وانطفأ السراج قي 6-3-1447 هـ
أحمد عبدالعزيز الشاوي
الحمد لله كتب على عباده الفناء، وتفرد بالألوهية والبقاء وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرض والسماء وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد البشر وصفوة الأنبياء ﷺ وعلى آله وأصحابه البررة الأتقياء وسلم تسليما.أما بعد:
فيا أيها الناس اتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون.
في الأيام القادمة ستسمع عن رقص وغناء واختلاط وشركيات ومعصية للرسول يسهر عليها من يزعمون حب الرسول في بدعة اسمها المولد النبوي.. وهي من صنع أعداء الله ويرعاها المبغضون لدين الله فما أسوأ من ضل سعيه في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا
يحتفلون في الثاني عشر من ربيع الأول بمولده وهو تأريخ لايثبت ويغيب عنهم التأريخ الثابت والمؤكد وهو أنه موعد رحيل المصطفى وغياب النور
ففي مثل هذه الأيام كانت الرحلة الأليمة والأيام العصيبة ، حيث عاشت الأمة أصعب أيامها وأحلك لياليها وأقسى ساعاتها..
إنه يوم لا يمكن أن تنساه ذاكرة الزمن ذلك اليوم الذي هوى فيه نجم الأمة وشمسها وقمرها وضياؤها.
إنه اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول من العام الحادي عشر في ضحى ذلك اليوم فاضت أطهر روح في الدنيا من جسدها وصعدت إلى بارئها راضية مرضية وخرج أكرم إنسان على الله في هذا الوجود من الدنيا كما جاء إليها ولم يترك مالاً ولا ديناراً ولا درهماً وإنما ترك هداية وإيماناً وشريعة خالدة وميراثاً روحياً وأمة هي خير الأمم وأوسطها.
ثلاثة عشر يوماً كان فيها نبي الهدى والمرحمة صلى الله عليه وسلم يصارع فيها المرض ويعاني من الألم
ابتدأ صلى الله عليه وسلم بشكواه في أواخر صفر فقد أُمر أن يستغفر لأهل البقيع فانطلق ومعه مولاه أبو مويهبة فقال: السلام عليكم يا أهل المقابر ليهنئ لكم ما أنتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها،
ثم استغفر لأهل البقيع وانصرف، وقد بدأ به وجعه فدخل على عائشة فوجدها تشتكي صداعاً وتقول وارأساه فقال: بل أنا والله يا عائشة وارأساه.
وفي يوم الأربعاء وقبل الوفاة بخمسة أيام اتقدت حرارة العلة في بدنه فاشتد به الوجع وأغمى عليه فقال: اهريقوا عليّ سبع قرب من آبار شتى حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم فاقعدوه في مخضب وصبوا عليه الماء حتى طفق يقول: حسبكم حسبكم، وعند ذلك أحس بخفة فدخل المسجد وهو معصوب الرأس وجلس على المنبر وخطب الناس وعرض نفسه للقصاص قائلاً: من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه. ولا يقولن قائل: أخاف الشحناء من قبل رسول الله، ألا وإن الشحناء ليست من شأني ولا من خلقي، وإن أحبكم إلي من أخذ حقاً إن كان له علي، أو حللني فلقيت الله عز وجل وليس لأحد عندي مظلمة.
وفي يوم الخميس وعند العشاء زاد ثقل المرض بحيث لم يستطع الخروج إلى المسجد، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس.
وفي يوم السبت أو الأحد وجد النبي صلى الله عليه وسلم خفة في نفسه فخرج بين رجلين لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي بالناس فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه بأن لا يتأخر، وقال: أجلساني إلى جنبه فأجلساه إلى يسار أبوبكر ، وقبل يوم من الوفاة أعتق النبي صلى الله عليه وسلم غلمانه وتصدق بسبعة دنانير كانت عنده ووهب للمسلمين أسلحته،
وفي فجر يوم الاثنين وبينما الناس في المسجد يصلون خلف أبي بكر رضي الله عنه إذا بالستر المضروب على حجرة عائشة قد كشف وبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه فنظر إليهم وهم في صفوف الصلاة ثم تبسم يضحك وأشار إليهم بيده أن أتموا صلاتكم ثم دخل الحجرة وأرخى الستر. فكان هذا أخر عهده بالمسلمين.
وفرح الصحابة غاية الفرح ظناً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شفي من مرضه حتى قال أنس: ما رأيت رسول الله أحسن هيئة منه في تلك الساعة، وما علموا أنها الصحوة التي تسبق الموت.
كان ذلك المشهد أخر عهد الناس به صلى الله عليه وسلم وكانت تلك النظرات هي الأخيرة التي ودع فيها صلى الله عليه وسلم أصحابه وقد صفهم بين يدي الله تعالى يؤدون الصلاة يجمعهم إمام واحد تربطهم أخوة الإيمان، لقد سرته هذه النتيجة التي توصل إليها فما هي إلا الدليل القاطع على أنه صلى الله عليه وسلم أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة.
واشتدت سكرات الموت بالنبي ودخل عليه أسامة وقد صمت فلا يقدر على الكلام. ورأت فاطمة ما برسول الله صلى الله عليه وسلم من الكرب الشديد الذي يتغشاه فقالت: واكرب أبتاه، فقال لها: ليس على أبيك كرب بعد اليوم. ودعا الحسن والحسين فقبلهما وأوصى بهما خيراً ودعا أزواجه فوعظهن وذكرهن. وطفق الوجع يشتد ويزيد وبدأ الاحتضار فأسندته عائشة واستاك رسول الله صلى الله عليه وسلم بسواك وبين يديه ركوة فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح منها وجهه ويقول، لا إله إلا الله، إن للموت سكرات اللهم أعني على سكرات الموت.
ثم رفع يده أو إصبعه وشخص بصره نحو السقف وتحركت شفتاه فأصغت إليه عائشة وهو يقول، مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لي وأرحمني وألحقني بالرفيق الأعلى، وبدأ يردد: في الرفيق الأعلى كررها ثلاثاً ومالت يده ولحق بالرفيق الأعلى فإنا لله وإنا إليه راجعون..
تسرب النبأ الفادح وأظلمت على أهل المدينة أرجاؤها وآفاقها، وأقبل أبو بكر فقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغطى بثوب حبره فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله وبكى ثم قال، بأبي أنت وأمي، والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها
تسرب النبأ الفادح من البيت المحزون وله طنين في الآذان وثقل ترزح تحته النفوس وتدور به البصائر والأبصار، وشعر المؤمنون أن آفاق المدينة أظلمت فتركتهم لوعةُ الثكل حيارى لا يدرون ما يفعلون.
وهكذا مضت أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم إنسان عرفه الوجود في كل العصور، غادر دنيانا بعد أن أنار القلوب، غادر دنيانا اليتيم الذي زرع الرحمة في القلوب، الفقير الذي أقام أعظم دولة عرفها التاريخ.
مات محمد بن عبدالله ( ص ) رسول الله ومصطفاه، بعدما ظل ثلاثة وعشرين عاماً يكافح وينافح ويدعو ويجاهد فما كلّ ولا ملّ ولا زلّ ولا ضلّ ولا استكان ولا ذلّ بل صبر وصابر حتى أكمل الله به الدين وأتم به النعمة
اللهم احشرنا في زمرته وأنلنا شفاعته وارزقنا حبه والاقتداء به واستغفر الله رب العالمين لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أما بعد:
فمن رحم الآلام تستنبط العبر، وفي المصائب دروس وحكم، ونحن أمة لا تقابل المصيبة بالأحزان ولا تكتفي بإثارة الأشجان. إن فقد الحبيب محمد صل مصيبة لا تجبر وجلل لا يُنسى وجرح غائر لا يندمل، وكلما تذكر المرء المسلم حبيبه محمداً صلى الله عليه وسلم وهو يصارع السكرات، ويعايش الآلام والغمرات سالت منه الدمعة وخنقته العبرة واقشعر منه البدن.
إن في موت قدوتنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم لعبرة، وفيه ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
في أحداث وفاته تلوح قصة الحقيقة الكبرى في هذا الوجود والتي يسقط عندها جبروت المتجبرين وعناد الملحدين وطغيان البغاة والمتألهين، حقيقة تسربل بها العصاة والطائعون والرؤساء والمتألهون والرسل والأنبياء والمقربون والأصفياء والأغنياء والفقراء ودعاة العلم والاختراع.
إنها الحقيقة التي تعلن على مدى الزمان والمكان وفي أذن كل سامع وعقل كل مفكر أن لا ألوهية إلا لله وحده وأن لا جكم إلا لذاك الذي تفرد بالبقاء فهو الذي لا مرد لقضائه ولا حدود لسلطانه ولا غالب على أمره.
لقد كان من اليسير على الله عز وجل أن يجعل مرتبة رسوله صلى الله عليه وسلم فوق مستوى الموت وآلامه، ولكن الحكمة الإلهية اقتضت أن يكون قضاء الله تعالى في تجرع هذا الكأس بشدتها وآلامها عاماً لكل أحد مهما كانت درجة قربه من الله جل وعلا حتى يعيش الناس في معنى التوحيد وحقيقته وحتى يدركوا جيداً قوله تعالى: [إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا] فليس لأحد أن يتمطى ليعلو بنفسه عن مستوى العبودية بعد أن عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم خاضعاً لحكمها ونزل به قضاؤها، وليس لأحد أن لا يكثر من ذكر الموت وسكرته بعد أن عانى حبيب الله تعالى من برحائها وغشيته آلامها وهذا المعنى هو ما أوضحه كلام الله جل جلاله [إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ]
وثاني المواقف والعبر نستلهمها من تلك الإطلالة والنظرة الوداعية التي ألقاها رسول الله ﷺ على أصحابه فجر الاثنين حينما تبسم يضحك. لقد كان تفكيره منصرفاً تلك الساعة إلى أمته وإلى ما سيكون عليه حالهم من بعده،
ولقد اقتضت حكمة الله أن يكون هذا المشهد هو الصلاة واقتضت إرادة الله أن تكون هي العهد الأخير.
فيا أخي المسلم، الصلاة الصلاة، إنها العهد الذي فارقت عليه رسول الله ﷺ وهو راض يتبسم... هذا حظ الصلاة من هم نبينا فما حظ الصلاة من همنا
وآخر العبر من وفاة سيد البشر تنطق بها آية من كتاب الله [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ].
إن البشر إلى فناء والعقيدة والدين إلى بقاء دين الله مستقل في ذاته عن الذين يحملونه ويؤدونه إلى الناس من الرسل والدعاة على مر التاريخ، والمسلم الذي يحب رسول الله ﷺ كحب أصحابه له مطلوب منه أن يفرق بين شخص محمد ﷺ والعقيدة التي بلغها وتركها للناس من بعده باقية ممتدة موصولة بالله الذي لا يموت.
إن دين الله باق محفوظ بحفظ الله، ولن يهزه موت عالم أو داعية أو قائد ومجاهد [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) وليبلغن هذا الأمر مابلغ الليل والنهار ولا يترك بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل ، عزا يعز الله به الإسلام أو ذلا يذل به الكفر ، فاللهم اجعلنا من أنصار دينك وحماة شريعتك والمجاهدين في سبيلك والغيورين على حرماتك ياسميع الدعاء ..
اللهم صل وسلم على من بلغ الرسالة.
المرفقات
1756391660_وانطفأ السراج.doc