً ملحًّا ولا بكاء؟ صلاةً بلا روح، أذكارًا بلا معنى، ثم الذنوبُ تترى، { أَلَمۡ يَأۡنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن تَخۡشَعَ قُلُوبُهُمۡ لِذِكۡرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلۡحَقِّ }.
ألم يَحِن لنا أن نذوقَ طعم الإيمان؟ فإن للإيمان طعمًا وحلاوةً كما وصفه النبيُ صلى الله عليه وسلم.وفي هذا يقول ابنُ أدهم في تصويرٍ بليغٍ لحلاوة الإيمان، والأنسِ القلبيِّ بطاعةِ الرحمن، يقول: (لو يعلم
الملوكُ وأبناءُ الملوكِ ما نحن فيه من النعيم؛ لجالدونا عليه بالسيوف).

نعم قد تأتي على المؤمن أوقاتٌ يفتُر فيها، ثم ينشط فهذه طبيعةُ النفس، أما أن تكونَ الغفلةُ عن الله واليومِ الآخر هي الحالُ الدائمُ على القلبِ في أيامِه وساعاتِه وليلِه ونهارِه، فعوذًا بالله عوذا.
فيا أُخَيّ، يا من عرفتَ الله وعظمتَه، وذكرتَ ماضيك وغفلتَه، وآمنتَ بالأجلِ وبغتتَه.. فله أعِدّ، ولوقارِ الله جِدّ.

تفتُّ فؤادَك الأيامُ فتّا
وتنحِتُ جسمَك الساعاتُ نحتا

وتدعوك المنونُ دعاءَ صدقٍ
ألا يا صاحٍ أنت أريدُ أنتَ

أخا رشدٍ دعوتُك لو أجبتا
إلى ما فيه حظُّك إن عقَلتا

تنامُ الدهرَ ويحك في غطيطٍ
بها، حتى إذا مُتّ انتبهتَ

وتشهدُ كلَّ يومٍ دفنَ خلٍّ
كأنك لا تُرادُ لما شهِدتَّ

وليس يضرُك الإقتارُ شيئًا
إذا ما أنت ربَّك قد عرفتَ

فماذا عنده لك من جميلٍ
إذا بفِناءِ طاعته أنختَ

وناد إذا سجدت له اعترافًا
بما نادا ذو النونِ ابنُ متّى

ولازم بابه قرعًا عساه
سيفتح بابَه لك إن قرعتَ

وأكثر ذكره في الأرض دأبًا
لتُذكر في السماء إذا ذَكرتَ

ولا تقل الصِّبا فيه امتهالٌ
واذكر كم صغيرٍ قد دفنتَ

فليست هذه الدنيا بشيءٍ
تسوؤك حقبةً وتسرُّ وقتَا

فليس بنافعٍ ما نِلتَ منها
من الفاني إذا الباقي حُرِمتَ

ولا تحزن على ما فات منها
إذا ما أنت في أُخراك فُزتَ

ولم تُخلق لتعمُرَها ولكن
لتعبُرَها، فَجِد لِما خُلِقتَ
 
اللهم ردنا إليك ردًا جميلاً،
اللهم املأ قلوبنا خشيةً لك وتعظيمًا..
اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق ...
المشاهدات 421 | التعليقات 0