من الصور الجميلة للأوقاف

من الصور الجميلة للأوقاف 1447/5/2هـ

أيها الإخوة: كان النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- ينوع أساليب الدعوة إلى الخير، فمرة بالأمر أو النهي الجَلِيَيَنِ، ومرةً بالفعل للاقتداء.. ويَتجاوَز أحيانًا التعليم المباشر، إلى دَوْر المربِّي والمرشِد والدَّاعية، وذلك بالمسائلة.. وهي أسلوبٌ جذابٌ مقنعٌ يحفزُ عَقْلَ المتلقِّيَ للتفكيرِ.. ويُعَدُ السؤالُ أعلى الطُرُقِ للنِّقاش وإثارة الذِّهن..

عليه تأملوا معي يا رعاكم الله هذه المسائلة النبوية لأصحابِهِ -رضوان الله عليهم-.. لبيان المفهوم الدنيوي الصِرْفِ للمال والشح فيه..

حَدَّثَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ مَسْعُوْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ: «أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ.؟» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ! قَالَ: «فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ» رواه البخاري والنسائي.

ولعلي أوجه مساءلة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- لنا جميعًا، ولأهل اليُسرِ والغنى خاصة، فأقول: أيكم مال وارثه أحبُّ إليه من ماله.؟ ستجيبون بلا شك: مالُنا أحب! إذًا ما دامت أموالنا أحب إلينا فماذا ننتظر؟ لما لا نبذل منها في سبل الخير؛ فمن أفضل الصدقات شرعت في الإسلام الوقف، وهو: تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة.. أي: أن العين الموقفة باقية لا تورث ولا تباع ولا توهب.. أما ريعها ومنفعتها فهي ثابتة دائمة تصرف في مصارف الخير، ووجوه البرِ بِرًا بمن أُوقِفَتْ عليه، وسدًا لحاجتهم، وقياماً بمبدأ التكافل الاجتماعي الذي ندب إليه الإسلام.   

ففي الوقف إحياء للسنة.. وبه تطول أعمارنا، وتَكْثُرَ به حسناتنا، ويَجْرِي أجرها علينا في حياتنا وبعد وفاتنا.. فالوقف من أفضل وجوه البر والصدقة.. واجعلوا أوقافكم في جميع أبواب البر لتزكوا وتفلحوا؛ فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-وَهُوَ يَقْرَأُ: (أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ) ثم قَالَ: «يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي. قَالَ: وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ» رواه مسلم. أي يغتر بنسبة المال إلى نفسه..

وما سوى ذلك فأنتم ذاهبون عنه وتاركوه للناس؛ يقول الحق تبارك وتعالى: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ) [الأنعام:94] أي تركتم ما أعطيناكم من أموال الدنيا وراء ظهوركم للوارثين من بعدكم.. وقال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ* وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المنافقون:9-11].

ولقد تنافس أصحاب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- على إيقاف الضياع والدور، ولم يكن أَحَدٌ مِن أصْحَابِ النَبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- ذُو مَقدِرَةٍ إِلاَّ وَقَفَ.. وتتابعت الأمة بعدهم تُوقف العقارات والضياع الضخمة في زمن يسرهم، وسعة ذات اليد عندهم.. بل لم يمنعهم شظفُ العيش، وقلةُ ذات اليد من الوقف! حتى سمعنا عن أوقافٍ بسيطة لأغراض بسيطة أيضاً مثل: قِرَبُ الماء، وبعضُ الكتب الصغيرة، وسُرجُ المساجد وزيتُها، وغيرُها كثير.. يحدوهم لذلك رغبةٌ بالأجر العظيم للوقف ويقينٌ بحاجة الأمة له.. وإيمانًا منهم بأن الوقف من أعظمِ الصدقات وأكثرِها أجرًا، خصوصًا إذا كان في حالِ الصحة تيمنًا بالتوجيه النبوي الكريم، واغتنامًا لأفضل أوقات الصدقة؛ فَقَدْ جاء رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ.. وفي رواية عند مسلم: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا.؟ فَقَالَ الرسولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «أَمَا وَأَبِيكَ لَتُنَبَّأَنَّهُ، قَالَ: أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ حَرِيصٌ».. وفي رواية: «وأنت صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَأْمُلُ الْغِنَى وَتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلا تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ، قُلْتَ: لِفُلانٍ كَذَا وَلِفُلانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلانٍ» رواه البخاري فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-.

أيها الأحبة: لما لا يجعل أحدنا من أهدافه في الحياة إيقاف شيء من ماله ولو كان قليلًا.. ولا تُـمْهِل.. واعلم أنه لا يشترط أن يكون الوقف عقارًا.. ويمكن أن يكون أي عين نافعة.. واستشر أهل الخبرة قبل أن توقف..

فمن أنواع الوقف الخافية على كثير من الناس الوقف غير المنجز ويقصد به إجراء الوقف واشتراط منفعته للموقف في حياته ثم بعد وفاته يعود ريعه لما أوقفه عليه.. ينبغي للموقف أن يختار من وجوه البر ما يكون نافعاً للأمة، وساداً لحاجتها.. وعلى الموقف اختيار الناظر الأمين على الوقف إذا كان ذا قيمة ويحتاج إلى ناظر وأن يضع للناظر نسبة من ريعه.. وعلى الموقف أن يبادر بإثبات وقفه ولا يؤخر، حتى لا يكون سببَ نزاع بين الورثة.. وأدعو الموسرين بأن يشتركوا في أوقاف كبيرة وعامة تنفع الأمة..

أيها الإخوة: يظن بعضُ الناس بأن الصدقة تُنْقِصُ المال، وقد غاب عن أذهانهم، قَوْلَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ، إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ». رواه مسلمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-. وفي المقصود بـ «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ» وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُبَارَكُ فِيهِ وَيَدْفَعُ عَنْهُ الْمَضَرَّاتِ فَيَنْجَبِرُ نَقْصُ الصُّورَةِ بِالْبَرَكَةِ الْخَفِيَّةِ وَهَذَا مُدْرَكٌ بِالْحِسِّ وَالْعَادَةِ.. وَالثَّانِي أَنَّهُ وَإِنْ نَقَصَتْ صُورَتُهُ كَانَ فِي الثَّوَابِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ جَبْرٌ لِنَقْصِهِ وَزِيَادَةٌ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ" النووي في شرح مسلم رحمهما الله.

أسأل الله تعالى أن يوفقنا لبذل الصدقات ويجنبنا الموبقات وصلى الله وسلم على نبينا محمد..

الخطبة الثانية:

أيها الأحبة: لا تحقروا القليل من الوقف، ويمكن لمن لا يستطيع الاستقلال بوقف مستقل أن يشارك بجزء من ماله حسب طاقته مع غيره في الأوقاف المشترك؛ وهي كثيرة، وتتبناها الجهات الخيرية.. وابشروا، فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ، وَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ [مهره، وهو الصغير من الخيل] حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ» رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-.

ومن الصور الجميلة للوقف والتي ورد الحث عليها إيقاف المصاحف، وهي عظيمة الأجر قليلة القيمة، وقد قل اهتمام بعض الناس بها، قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «‌سَبْعٌ ‌يَجْرِي ‌لِلْعَبْدِ ‌أَجْرُهُنَّ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ، وهُو فِي قَبْرِهِ: مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا، أَوْ أَجْرَى نَهْرًا، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا، أَوْ غَرَسَ نَخْلا، أَوْ بَنَى مَسْجِدًا، أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفًا، أَوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ». رَوَاهُ الْبَزَّار وَأَبُو نعيم وَالْبَيْهَقِيّ عَن أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وقال الألباني حسن لغيره.. وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لاِبْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ» رواه بن ماجة وابن خزيمة وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وحسنه الألباني.. ومن جميل صور وقف المصاحف؛ أن يوقف المسلم مصحفه الذي يقرأ فيه لوالديه وهو بهذا يحوز أجر بر والديه، وأجر الوقف، وأجر قراءته..

ومن الصور الجميلة للوقف إهداء المريض أو أهل المتوفى سند أو شهادة وقف للمريض أو عن الميت والجمعيات لديها متاجر إلكترونية يمكنك الإيقاف عن طريقها وأنت في بيتك.. وتقدم للمريض شهادة الوقف أو سنده، يكون عينًا جارية له في حياته، وبعد موته، وهذا خير له من باقة ورد تذبل بعد يومٍ أو يومين ومآلها للنفايات..

ومن الصور الجميلة للوقف أن يخصص الإنسان مبلغًا ولو بسيطًا كل شهر من مرتبه ويودعه في أحد الأوقاف المعلنة في بلادنا وسيجد نفسه بعد فترة قد شارك في أوقاف كثيرة..

أيها الإخوة: ونحن الآن نتفيأ في صلاتنا ظِلَّ وقفٍ منذ عقود يجري للموقف أجره.. فرحم الله من بناه وأشرف عليه وغفر لهم ولمن صلى فيه..  

 وصلوا وسلموا على نبيكم.

 

 

المشاهدات 141 | التعليقات 0