مُهاجرو البحر لهم هِجرتان

د. محمود بن أحمد الدوسري
1447/04/24 - 2025/10/16 10:41AM

مُهاجرو البحر لهم هِجرتان

د. محمود بن أحمد الدوسري

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِهِ الْكَرِيمِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ: فَعَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَلَغَنَا مَخْرَجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ، فَخَرَجْنَا مُهَاجِرِينَ إِلَيْهِ، أَنَا وَأَخَوَانِ لِي، أَنَا أَصْغَرُهُمْ، أَحَدُهُمَا: أَبُو بُرْدَةَ، وَالْآخَرُ: أَبُو رُهْمٍ، فِي ثَلَاثَةٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي، فَرَكِبْنَا سَفِينَةً، فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ بِالْحَبَشَةِ([1])، فَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَأَقَمْنَا مَعَهُ حَتَّى قَدِمْنَا جَمِيعًا([2])، فَوَافَقْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ، وَكَانَ أُنَاسٌ مِنَ النَّاسِ يَقُولُونَ لَنَا - يَعْنِي لِأَهْلِ السَّفِينَةِ: «سَبَقْنَاكُمْ بِالْهِجْرَةِ»([3]).

وَدَخَلَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، وَهِيَ مِمَّنْ قَدِمَ مَعَنَا، عَلَى حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَائِرَةً، وَقَدْ كَانَتْ هَاجَرَتْ إِلَى النَّجَاشِيِّ فِيمَنْ هَاجَرَ، فَدَخَلَ عُمَرُ عَلَى حَفْصَةَ، وَأَسْمَاءُ عِنْدَهَا، فَقَالَ عُمَرُ - حِينَ رَأَى أَسْمَاءَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَتْ: أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، قَالَ عُمَرُ: الْحَبَشِيَّةُ هَذِهِ؟ الْبَحْرِيَّةُ هَذِهِ؟ قَالَتْ أَسْمَاءُ: نَعَمْ، قَالَ: سَبَقْنَاكُمْ بِالْهِجْرَةِ؛ فَنَحْنُ أَحَقُّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْكُمْ، فَغَضِبَتْ، وَقَالَتْ: كَلَّا وَاللَّهِ؛ كُنْتُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطْعِمُ جَائِعَكُمْ، وَيَعِظُ جَاهِلَكُمْ، وَكُنَّا فِي دَارِ - أَوْ فِي أَرْضِ - الْبُعَدَاءِ الْبُغَضَاءِ بِالْحَبَشَةِ، وَذَلِكَ فِي اللَّهِ، وَفِي رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَايْمُ اللَّهِ لَا أَطْعَمُ طَعَامًا، وَلَا أَشْرَبُ شَرَابًا؛ حَتَّى أَذْكُرَ مَا قُلْتَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَحْنُ كُنَّا نُؤْذَى وَنُخَافُ، وَسَأَذْكُرُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَسْأَلُهُ، وَاللَّهِ لَا أَكْذِبُ، وَلَا أَزِيغُ، وَلَا أَزِيدُ عَلَيْهِ.

فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّ عُمَرَ قَالَ: كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: «فَمَا قُلْتِ لَهُ؟»، قَالَتْ: قُلْتُ لَهُ: كَذَا وَكَذَا، قَالَ: «لَيْسَ بِأَحَقَّ بِي مِنْكُمْ، وَلَهُ وَلِأَصْحَابِهِ هِجْرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَكُمْ أَنْتُمْ - أَهْلَ السَّفِينَةِ - هِجْرَتَانِ([4])».

قَالَتْ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ أَبَا مُوسَى وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ يَأْتُونِي أَرْسَالًا([5])، يَسْأَلُونِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، مَا مِنَ الدُّنْيَا شَيْءٌ هُمْ بِهِ أَفْرَحُ، وَلَا أَعْظَمُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِمَّا قَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ([6]). قَالَتْ أَسْمَاءُ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ أَبَا مُوسَى، وَإِنَّهُ لَيَسْتَعِيدُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنِّي. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

عِبَادَ اللَّهِ.. وَمِنْ أَهَمِّ الْفَوَائِدِ وَالْعِبَرِ فِي قِصَّةِ مُهَاجِرِي الْبَحْرِ:

1- تَشَارُكُ الْإِخْوَةِ وَالْأَقَارِبِ فِي الْخَيْرِ: فَقَدْ خَرَجَ أَبُو مُوسَى وَأَخَوَاهُ: أَبُو بُرْدَةَ وَأَبُو رُهْمٍ، مُهَاجِرِينَ. وَلَا شَيْءَ هُوَ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الْمُشَارَكَةِ فِي الْهِجْرَةِ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالدَّعْوَةِ لِدِينِ اللَّهِ، وَهَذَا مِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَمِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ الَّتِي تَعْقُبُهَا الْبَرَكَةُ.

2- تَحَمُّلُ الصِّعَابِ وَالْمُخَاطَرَةِ لِأَجْلِ الدِّينِ: فَإِنَّ رُكُوبَ الْبَحْرِ – وَخَاصَّةً فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ – شَدِيدٌ، وَالْأَخْطَارُ مُحْدِقَةٌ وَمُتَوَقَّعَةٌ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ؛ وَلِذَلِكَ حُرِّمَ رُكُوبُ الْبَحْرِ عِنْدَ هَيَجَانِهِ وَاضْطِرَابِهِ، وَاشْتِدَادِ مَوْجِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَكِبَ الْبَحْرَ عِنْدَ ارْتِجَاجِهِ فَمَاتَ؛ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ([7])» حَسَنٌ – رَوَاهُ أَحْمَدُ.

3- وُجُوبُ الْوَفَاءِ لِلدِّينِ: رَغْمَ كُلِّ مَا يَلْقَاهُ الْمُسْلِمُ فِي سَبِيلِهِ مِنْ أَذًى وَمَشَاقَّ.

4- وُجُوبُ الثَّبَاتِ عَلَى الدِّينِ فِي بِلَادِ الْغُرْبَةِ، وَزَمَنِ الْغُرْبَةِ: وَأَلَّا يَتَضَجَّرَ الْمُسْلِمُ إِذَا سَكَنَ فِي بِلَادٍ غَيْرِ بِلَادِهِ؛ فَلَعَلَّ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ فِي دِينِهِ وَمَعَاشِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

5- عِنْدَ تَعَارُضِ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا؛ تُقَدَّمُ مَصَالِحُ الدِّينِ: فَإِذَا كَانَ الْخُرُوجُ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ أَنْفَعَ لَهُ فِي دِينِهِ؛ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ، وَيَتْرُكُ بَلَدَهُ وَدِيَارَهُ، مُسْتَحْضِرًا مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ حُسْنِ الْعُقْبَى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النِّسَاءِ: 100]. وَالْمُرَاغَمُ: مُشْتَمِلٌ عَلَى مَصَالِحِ الدِّينِ، ‌وَالسَّعَةُ: ‌عَلَى ‌مَصَالِحِ الدُّنْيَا([8]).

6- الْغَازِي فِي الْبَحْرِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الْغَازِي فِي الْبَرِّ: لِأَنَّ الْغَزْوَ فِي الْبَحْرِ أَشَدُّ خَطَرًا. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ([9]) مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ»، أَوْ «مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَكَثِيرٌ مِنَ الْفُتُوحَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ لَمْ تَتِمَّ إِلَّا بِرُكُوبِ الْبَحْرِ، وَالْمُخَاطَرَةِ الشَّدِيدَةِ، وَهَذَا -لَا شَكَّ- أَعْظَمُ أَجْرًا.

7- اسْتِحْبَابُ التَّحَدُّثِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى: فَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِأَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «سَبَقْنَاكُمْ بِالْهِجْرَةِ؛ فَنَحْنُ أَحَقُّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْكُمْ»، فَغَضِبَتْ، وَقَالَتْ: «كَلَّا وَاللَّهِ؛ كُنْتُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطْعِمُ جَائِعَكُمْ، وَيَعِظُ جَاهِلَكُمْ، وَكُنَّا فِي دَارِ - أَوْ فِي أَرْضِ - الْبُعَدَاءِ الْبُغَضَاءِ بِالْحَبَشَةِ». فَتَحَدَّثَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَارْتَفَعَ بِهَا.

الخطبة الثانية

الْحَمْدُ لِلَّهِ... أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ.. وَمِنَ الْفَوَائِدِ وَالْعِبَرِ فِي قِصَّةِ مُهَاجِرِي الْبَحْرِ:

8- أَهَمِّيَّةُ اخْتِيَارِ الْمَكَانِ الْمُنَاسِبِ، وَالْبِيئَةِ الْمُنَاسِبَةِ عِنْدَ الْفِرَارِ بِالدِّينِ: قَالَتْ

أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: لَمَّا ضَاقَتْ عَلَيْنَا مَكَّةُ، وَأُوذِيَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفُتِنُوا؛ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ ‌بِأَرْضِ ‌الْحَبَشَةِ ‌مَلِكًا لَا يُظْلَمُ أَحَدٌ عِنْدَهُ، فَالْحَقُوا بِبِلَادِهِ، حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجًا وَمَخْرَجًا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ» حَسَنٌ – رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.

9- إِذَا ضُيِّقَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي دِينِهِ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهَا إِلَى بَلَدٍ آخَرَ: يَسْتَطِيعُ أَنْ يُقِيمَ فِيهِ شَعَائِرَ دِينِهِ.

10- الْمُسْلِمُ كَالْغَيْثِ، حَيْثُ حَلَّ نَفَعَ: فَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ هُمُ الَّذِينَ بَيَّنُوا لِلنَّجَاشِيِّ وَقَسَاوِسَتِهِ أُصُولَ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ - وَلَيْسَ كَمَا يَزْعُمُ النَّصَارَى، فَأَقَامُوا عَلَيْهِ الْحُجَّةَ، وَدَعَوْهُمْ إِلَى الْحَقِّ، عَلَى مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الضَّعْفِ وَالْخَوْفِ، وَالْغُرْبَةِ، وَقِلَّةِ الْحِيلَةِ.

فَمِنَ الْأَهَمِّيَّةِ بِمَكَانٍ: ثَبَاتُ الْأَقَلِّيَّاتِ الْمُسْلِمَةِ عَلَى دِينِهِمْ فِي بِلَادِ الْغُرْبَةِ، فَهَذَا لَهُ أَكْبَرُ الْأَثَرِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى دِينِ اللَّهِ، وَالتَّعْرِيفِ بِهِ، وَإِظْهَارِ مَحَاسِنِهِ.

11- مَنْ هَاجَرَ إِلَى بَلَدٍ، وَوَجَدَ فِيهِ الْأَمْنَ عَلَى نَفْسِهِ وَدِينِهِ؛ فَقَدْ أَرْغَمَ بِذَلِكَ أُنُوفَ مَنْ ضَيَّقُوا عَلَيْهِ فِي بَلَدِهِ: وَرُبَّمَا نَدِمُوا عَلَى إِخْرَاجِهِ؛ فَإِنَّ قُرَيْشًا أَرْسَلَتْ إِلَى النَّجَاشِيِّ مِنْ رِجَالِهَا، وَمَعَهُمُ الْهَدَايَا لَهُ وَلِأَسَاقِفَتِهِ؛ كَيْ يُعِيدَ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى مَكَّةَ، فَيَمْنَعُوهُمْ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى دِينِهِمْ، وَمِنْ إِقَامَةِ شَعَائِرِهِ وَهُمْ آمِنُونَ.

12- بَقَاءُ الْمُسْلِمِ فِي بَلَدٍ لَا يَسْتَطِيعُ فِيهِ إِقَامَةَ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، فِيهِ خَطَرٌ عَظِيمٌ: قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ([10]) قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النِّسَاءِ: 97]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [الْعَنْكَبُوتِ: 56]. فَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْهِجْرَةَ مِنْ أَكْبَرِ الْوَاجِبَاتِ، وَتَرْكَهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ؛ بَلْ مِنَ الْكَبَائِرِ([11]).

13- الرُّجُوعُ إِلَى أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ: لِمُبَادَرَةِ أَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فِي هَذَا الْأَمْرِ.

14- الْأَمَانَةُ فِي نَقْلِ الْأَخْبَارِ، وَتَوْضِيحُ السُّؤَالِ عِنْدَ الِاسْتِفْتَاءِ: حَيْثُ قَالَتْ أَسْمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «وَسَأَذْكُرُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَسْأَلُهُ، وَاللَّهِ لَا أَكْذِبُ، وَلَا أَزِيغُ، وَلَا أَزِيدُ عَلَيْهِ».

15- يَنْبَغِي لِلْمُفْتِي أَنْ يَتَثَبَّتَ مِنَ السَّائِلِ، وَخَاصَّةً عِنْدَ حُدُوثِ الْخِلَافِ: لِقَوْلِهِ: فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّ عُمَرَ قَالَ: كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: «فَمَا قُلْتِ لَهُ؟»، قَالَتْ: قُلْتُ لَهُ: كَذَا وَكَذَا، قَالَ: «لَيْسَ بِأَحَقَّ بِي مِنْكُمْ...».

16- الْفَرَحُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ، وَالتَّحَدُّثُ بِهَا، مَعَ اسْتِمْرَارِ الْاغْتِبَاطِ وَالسَّعَادَةِ: قَالَتْ أَسْمَاءُ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ أَبَا مُوسَى وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ يَأْتُونِي أَرْسَالًا، يَسْأَلُونِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، مَا مِنَ الدُّنْيَا شَيْءٌ هُمْ بِهِ أَفْرَحُ، وَلَا أَعْظَمُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِمَّا قَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.


([1]) فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ بِالْحَبَشَةِ: كَأَنَّ ‌الرِّيحَ ‌هَاجَتْ ‌عَلَيْهِمْ، فَمَا مَلَكُوا أَمْرَهُمْ، حَتَّى أَوْصَلَتْهُمْ بِلَادَ الْحَبَشَةِ. انظر: فتح الباري، (7/190).
([2]) وفي روايةٍ في الصحيحين: «فَقَالَ جَعْفَرٌ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَنَا هَا هُنَا، وَأَمَرَنَا بِالإِقَامَةِ، فَأَقِيمُوا مَعَنَا فَأَقَمْنَا مَعَهُ، حَتَّى قَدِمْنَا جَمِيعًا».
([3]) سَبَقْنَاكُمْ بِالْهِجْرَةِ: ومقصودُهُم: التَّحدث بِنِعْمَةِ الله، والفرحُ بفضل الله ورحمتِه، والاغتباطُ بالسَّبقِ.
([4]) وَلَكُمْ أَنْتُمْ - أَهْلَ السَّفِينَةِ – هِجْرَتَانِ: لأنهم هاجروا إلى أرض الحبشة، وهاجروا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، كان ذلك عن طريق البحر، وما فيه من المشقة والمعاناة. قال ابن حجر رحمه الله: (ظَاهِرُهُ: تَفْضِيلُهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَفْضِيلُهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ بَلْ مِنَ ‌الْحَيْثِيَّةِ ‌الْمَذْكُورَةِ) انظر: فتح الباري، (7/486). 
([5]) يَأْتُونِي أَرْسَالًا: أي: أَفواجًا، وفِرَقًا مُتَقَطِّعَةً، يَتْبَعُ بعضُهم بَعضًا. يَجِيئُونَ إِلَيْهَا ‌نَاسًا ‌بَعْدَ ‌نَاسٍ. انظر: فتح الباري، (7/487).
([6]) مَا مِنَ الدُّنْيَا شَيْءٌ هُمْ بِهِ أَفْرَحُ، وَلاَ أَعْظَمُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِمَّا قَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أي: هذا الحديثُ ‌كان ‌أعظمَ ‌شيءٍ ‌في نفوسهم، لم يُعادله شيءٌ يَسُرُّهُم في الدُّنيا. انظر: فتح المنعم شرح صحيح مسلم، (9/537).
([7]) بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ: لأنه عَرَّضَ نفسَه للهلاك، فليس له عهدٌ عند الله بِحِفْظِه؛ لأنه مُفرِّط. قال ابن بطال رحمه الله: (فقد ‌بَرِئَتْ ‌منه ‌ذِمَّةُ ‌الحِفْظ؛ لأنه ألقى بيده إلى التَّهلُكة، وغرَّرَ بنفسه، ولم يُرِدْ فقد ‌بَرِئَتْ ‌منه ‌ذِمَّةُ الإسلام؛ لأنه لا يَبرأ أحدٌ من الإسلام إلاَّ بالكفر). انظر: شرح صحيح البخاري، (5/89).
([8]) انظر: تفسير السعدي، (ص169).
([9]) ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ: أي: وسَطَه وَمُعْظَمَهُ. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، (1/206).
([10]){قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ}: أي: ضعفاء مقهورين مظلومين، ليس لنا قُدرة على الهجرة. وهم غير صادقين في ذلك؛ لأنَّ الله تعالى وبَّخهم وتوعَّدهم، ولا يكلف الله نفسًا إلاَّ وُسعها، واستثنى المستضعفين حقيقة. ولهذا قالت لهم الملائكةُ: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}. انظر: تفسير السعدي، (ص195).
([11]) انظر: تفسير السعدي، (ص195).

المرفقات

1760600453_مهاجرو البحر لهم هجرتان.docx

المشاهدات 104 | التعليقات 0