يا صاحبَ الهمِّ إنَّ الهمَّ مُنْفَرِجٌ
الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله الهويمل
يا صاحبَ الهمِّ إنَّ الهمَّ مُنْفَرِجٌ
الْخُطْبَةُ الْأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، صلى الله وسلم عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ . ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) ، ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) ، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) . أَمَّا بَعْدُ :-
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ تَعَالَى ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا ، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ .
عِبَادَ اللهِ : مَن يعيش في هذه الحياة بغير هُموم ؟ أو خالي البال مِن الغُموم ؟ ومن منا الذي عاش عمره كله بلا همٍّ ، أو لم يصبه دخان الهم وغباره إلا من شاء الله ، مهموم بمنصبه يخشى فقده ، ومهموم برزقه يطلب فيه فلاحا ، ومهموم باختباراته يسعى فيها نجاحا ، ومهموم بمرضه يرجو شفاءه ، ومهموم بماله يبحث نماءه ، ومهموم بولده حمله ووضعه وضعفه ومرضه وشبابه ورزقه وزواجه . الكل تمر عليه الهموم والغموم ، ولا يسلم منها أحد ، لا الرئيس ولا المرؤوس ، ولا الغني ولا الفقير ، ولا الصحيح ولا السقيم ، كلٌّ على قدره ، فهذا عليه ديونٌ ، وذاك مِن المرض لا يقوم ، وتلك يُؤرِّقها هَمُّ الزواج ، وآخَرُ ليس له أولاد ، وغيرهم يشتكي النفقةَ على العيال ، وذاك في غيابات السجون ، والكلُّ يُصابر ظروفَ معيشته ، ويتعب ويكد ، وهو مِن ذلك في ضيقٍ وَهَمٍ .
الهموم عاشت مع الأمير في قصره ، ومع السجين في أسره ، ومع الفقير في فقره .
إنَّ الكثيرين في الواقِع يتبرَّمون من الهموم التي تغشاهم ، والمدلهِمّات التي تعترض دنياهم ، وربك أعلم ، وربك أحكم ، وربك أرحم ، يوم أن قدرها ، وعلى عبده سيّرها ، فكم بها من سيئات كفَّرها ، وحسنات أظهرها .
فَكَيفَ إِذَا عَلِمَ العَبدُ أَنَّ مَا قَد يُصِيبُهُ إِنَّمَا هُوَ تَكفِيرٌ لِسَيِّئَاتِهِ ، وَرِفعَةٌ لِدَرَجَاتِهِ ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَ صلى الله عليه وسلم : « مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ ، وَلَا نَصَبٍ ، وَلَا سَقَمٍ ، وَلَا حَزَنٍ حَتَّى الْهَمِّ يُهَمُّهُ إِلَّا كُفِّرَ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ » .
فَيَا كُلَّ مَهْمُومٍ ، اعْلَمْ أَنَّ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ هَمٍّ وَغَمٍّ ، مَا هُوَ إِلَّا بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ ، فَسَلِّمِ الْأَمْرَ لِلَّهِ ، وَارْضَ بِقَدَرِ اللَّهِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ أَوْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ ، لَمْ يَنْفَعُوكَ وَلَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ .
كيفَ يهتمُّ من له ربٌّ : ( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ) ، وكيفَ يهتمُّ من له ربٌّ : ( لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ) ، وكيفَ يهتمُّ من يتلو قولَه تعالى :( إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ) ، وكيفَ يهتمُّ من يؤمنُ بقولِه سبحانَه : ( لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً ) .
ولا تنسَ أيُّها المهمومُ ما أنتَ فيه من النِّعمَ ، وما دفعَه اللهُ تعالى عنكَ من النِّقمَ ، قالَ صالحُ الدِّمشقيُّ لابنِه : « يا بُنيَ ، إذا مرَّ بك يومٌ وليلةٌ قد سَلِمَ فيهما دينُك ، وجسمُك ، ومالُك ، وعيالُك فأكثِرْ الشُّكرَ للَّهِ تعالى ، فكمْ من مَسلوبٌ دينُه ، ومنزوعٌ مُلكُه ، ومهتوكٌ سترُه ، ومقصومٌ ظهرُه في ذلك اليومِ ، وأنتِ في عافيةٍ » .
والمؤمنُ يَشْكُر في السَّرَّاء ، ويَصبر في الضَّرَّاء ، وهو مأجور بإذن الله تعالى ، ففي الحديث عن صُهيب الرومي رضي الله عنه ، قال : قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : ( عَجَبًا لأمرِ المؤمنِ ؛ إِنَّ أمْرَه كُلَّهُ لهُ خَيرٌ ، وليسَ ذلكَ لأحَدٍ إلا للمُؤْمنِ ، إِنْ أصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فكانتْ خَيرًا له ، وإنْ أصَابتهُ ضَرَّاءُ صَبرَ فكانتْ خَيرًا له ) رواه مسلم .
مر إبراهيم بن أدهم على رجل مهموم فقال له : « إني سائلك عن ثلاثة فأجبني قال : أيجري في هذا الكون شيء لا يريده الله؟ أو ينقص من رزقك شيء قدره الله؟ أو ينقص من أجلك لحظة كتبها الله ؟ فقال الرجل : لا ، قال إبراهيم : فعلام الهم إذن » . فَاصْبِرْ يَا صَاحِبَ الْهَمِّ عَلَى مَا أَصَابَكَ ، وَتَأَمَّلْ فِيمَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِلصَّابِرِينَ ، وَاحْتَسِبْ مُصِيبَتَكَ عِنْدَ اللَّهِ .. أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كل ذنبٍ ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ .
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الحمدُ للهِ فارجِ الهمِّ ، وكاشفِ الغمِّ ، مجيبِ دعوةِ المضطرِ ، فما سألَه سائلٌ فخابَ ، أخذَ بنواصي جميعِ الدوابِ ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له الواحدُ القهارُ ، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه النبيَّ المختارَ ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا ، أَمَّا بَعْدُ :-
فيا من أصابَه همٌّ عظيمٌ ، اعلم أن لكَ ربَّاً أعظمَ ، وصدقَ سبحانَه : (فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ) ، فليسَ خيراً فقط ، بل قد يكونُ فيما تكرَهه خيراً كثيراً ، يقولُ ابنُ القيمُ رحمَه اللهُ : « لو كَشفَ اللهُ الغطَاءَ لِعبدِه ، وأظهرَ له كيفَ يُدبِّرُ له أمورَه ، وكيفَ أن اللهَ أكثرُ حِرصاً على مصلحةِ العبدِ من نفسِه ، وأنَّه أرحمُ به من أمِّه ، لَذابَ قلبُ العبدِ محبةً للهِ ، ولتقطَّعَ قلبُه شُكراً للهِ » .
واسمعْ إلى كلام مولاك : ( وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ) ، واعلَمْ أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبرِ ، وأنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ ، وأنَّ معَ العُسْرِ يُسراً .
زارَ ابنُ عيينةَ رحمَه اللهُ رجلاً مريضاً ، فقالَ : يا أبا محمدٍ ادعُ اللهَ لي ، فقالَ : دعاؤك لنفسِك خيرٌ من دعائي لكَ ، ألمْ تقرأ قولَه : ( أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ) .
يا صاحبَ الهمِّ إن الهمَّ مُنفرجٌ *** أبشرْ بخيرٍ فإنَّ الفارِجَ اللهُ
اليأسُ يَقْطَعُ أحياناً بصاحِبِه *** لا تيأسَنَّ فإن الكافيَ اللهُ
اللهُ يُحدثُ بعدَ العُسْرِ مَيسرةً *** لا تجزعنَّ فإن القاسمَ اللهُ
وإذا بُلِيتَ فَثِقْ باللهِ وارضَ به *** إن الذي يَكْشِفُ البلوى هو اللهُ
وما للمهموم إلا دعاء واضطرار ، وتذلل وافتقار ، وبراءة من الحول والقوة إلى الواحد القهار ، ولربما أخَّر اللهُ تفريج الهم ، لمزيد تضرع وتخشع منك يريده ، ليجزيك فرج الدنيا وفوز الآخرة . فارفَعْ يَدَيكَ إلى السَّمَاءِ ، وأَلِحَّ على اللهِ تعالى بالدُّعَاءِ ، روى الترمذي وغيره عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ اللهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْراً خَائِبَتَيْنِ ) . أخرج أبو داود في سننه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجدَ ذات يوم فإذا هو برجل من الأنصار يقال له : أبو أمامة ، فقال : ( يا أبا أمامة، ما لي أراك جالسًا في المسجد في غير وقت الصلاة ) قال : همومٌ لزِمتني ، وديون يا رسولَ الله ، قال :(أفلا أعلِّمك كلامًا إذا قلتَه أذهبَ الله همَّك وقضى عنك دينك) قال: بلى يا رسولَ الله، قال: (قل إذا أصبحت وإذا أمسيتَ: اللهم إني أعوذ بك من الهمّ والحزن، وأعوذ بك من العَجز والكسَل، وأعوذ بك من الجبن والبُخل، وأعوذ بك من غلَبةِ الدين وقهرِ الرجال) قال أبو أمامة :«ففعلتُ ذلك، فأذهب الله همّي وقضى عني ديني» . وعليك بكثرة الاستغفار ،فإن مَنْ لزِم الاستغفارَ جعلَ الله له من كلِّ ضيقٍ مخرجَا ، ومنْ كلِّ همٍّ فرَجا، ورزقَه من حيث لا يحتسب . وأكثروا من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن من أكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، كفاه الله ما أهمه من أمر دنياه وآخرته ، كما وردت الأحاديث بذلك . اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد ، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعلي وعن سائر صحابة نبيك أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين . اللهم أعز الإسلام والمسلمين. اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين . اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين . اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم احفظ إمامنا وولي عهده بحفظك وأيدهم بتأييدك وأعز بهم دينك ياذا الجلال والإكرام . اللهم وفقْهُم لهُدَاكَ واجعلْ عمَلَهُم في رضاكَ ، اللهم وارزقْهُم البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ التي تدلُهُم على الخيرِ وتعينهم عليه . اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الراحمين . ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) .
( خطبة الجمعة 20/3/1447هـ . جمع وتنسيق خطيب جامع العمار بمحافظة الرين / عبد الرحمن عبد الله الهويمل للتواصل جوال و واتساب / 0504750883 ) .
المرفقات
1757443071_يا صاحبَ الهمِّ إنَّ الهمَّ مُنْفَرِجٌ.docx