هلموا إلى كهفكم

سامي بن محمد العمر
1447/06/06 - 2025/11/27 18:34PM

هلموا إلى كهفكم

 

أما بعد:

إلى متى نحوم حول الكهف ولا نأوي إليه؟.

ولماذا نعيش زمن الفتن بالخوف والألم، وفي الكهف رحمةٌ من الله تُبسَط وتُنشر، وأسبابٌ من الأمن تُهيؤ وتُيَسَّر؟

الكهف: هو بيت الجبل، والنقب فيه إذا كان واسعًا، وإلا فهو الغار..

وقد كان ولا زال ... مأوىً للفارِّين من سطوةِ الحق أو سطوةِ الباطل..

فأهلُ الإجرام وأربابُ الفساد لهم كهوفهم التي يأوون إليها ويجتمعون بها لإنجاز مآربهم، وإتمام جرائمهم، مستترين فيها من سطوة الحق والعدالة.

وكان لأهل الحق كهوفهم التي يأوون إليها هرباً من سطوة الباطل والضلالة..

ولما كانت معجزات الأنبياء قبل نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم من قبيل المعجزات الحسية الملموسة... أكرم الله الصالحين الفارين بدينهم من تلك الأمم .. بكرامة الهداية والأمن والثبات حين يلجأون إليه في كهوفٍ حسيةٍ:

{أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا، إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا}

وكذا فعل نبينا صلى الله عليه وسلم بادئ الأمر.. ثم لم يعد إليه مرة أخرى، فقد أتته معجزة تختلف عن سائر المعجزات .. لقد كانت معجزةً معنويةً ... ناسب معها أن تكون كرامةُ الله للصالحين من أمته عند حلول الفتن ... كرامةً معنويةً أيضاً .. لاحاجة معها لكهف محسوس، ولا لانزواء واختفاء ... فكهفك معك تتنقل به حيث شئت... وتأوي إليه متى شئت..

إنه كهف أمة محمد صلى الله عليه وسلم

كهفٌ يسعُ الجميع مهما كان عددهم ... ويجده الجميع مهما كان جنسهم ولغتهم ... ويصله الجميع مهما تباعدت مواطنهم وأماكنهم.

هو الكهف الذي تحومون عليه كل جمعة وتتلون آياته بسرعة ... ولكن قلّ منا من يَلِجُه ويأوي إليه.

عباد الله:

كهف أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الفتن الحاضرة والقادمة: هو سورة الكهف؛ تلاوةً وتدبراً وتعلماً وتعليماً وعملاً..

فإن فيها أماناً من كل فتنة، وسكينة عند كل بلاء ومحنة..

عن البراء بن عازب، قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف، وإلى جانبه حصان مربوط بشطَنَين - أي حبلين طويلين - ، فتغشته سحابة، فجعلت تدنو وتدنو وجعل فرسه ينفر، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: «تلك السكينة تنزلت بالقرآن» متفق عليه([1])

وكيف لا يكون ذلك في سورة بدئت بالوسيلة العظمى للثبات: القرآنُ الكريم، {أنزل على عبده الكتاب}، وختمت بالمفتاح الأعظم للنجاة: التوحيدُ {فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا}، واحتوت فيما بين ذلك على جُلّ الفتن التي يُخاف منها، بأمثلتها وطرق النجاة منها.

وكم هو كافٍ للعبد المؤمن الخائف على دينه أن يتأمل في فواتح هذه السورة؛ ليجدها تخاطبه وكأنها لم تنزل إلا اليوم.

{الحمد لله} لفظ الثناء الموحد، الذي يجيده الصغير والكبير والذكر والأنثى والمتعلم والجاهل والعيي والبليغ...

ثناء يبلغ في المدى غايته ... على نعمٍ تعد ولا تحصى.. ومننٍ تشكر ولا تكفر، ومن أهمها:

{الذي أنزل على عبده الكتاب} فهو الوسيلة العظمى لثباتكم أيها المؤمنون، والعروة الوثقى لنجاتكم أيها المسلمون، لا انفصام لها؛ لأن الله أنزله {ولم يجعل له عوجاً، قيماً} فهو مستقيم على الحق لا ميلان فيه، موافق الصواب بلا تناقضَ يحتويه، فما من هُدىً يُطلب ولا خيرٍ يراد إلا وقد دلَّ القرآن عليه، وهدى بأمر الله إليه.

{ذلك الكتاب لا ريب فيه}

فهو الوسيلة للنجاة في الآخرة، والفوزِ بطيب الحياة في العاجلة، لأنه مضمون النتيجة والعاقبة، غيرُ خاضع للتأمل والتجربة.

وفي هذا الكتاب ما يُسْكن النفس ويُريح الفؤاد، من البشارة للثابتين على الأمر، القابضين على الدين، المتمسكين بالشرع، العاملين بالصالحات {أن لهم أجراً حسنًا} في الآخرة ثابت لا يزول {ماكثين فيه أبداً}، وينالهم منه في الدنيا ما شاء الله أن ينالهم من السعادة والهداية واليقين والثبات.

وأما الذين أساؤوا الظن بالله ... فرأوه عاجزا محتاجا للولد فقد أتوا أمراً عظيمًا {ما لهم به من علم ولا لآبائهم} ... وإن الله لينذرهم وينذر أمثالهم في كل زمان ومكان، ممن يسيئون الظن به، فيحملهم حلمه على مقارفة الذنوب، وتحملهم أناته على مجاوزة الحدود، ويحملهم إمهاله على زيادة الكفر والجحود؛ ينذرهم بمصير أليم وعذاب عظيم.

نسأل الله السلامة والعافية.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...

 

الخطبة الثانية:

أما بعد:

فيا عبد الله:

-    اعلم أن تغيير أحوال الناس من حولك ليس إليك، وانتقالهم إلى الصلاح ليس بتكليف عليك، إن عليك إلا البلاغ والتوجيه.. والنصح والإرشاد، فلا تذهب نفسك حسرات على أهل الضلال والفساد {فلعلك باخع} - أي مهلك- {نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا} أي حُزنا عليهم وحرقة.

-    واعلم أن هذه الدارَ الدنيا زينةٌ تزول، وزخرفٌ يضمحل، وكائناتٌ تسير إلى الفناء {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} أي تراباً خاليًا من أي شيء.

ولكن: هي دار امتحان واختبار للتزود بأحسن العمل؛ فلا تُلهينَّكم فتنُ هذا الزمان عن التمسك بالتوحيد والتزود بالصالحات، فهما الربح في زمن الخاسرين، والنجاة في عصر الهالكين.

وتلك عوامل الثبات، يقاوم المؤمن بها فتن الزمان حتى يأذن الله بخروج الدجال الأكبر؛ فيفزعُ المؤمنون لكهفهم مرة أخرى لينجيهم الله من فِتْـنته.

عن أبي الدرداء، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال»([2]) رواه مسلم.

وفيه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال وخفض فيه ورفع، وكان مما قال:

«فمن أدركه منكم، فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف»([3]).

فالحمد لله بدءًا وختامًا حيث دلنا على أسباب الثبات، ونسأله أن يرزقنا التمسك بها حتى الممات.

 



([1]) البخاري 5011، ومسلم 795.
([2]) صحيح مسلم (1/ 555).
([3]) صحيح مسلم (4/ 2252).

المرفقات

1764257653_هلموا إلى كهفكم.docx

1764257654_هلموا إلى كهفكم.pdf

المشاهدات 824 | التعليقات 0