نُوحٌ عَلَيْهِ السلام قصة وعبر 11 ربيع الثاني 1447هـ

محمد بن مبارك الشرافي
1447/04/09 - 2025/10/01 12:40PM

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}.

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ خِيرَةِ رُسُلِ اللهِ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتُ رَبِي وَسَلَامُهُ، وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُهُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي عَشَرةِ مَوَاضِعَ، وَالْحَادِي عَشَرَ جَاءَتْ سُورَةٌ كَامِلَةٌ بِاسْمِهِ ذَكَرَ اللهُ فِيهَا مُخْتَصَرَ قِصَّتِهِ.

وَكَانَ مَوْلِدُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ وَفَاةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِعَشَرَةِ قُرُونَ، فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةَ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَقَدْ بَعَثَهُ اللهُ تَعَالَى لَمَّا عُبِدَتِ الْأَصْنَامُ وَالطَّوَاغِيتُ، وَشَرَعَ النَّاسُ فِي الضَّلَالَةِ وَالْكُفْرِ، فَبَعَثَهُ اللهُ رَحْمَةً لِلْعِبَادِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ قِصَّتَهُ وَمَا كَانَ مِنْ قَوْمِهِ، وَمَا أَنْزَلَ بِمَنْ كَفَرَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ بِالطُّوفَانِ، وَكَيْفَ أَنْجَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ، مِنْ أُولَئِكَ الْكَافِرِينِ الذِينَ اخْتَارُوا الشِّرْكَ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ عَنْ عِبَادَةِ الرَّحْمَنِ، وَكَانَ سَبَبُ وُقُوعِ الشِّرْكِ فِيهِمْ: مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عِنْدِ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} قَالَ : هَذِهِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ ، فَلَمَا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ فِيهَا أَنصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَنُسِيَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ. فَأَوَّلُ الْأَمْرِ تَصْوِيرٌ لِمُجَسَّمَاتِهِمْ، ثُمَّ غُلُوٌ فِيهِمْ, شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى عَبَدُوهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ، وَلِذَلِكَ فَالصُّوَرُ وَانْتِشَارُهَا وَخَاصَّةً الْمُجَسَّمَةُ أَوَّلُ خُطُواتِ الشِّرْكِ بِاللهِ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: فَلَمَّا انْتَشَرَ الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ وَعُبِدَتِ الْأَصْنَامُ، بَعَثَ اللهُ عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَيَنْهَي عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ، فَكَانَ أَوَّلَ رَسُولِ بَعَثَهُ اللهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى إِفْرَادِ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَلَّا يَعْبُدُوا مَعَهُ صَنَمًا وَلا تِمْثَالًا وَلا طَاغُوتًا وَأَنْ يَعْتَرِفُوا بِوَحْدَانِيَّتِهِ، وَأَنَّهُ لا إِلَهَ غَيْرُهُ وَلا رَبَّ سِوَاهُ، وَقَدْ نَوَّعَ لَهُمُ الدَّعْوَةَ فِي الْأَوْقَاتِ وَالْهَيْئَاتِ، فَدَعَاهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَدَعَاهُمْ بِالسِّرِّ وَالْجِهَارِ، وَبَالتَّرْغِيبِ تَارَةً وَالتَّرْهِيبِ أُخْرَى، وَكُلُّ هَذَا لَمْ يَنْجَحْ فِيهِمْ، بَلْ اسْتَمَرَّ أَكْثَرُهُمْ عَلَى الضَّلَالَةِ وَالطُّغْيَانِ وَعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، أَيْ لَسْتُ كَمَا تَزْعُمُونَ مِنْ أَنِّي ضَالٌّ، بَلْ عَلَى الْهُدَى الْمُسْتِقِيمِ, رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}، وَقَدْ تَطَاوَلَ الزَّمَانُ وَالْمُجَادَلَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، قَالَ تَعَالَى {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمْ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ}, أَيْ: وَمَعَ هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ فَمَا آمَنَ بِهِ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنْهُمْ ، وَكَانَ كُلَّمَا انْقَرَضَ جِيلٌ وَصَّوْا مَنْ بَعْدَهُمْ بِعَدَمِ الإِيمَانِ بِهِ وَمُحَارَبَتِهِ، حَتَّى {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ، قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}، أَيْ: إِنَّمَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّهُ الذِي لا يُعْجِزُهُ شَيْءُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}، وَهَذِهِ تَعْزِيَةٌ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْمِهِ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ، أَيْ: لا يَحْزُنْكَ مَا جَرَى فَإِنَّ النَّصْرِ قَرِيبٌ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: فَلَمَّا رَأَى نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُمْ لا خَيْرَ فِيهِمْ، وَتَوَصَّلُوا إِلَى أَذِيَّتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ وَتَكْذِيبِهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ، دَعَا عَلَيْهِمْ دَعْوَةَ غَضَبٍ، فَلَبَّى اللهُ دَعْوَتَهُ وَأَجَابِ طِلْبَتَهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ، وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَصْنَعَ الْفُلْكَ، وَهِيَ السَّفِينَةُ الْعَظِيمَةُ التِي لَمْ يَكُنْ لَهَا نَظِيرٌ قَبْلَهَا وَلا يَكُونُ بَعْدَهَا مِثْلُهَا، قَالَ اللهُ تَعَالَى {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ}، أَيْ: يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ اسْتِبْعَادًا لِوُقُوعِ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ}، أَيْ: نَحْنُ الذِينَ نَسْخَرُ مِنْكُمْ وَنَتَعَجَّبُ مِنْكُمْ فِي اسْتِمْرَارِكُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ وَعِنَادِكُمْ الذِي يَقْتَضِي وُقُوعَ الْعَذَابِ بِكُمْ وَحُلُولَهُ عَلَيْكُمْ، {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ}، قَالَ الْعُلَمَاءُ : كَانَ ارْتِفَاعُ السَّفِينَةِ ثَلاثِينَ ذِرَاعًا، وَكَانَتْ ثَلاثَ طَبَقَاتٍ كُلُّ وَاحِدٍ عَشَرَةُ أَذْرَعٍ، فَالسُّفْلَى لِلدَّوَابِّ وَالْوُحُوشِ، وَالْوُسْطَى لِلنَّاسِ، وَالْعُلْيَا لِلطُّيُورِ، وَكَانَ بِابُهَا فِي عَرْضِهَا، وَلَهَا غِطَاءٌ مِنْ فَوْقِهَا، قَالَ اللهُ تَعَالَى {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ}، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: كَانُوا ثَمَانِينَ نَفْسًا مَعْهُمْ نِسُاؤُهُمْ، وَإِنَّ اللهَ وَجَّهَ السَّفِينَةَ إِلَى مَكَّةَ فَدَارَتْ بِالْبَيْتِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ وَجَّهَهَا إِلَى الْجُودِيِّ فَاسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ نَزَلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَمَا حَمَلُوا مِنَ الْحَيَوَانَاتَ وَالدَّوَابِّ، وَأَهْلَكَ اللهُ الْكُفَّارَ وَالْمُشْرِكِينَ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: هَذَا مُخْتَصَرٌ لِمَا ذَكَرَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حَالِ هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَسَوْفَ نَأْخُذُ فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ بِإِذْنِ اللهِ بَعْضَ الْحِكَمِ وَالْفَوَائِدِ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ الْعَظِيمَةِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتغفرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِروهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِه وَصَحْبِهِ أَجْمَعينَ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُصُّ عَلَيْنَا فِي كِتَابِهِ أَحْسَنَ الْقَصَصِ لِنَعْتَبِرَ وَنَتَفَكَّرَ فَنَقْتَدِيَ بِأَهْلِ الْخَيْرِ وَنَحْذَرَ طَرِيقَ أَهْلِ الشَّرِّ، قَالَ اللهُ تَعَالَى {لَقدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مِنْ عِبَرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ: خُطُورَةُ الشِّرْكِ وَالْحَذَرُ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَقَعُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ بَعْدَ مَرَّة، فَتَأَمَّلُوا: كَيْفَ وَقَعَ الشِّرْكُ بَعْدَ ذُرِّيَّةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا مُوَحِّدًا، وَهَكَذَا كَانَ أَوْلادُهُ الْقَرِيبُونَ، ثُمَّ وَقَعَ الشِّرْكُ فِي سُلالاتِهِمْ، وَمِثْلُهُ أَنَّ اللهَ أَهْلَكَ جَمِيعَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَمْ يَنْجُ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ إِلَّا مَنْ كَانَ مَعَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي السَّفِينَةِ، فَهَلِ انْقَطَعَ الشِّرْكُ؟ الْجَوَابُ: لا وَاللهِ مَا انْقَطَعَ، بَلْ عَادَ مَرَّةً ثَانِيَةً لِلظُّهُورِ فَبَعَثَ اللهُ هُودًا عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَجِبُ عَلَيْنَا نَحْنُ أَنْ نَخَافَ مِنَ الشِّرْكِ وَنَحْذَرَ طُرَقَهُ.

وَمِنْ فَوَائِدِ هَذِهِ الْقِصَّةِ: خُطُورَةُ الصُّوَرِ وَلا سِيَّمَا الْمُجَسَّمَاتِ لِلْأَشْخَاصِ الْمُعَظَّمِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنَ الآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، فَإِنَّهُ السَّبَبُ الْأَوَّلُ فِي الْغُلُوِّ وَالتَّعْظِيمِ ثُمَّ الْعِبَادَةُ مِنْ دُونِ اللهِ، فَتَأَمَّلُوا لَمَّا دَعَاهُمْ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِعِبَادَةِ اللهِ, رَفَضُوا وَحَارَبُوهُ وَسَخِرُوا مِنْهُ، وَتَوَاصَوْا عَلَى الثَّبَاتِ عَلَى الشِّرْكِ {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}

وَمِنَ الْفَوَائِدِ: أَنَّ الْغُلُوَّ فِي الصَّالِحِينَ مِنْ أَسْبَابِ الشِّرْكِ، فَإِنَّ قَوْمَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ غَلَوْ في أُولِئَكَ وَصَوَّرُوا صُوَرَهُمْ مَحَبَّةً لَهُمْ، وَإِرَادَةً لِتَذَكُّرِهِمْ ثُمَّ آلَ بِهِمُ الْأَمْرُ حَتَّى عَبَدُوهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ، وَلِذَلِكَ حَذَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْغُلُوِّ حَتَّى فِيهِ هُوَ عَلَيْهِ صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ، فَعَنْ عُمَرَ رِضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ (لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ) أَخْرَجَاهُ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ (إِيَّاكُمْ وَالغُلُوَّ؛ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ) رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: ومنْ فَوَائِدِ هَذِهِ الْقِصَّةِ حَثُّ أَصْحَابِ الْفَضِيلَةِ مِنْ طُلَّابِ الْعِلْمِ وَأَئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ وَالْخُطَبَاءِ عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ وَلَو صَدَّ النَّاسُ وَأَعْرَضُوا، فَإِنَّ هَذَا طَرِيقَ رُسُلِ اللهِ الْكِرَامِ، وَسَيُّدُهُمْ وَخَاتَمُهُمْ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.

وَاعْلَمُوا أَنَّ الْأَجْرَ عَظِيمٌ وَأَنَّهُ يُكْتَبُ لَكَ وَلَوْ لَمْ يَستَجِبْ أَحَدٌ، فَكَيْفَ وَالْأَمْرُ بِالْعَكْسِ، فَالنَّاسُ عِنْدَنَا بِحَمْدِ اللهِ بَلْ فِي جَمِيعِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ يُحِبُّونَ التَّوْحِيدَ وَالسُّنَّةَ وَيَفْرَحُونَ بِمَنْ يُعَلِّمُهُمْ، فَلَم يَبْقَ إِلَّا الاسْتِعَانَةُ بِاللهِ وَالانْطِلَاقُ فِي نَشْرِ الْخَيْرِ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}, اَللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ الْعَامِلِينَ بِهِ الدَّاعِينَ إِلَيْهِ عَلَى نُورٍ وَبَصِيرَةٍ، اَللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنِ اسْتَمَعَ القَوْلَ فَاتَّبَعَ أَحْسَنَه، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنا وَأَصْلِحْ لَنا دُنْيَانا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنا وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنا وَاجْعَلْ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِنا فِي كُلِّ خَيْرٍ وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ، اَللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ، اللَّهُمَّ أَتِمَّ عَلَيْنَا نِعْمَةَ الأَمْنِ وَالإِيمَانِ وَالسَّلَامَةِ وَالإِسْلَامِ، اللَّهُمَّ وَفِّقْ إِمَامَنَا خَادِمَ الحَرَمَينِ الشَّرِيفَينِ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لِمَا تُحِبُّهُ وَتَرْضَاهُ، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ بِطَانَتَهُمْ وَوُزَرَاءَهُمْ يَا رَبَّ العَالمَينَ، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ وَالْحَمْدِ للهِ رَبِّ العَالَمِينْ.

المرفقات

1759311622_نُوحٌ عَلَيْهِ السلام قصة وعبر 11 ربيع الثاني 1447هـ.pdf

المشاهدات 614 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا