وصايا الوداع

راكان المغربي
1447/03/05 - 2025/08/28 14:53PM

وصايا الوداع

الخطبة الأولى

إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}، أما بعد:

أَغْلَى النَّصَائِحِ، وَأَعَزُّ الْوَصَايَا، هِيَ تِلْكَ الَّتِي تَكُونُ مِمَّنْ هُوَ حَرِيصٌ عَلَيْكَ، عَالِمٌ بِحَالِكَ، بَصِيرٌ بِأَبْوَابِ الْخَيْرِ يَدُلُّكَ عَلَيْهَا، وَأَبْوَابِ الشَّرِّ يُحَذِّرُكَ مِنْهَا.

وَيَعْظُمُ شَأْنُ تِلْكَ الْوَصَايَا، حِينَ تَكُونُ وَصَايَا الْوَدَاعِ، فَيَشْعُرُ الْحَرِيصُ عَلَيْكَ، بِأَنَّ الزَّمَنَ يُسَابِقُهُ، وَأَنَّ الْأَجَلَ لَنْ يُمْهِلَهُ، فَيَخْتَارُ أَعْظَمَ الْوَصَايَا شَأْنًا، وَأَشَدَّهَا أَهَمِّيَّةً، لِيُوصِيَكَ بِهَا قَبْلَ الْفِرَاقِ.

نَقِفُ الْيَوْمَ مَعَ وَصَايَا الْوَدَاعِ، لِأَشَدِّ النَّاسِ حِرْصًا عَلَيْنَا، وَأَعْلَمِهِمْ بِمَا فِيهِ خَيْرٌ أَوْ شَرٌّ لَنَا، إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ).

كَانَ إِحْسَاسُهُ ﷺ يُرَاوِدُهُ بِالْوَدَاعِ مُنْذُ الْحِجَّةِ الْوَحِيدَةِ الَّتِي حَجَّهَا، وَالَّتِي سُمِّيَتْ فِيمَا بَعْدُ بِحَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَفِيهَا اجْتَمَعَتِ الْجُمُوعُ تَزِيدُ عَلَى مِائَةِ أَلْفِ حَاجٍّ، وَفِي مَوْقِفِ عَرَفَةَ نَزَلَ قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)، فَكَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ شَعَرَ بِاكْتِمَالِ الْمُهِمَّةِ، وَقُرْبِ الْأَجَلِ.

قَدَّمَ خُطْبَتَهُ ﷺ فِي عَرَفَةَ بِقَوْلِهِ: (أَيُّهَا النَّاسُ! اسْمَعُوا قَوْلِي، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا بِهَذَا الْمَوْقِفِ أَبَدًا).

ثُمَّ تَنَاثَرَتِ الْوَصَايَا الْغَالِيَةُ مِنْ فِيهِ الشَّرِيفِ عَلَى سَمْعِ الصَّحْبِ الْكِرَامِ، فَكَانَ مِمَّا أَوْصَاهُمْ بِهِ حِفْظُ حُرْمَةِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ، فَقَالَ: (إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا). وَمِنْ وَصَايَاهُ فِي خُطْبَتِهِ الْوَدَاعِيَّةِ: (فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ). وَمِنْ وَصَايَاهُ: (وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ: كِتَابَ اللَّهِ). ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ ﷺ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْحَجِّ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْتِ سِوَى أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ.

فِي حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ. فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ: (أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ).

وَصَايَا غَالِيَةٌ، كُلُّ وَصِيَّةٍ مِنْهَا تَعْدِلُ كُنُوزًا لَا تُقَدَّرُ بِثَمَنٍ.

بَدَأَ النَّبِيُّ ﷺ يَشْتَكِي مِنْ مَرَضِ مَوْتِهِ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَفِي أَيَّامِ مَرَضِهِ ﷺ كَانَ يَبُثُّ آخِرَ الْوَصَايَا، وَكَلِمَاتِ الْوَدَاعِ.

أَوْصَى بِصَاحِبِ الصِّدْقِ، وَرَفِيقِ الْعُمْرِ، وَالسَّنَدِ الَّذِي كَانَ يَسْتَنِدُ عَلَيْهِ فِي تَبْلِيغِ دَعْوَةِ اللَّهِ وَنُصْرَةِ دِينِهِ، قَالَ ﷺ: (إِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا غَيْرَ رَبِّي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ وَمَوَدَّتُهُ، لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلَّا سُدَّ إِلَّا بَابَ أَبِي بَكْرٍ).

كَمَا أَوْصَى بِالْأَنْصَارِ الَّذِينَ آوَوْهُ وَنَصَرُوهُ فَكَانَ لَهُمْ أَعْظَمُ الْأَثَرِ فِي رِفْعَةِ الدِّينِ وَعِزَّةِ أَهْلِهِ. قَالَ ﷺ فِي آخِرِ مَجْلِسٍ جَلَسَهُ مَعَ الصَّحَابَةِ وَقَدْ عَصَبَ عَلَى رَأْسِهِ، وَالْتَحَفَ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، فَقَالَ: (أُوصِيكُمْ بِالْأَنْصَارِ، فَإِنَّهُمْ كَرِشِي وَعَيْبَتِي -أَيْ: هُمْ بِطَانَتِي وَخَاصَّتِي وَمَوْضِعُ سِرِّي وَأَمَانَتِي-، وَقَدْ قَضَوْا الَّذِي عَلَيْهِمْ، وَبَقِيَ الَّذِي لَهُمْ، فَاقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ).

اللَّهُ أَكْبَرُ! مَا أَعْظَمَ الْوَفَاءَ يَا سَيِّدَ الْأَنْبِيَاءِ!

وَمِمَّا أَوْصَى بِهِ مَا قَالَهُ جَابِرٌ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَقُولُ: (لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ).

وَمِنْ وَصَايَاهُ مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: "كَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ السِّتَارَةَ وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: (أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، يَرَاهَا الْمُسْلِمُ، أَوْ تُرَى لَهُ، أَلَا وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا، أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ).

وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ الْمُكَرَّرَةُ الَّتِي كَانَ يُكَرِّرُهَا وَيُرَدِّدُهَا كَثِيرًا، فَهِيَ مَا نَقَلَهَا لَنَا أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذْ يَقُولُ: "كَانَتْ عَامَّةُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: (الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) حَتَّى جَعَلَ يُغَرْغِرُ بِهَا فِي صَدْرِهِ وَمَا يُفِيضُ بِهَا لِسَانُهُ" أَيْ ظَلَّ يُوصِيهِمْ بِهَا حَتَّى مَا يَكَادُ يُبَيِّنُهَا بِلِسَانِهِ مِنْ شِدَّةِ مَرَضِهِ.

الصَّلَاةُ عِمَادُ الدِّينِ مَنْ أَقَامَهَا قَامَ لَهُ سَائِرُ دِينِهُ، وَمَلْكُ الْيَمِينِ الذين هُمُ الطَّبَقَةُ الدُّنْيَا فِي نَظَرِ الْمُجْتَمَعِ، وَأَكْثَرُ مَنْ يَتَعَرَّضُونَ لِلظُّلْمِ وَالِاضْطِهَادِ، وَلَا ظَهْرَ لَهُمْ ولا نَصِير، لَمْ يَنْسَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ حَتَّى آخِرَ لَحَظَاتِ حَيَاتِهِ.

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ وَالَاهُ، أَمَّا بَعْدُ:

فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الْمُوَافِقِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَبَيْنَمَا النَّاسُ يُصَلُّونَ صَلَاةَ الْفَجْرِ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- إِذْ حَدَثَ ذَلِكَ الْحَدَثُ الَّذِي كَادَ أَنْ يَتْرُكُوا صَلَاتَهُمْ مِنْ أَجْلِهِ.

يَقُولُ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَهُمْ صُفُوفٌ فِي الصَّلَاةِ، فَكَشَفَ النَّبِيُّ ﷺ سِتْرَ الْحُجْرَةِ يَنْظُرُ إِلَيْنَا وَهُوَ قَائِمٌ كَأَنَّ وَجْهَهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ، ثُمَّ تَبَسَّمَ يَضْحَكُ، فَهَمَمْنَا أَنْ نَفْتَتِنَ مِنَ الْفَرَحِ بِرُؤْيَةِ النَّبِيِّ ﷺ، فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ، وَظَنَّ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَارِجٌ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَشَارَ إِلَيْنَا النَّبِيُّ ﷺ أَنْ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ وَأَرْخَى السِّتْرَ".

وَكَانَتْ هَذِهِ هِيَ نَظْرَةُ الْوَدَاعِ، وَمَشْهَدُ الْخِتَامِ، تَبَسَّمَ ﷺ لِلصَّحَابَةِ تَبَسُّمَهُ الْأَخِيرَ، وَكَأَنَّهَا بَسْمَةُ الِاطْمِئْنَانِ، وَضَحْكَةُ الْفَرَحِ بِأَنَّ اللَّهَ أَعَدَّ عَلَى يَدَيْهِ جِيلًا يُكْمِلُ الْمَسِيرَةَ، وَيَحْمِلُ الدِّينَ.

دَخَلَ إِلَى بَيْتِهِ فَاشْتَدَّ وَجَعُهُ، وَتَغَشَّاهُ الْكَرْبُ، فَقَالَتْ لَهُ فَاطِمَةُ ابْنَتُهُ: وَا كَرْبَ أَبَاهُ! فَقَالَ لَهَا: (لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ الْيَوْمِ).

ثُمَّ تَرْوِي لَنَا زَوْجُهُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- الْحَلْقَةَ الْأَخِيرَةَ مِنْ حَيَاةِ الْحَبِيبِ ﷺ فَتَقُولُ: " دَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَأَنَا مُسْنِدَتُهُ إِلَى صَدْرِي، وَمَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سِوَاكٌ رَطْبٌ يَسْتَنُّ بِهِ، فَأَبَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَصَرَهُ -أَيْ مَدَّ نَظَرَهُ إِلَيْهِ-، قَالَتْ: فَأَخَذْتُ السِّوَاكَ فَقَصَمْتُهُ، وَنَفَضْتُهُ وَطَيَّبْتُهُ، ثُمَّ دَفَعْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَاسْتَنَّ بِهِ -أَيِ: اسْتَاكَ بِهِ-، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ اسْتَنَّ اسْتِنَانًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ. وَكَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ عُلْبَةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ، فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ، وَيَقُولُ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ).

تَقُولُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ صَحِيحٌ يَقُولُ: (إِنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، ثُمَّ يُخَيَّرَ) فَلَمَّا اشْتَكَى وَحَضَرَهُ الْقَبْضُ وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي، غُشِيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ شَخَصَ بَصَرُهُ نَحْوَ سَقْفِ الْبَيْتِ، ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى)، فَقُلْتُ: إِذَنْ لَا يُجَاوِرُنَا، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ حَدِيثُهُ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا وَهُوَ صَحِيحٌ."

وَتَقُولُ رضي الله عنها: " أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ ﷺ وَأَصْغَتْ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ، وَهُوَ مُسْنِدٌ إِلَيَّ ظَهْرَهُ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي، وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ).

وَفَاضَتْ رُوحُهُ إِلَى بَارِئِهَا بَعْدَ أَنْ خَتَمَهَا بِاسْتِغْفَارِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَرَجَاءِ رَحْمَتِهِ، وَهُوَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ، وَسَيِّدُ الْبَشَرِ.

طَاشَتْ عُقُولُ الصَّحَابَةِ، وَاشْتَدَّ مُصَابُهُمْ، وَعَظُمَ كَرْبُهُمْ. جَاءَ الْمُغِيرَةُ إِلَى عُمَرَ وَقَالَ لَهُ: يَا عُمَرُ، مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: "كَذَبْتَ، بَلْ أَنْتَ رَجُلٌ تَحُوسُكَ فِتْنَةٌ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَا يَمُوتُ حَتَّى يُفْنِيَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُنَافِقِينَ". وَخَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَقَدْ خَرَجَ عَنْ وَعْيِهِ، وَظَلَّ يَخْطُبُ فِي الصَّحَابَةِ وَيَقُولُ لَهُمْ: ""وَاللَّهِ مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَلَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ، فَلَيَقْطَعَنَّ أَيْدِيَ رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ".

وَخِلَالَ ذَلِكَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- خَارِجَ الْمَدِينَةِ، "فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَكَشَفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يُذِيقُكَ اللَّهُ الْمَوْتَتَيْنِ أَبَدًا، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ لِعُمَرَ: أَيُّهَا الْحَالِفُ، عَلَى رِسْلِكَ ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَلَا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا ﷺ فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، وَقَالَ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، وَقَالَ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]، فَنَشَجَ النَّاسُ يَبْكُونَ". قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ تَلَاهَا، فَعَقِرْتُ حَتَّى مَا تُقِلُّنِي رِجْلَايَ وَحَتَّى أَهْوَيْتُ إِلَى الْأَرْضِ حِينَ سَمِعْتُهُ تَلَاهَا، وَعَلِمْتُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ مَاتَ".

 

اللَّهُمَّ اسْتَعْمِلْنَا بِسُنَّةِ نَبِيِّكَ ﷺ، وَأَوْزِعْنَا بِهَدْيِهِ، وَتَوَفَّنَا عَلَى مِلَّتِهِ، وَارْزُقْنَا مُرَافَقَتَهُ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ.

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ إِيمَانًا لَا يَرْتَدُّ وَنَعِيمًا لَا يَنْفَدُ وَمُرَافَقَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ فِي أَعْلَى جَنَّةِ الْخُلْدِ.

المرفقات

1756382020_وصايا الوداع.docx

1756382020_وصايا الوداع.pdf

المشاهدات 228 | التعليقات 0