إحسان الظن بالله في السراء والضراء

الشيخ محمد سليم محمد علي

2025-06-24 - 1446/12/28
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/الوصية بحسن الظن بالله تعالى 2/ثمرات وفوائد حسن الظن بالله تعالى 3/أمثلة للصابرين المحسنين الظن بالله تعالى 4/حسن ظن المسلم بربه في السراء والضراء

اقتباس

أَحسِنُوا ظنَّكم بالله، في حال قُوَّتِكم وصِحَّتِكُمْ؛ وذلك بأن تخافوه، ولا تتجرؤوا على فعل المعاصي والمنكَرات، فحُسنُ ظنِّكم بربكم ينفعكم إذا خفتُم عذابَه، وأحسنتُم العملَ بطاعته؛ طمعًا في ثوابه وجنَّتِه، وخوفًا من غضبه وناره...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله على كل حال، ونعوذ بالله من حال أهل النار، اللهمَّ إنَّا نسألك العفو والعافية، اللهمَّ إنَّا نسألك المعافاة الدائمة، في الدين والدنيا والآخرة، ونشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، كتب في اللوح المحفوظ عنده مقادير الخلائق، فقدر البلاء على المسلمين، وأوجب عليهم الرضا بقضائه، وجعل ذلك من أركان الإيمان، ونشهد أنَّ سيدَنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، قال: "لا يموتنَّ أحدُكم إلَّا وهو يُحسِنُ الظنَّ بالله -عز وجل-".

 

اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ عليه، وعلى آله الطاهرين، وعلى أصحابه، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم القيامة.

 

أمَّا بعدُ، أيها المؤمنون: اتقوا الله -تعالى-، وأحسنوا الظن به -سبحانه-، وأنَّه سيجعل غدكم خيرًا من يومكم، وأنَّه سيعوضكم عمَّا فاتكم خيرًا كثيرًا، وأن للمحن والابتلاءات آجال ستنتهي مهما طال عمرها، وأن ما ينفعكم ويحقق آمالكم بيد الله -تعالى-، وهو مقدَّر لكم، فلا تستعجلوه، فكل شيء له أجل معلوم.

 

أيها المسلمون: أَحسِنُوا الظنَّ بالله؛ فبِحُسْن الظنِّ بربكم تنشرح قلوبكم، ويأتيكم الفرج والخير، من حيث لا تحتسبون.

 

يا مؤمنون: لقد عاش رسولنا -صلى الله عليه وسلم- عمره كله وهو متفائل بالخير، ومحسن الظن بالله، فلما حوصر في الشعب أحسِنِ الظنَّ بالله، فانتهى الحصار.

 

يا عبادَ اللهِ: ولقد مات لنبينا -صلى الله عليه وسلم- عديد الأولاد، فهل قنط من رحمة الله؟ أم صبر واحتسب لأنَّه يحسن الظن بربه؟ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا حسن الظن بالله؛ لأن حسن الظن بربنا فيه رجاء الخير لنا، ورجاء الخير أحسن من القنوط واليأس، ونحن مأمورون دائمًا بحسن الظن بالله ربنا، على كل حال، وفي كل الأوقات والأزمان، وهذا ما أرشدنا إليه -صلى الله عليه وسلم-؛ حيث قال: "إن الله -عز وجل- يقول: أنا عند ظن عبدي بي، إن ظن بي خيرًا فله، وإن ظن شرًّا فله".

 

فيا مسلمون: كل ما قدَّرَه اللهُ لنا خيرٌ؛ قال عمر بن عبد العزيز: "كنا نرى سعادتنا في مواطن الأقدار"، وكان جده الفاروق عمر يقول: "لو كُشِفَ الحجابُ ما تمنَّى الناسُ إلا ما قُدِّرَ لهم"؛ لأنَّ اللهَ -سبحانه- قد يمنَع المسلمَ الشيءَ الذي يريده؛ لأن في إعطائه هذا الشيء ضررًا له أو عليه، ألم يقل ربنا -سبحانه-: (وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ)[الْبَقَرَةِ: 216].

 

فأحسِنُوا الثقةَ باللهِ ربِّكم، وأَدِيمُوا حُسْنَ الظنِّ به، وارتقوا بإيمانكم في كمال التوكل عليه، والاستعانة به -سبحانه-، وأَلِحُّوا على الله بالدعاء، وأنتم تعيشون أيام الفتن والمحن والبلاء؛ فإن الإلحاح على الله بالدعاء من كمال الثقة، وحسن الظن به، ولكم على صبركم خير الجزاء، ولكم بانتظار الفرج خير الثواب، وفي الحديث الشريف: "إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم، وصلاتهم، وإخلاصهم".

 

يا مؤمنون: نحن نظن أن الله سيرحمنا، ونظن أن الله سيعفو عَنَّا، وهذا هو جزء من حسن ظننا بالله ربنا، ومن حسن ظننا بربنا -تعالى- أنَّنا متفائلون في أحلك الظروف، وأقساها علينا، مُتَّبِعُونَ الرسلَ والصالحينَ في حُسْن ظننا بربنا -عز وجل-؛ فهذا نبينا الله موسى -عليه الصلاة والسلام- حين لحق به فرعون وجنوده ولم يكن أمامه إلا البحر كان في أعلى حالات التفاؤل بالله، وحسن الظن به، فقال: (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)[الشُّعَرَاءِ: 62]، فيفلق البحر لموسى ومن معه، بأمر الله، وتكون بذلك نجاتهم.

 

وهذا يوسف -عليه السلام- يُحسِنُ الظنَّ بالله، وهو في غيابة الجُبّ، وهو في السجن، وهو كالسلعة التي تباع وتُشترى، فيصبح بحسن ظنه بالله سيدًا ومستشارًا لعزيز مصر، وعلى سدة الحكم فيها، ويجمع شمله بأبويه وأهله، وهذه هاجر أم إسماعيل يتركها زوجها إبراهيم -عليه السلام- في مكة، وليس في مكة بشر، وليس معها إلا جراب فيه تمر، وسقاء فيه ماء، فتسأل هاجر زوجها إبراهيم: "أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟!"، تقول له ذلك مرارًا وهو لا يلتفت إليها؛ لأنَّه واثق بربه ومحسن الظن به، ثم تعاود وتقول له: "آلله أمرك بهذا؟!"، فيقول لها قول المحسن الظن بالله: "نعم"، فتقول هاجر وهي تحسن الظن بالله: "إذا لا يضيعنا الله"؛ فماذا تكون نتيجة حسن ظن إبراهيم وزوجته بالله -تعالى-؟! نبع ماء زمزم، وبناء البيت العتيق، وحج المسلمين إليه حتى صار مهوى الأفئدة والقلوب.

 

يا مسلمون: وتلك أمنا خديجة بنت خويلد، بثقتها بالله، وبحسن ظنها به -سبحانه- تواسي رسولنا -صلى الله عليه وسلم- وتقول له: "كلَّا واللهِ، ما يُخزِيكَ اللهُ أبدًا؛ إنكَ لَتَصِلُ الرحمَ، وتَحمِلُ الكلَّ، وتَكسِبُ المعدومَ، وتُقري الضيفَ، وتُعين على نوائبِ الحقِّ"، وذلك لما نزل عليه الوحي ورجع إليها خائفًا يقول: "زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي، لقد خشيت على نفسي"، فبلغ الرسول دعوة الله، وأتم الله عليه تبليغها، وعلا شأنه، وشأن دينه في العالمين.

 

أيها المؤمنون الصابرون: وحين اشتد البلاء والأذى بنبينا -صلى الله عليه وسلم- من قريش، ومن أهل الطائف، أرسل الله له ملك الجبال، فقال له الملك: "قد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين"، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئًا"، فلكمال ثقة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالله -تعالى-، ولكمال حسن ظنه بربه -عز وجل- رفض عرض الملك عليه بإهلاك أهل مكة والطائف، فكانت نتيجة هذه الثقة وحسن الظن بالله أن صار كثير من أهل مكة والطائف من المسلمين، من المؤمنين، من الصحابة المكرمين، الذين نصر الله بهم الدين.

 

أيها المؤمنون: إنَّ إحسانَ ظنِّكم بالله، وثقتَكم المطلَقة به، وأنتم تعيشون زمانَ الفتن والمحن، والكُرُبات والابتلاءات، يُذهِب عنكم الهمَّ والحَزَنَ، وإذهابُ الهمِّ والحزنِ من المسلم عن نفسه، من المطالِب الشرعيَّة، فقد كان رسولنا -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ منهما ويقول: "اللهمَّ إني أعوذ بك من الهم والحزن"، فكونوا على ثقة مطلَقة بالله، كي تقوى عزائمكم، وتنالوا مطلوبكم، ومرادكم، فاللهمَّ اجعل لنا من كل ضيق فرجًا، اللهمَّ اجعل لنا من كل هم مخرجًا، اللهمَّ اجعل لنا من كل عسر يسِرًّا يا أرحم الراحمين.

 

عبادَ اللهِ: ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، جعَل حُسْنَ الظنِّ به واجبًا من الواجبات، وشُعبةً من شعب الإيمان المنجيات، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، لا نظن به إلا خيرًا، وأشهد أنَّ سيدَنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، كان من كمال حُسْن ظنِّه بالله وثقته به، أن قال لأبي بكر وهما في الغار: "ما ظنُّكَ باثنينِ اللهُ ثالثُهُمَا؟"، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ عليه وعلى آله وعلى أصحابه، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

أمَّا بعدُ، أيها المؤمنون: أَحسِنُوا ظنَّكم بالله، في حال قُوَّتِكم وصِحَّتِكُمْ؛ وذلك بأن تخافوه، ولا تتجرؤوا على فعل المعاصي والمنكَرات، فحُسنُ ظنِّكم بربكم ينفعكم إذا خفتُم عذابَه، وأحسنتُم العملَ بطاعته؛ طمعًا في ثوابه وجنته، وخوفًا من غضبه وناره.

 

يا عبادَ اللهِ: وأحسن الناس منكم ظنًّا بربه أكثركم له طاعة، قال الحسن البصَريّ: "المؤمن أحسِنِ الظنَّ بربه، فأحسن العمل، والفاجر أحسِنِ الظنَّ بربه فأساء العمل".

 

أيها المسلمون: أَحسِنُوا الظنَّ بالله عند مرضكم، وعند انقطاع أملكم بالحياة، وذلك للرجاء المطلَق بالله؛ بأن تظنُّوا أن الله سيرحمكم بعد موتكم، ويعفو عنكم، وسيغفر لكم، ويُدخِلُكم الجنةَ، فأنتُم مِنْ أهلِ الإسلامِ، وأهلِ الإيمانِ، ومِنْ أهلِ الابتلاءاتِ، ومِنْ أهلِ الصبرِ عليها، وقد جاء في الحديث الشريف: "يبعث كل عبد على ما مات عليه"، قال العلماء: "يبعث على الحالة التي مات عليها"، فكفُّوا عن المعاصي والقبائح، واحرصوا على الإكثار من الطاعات، واعلموا أن تأخير التوبة هو من سوء الظن بالله، فلا تسوفوا فيها، وبادروا إليها.

 

يا عبادَ اللهِ: ها أنتم تعيشون حالة فريدة من الملمات والبلايا والفتن، فأَحسِنُوا ظنَّكم بالله، أنَّه جاعلٌ لكم فرجًا عاجلًا، ومخرجًا قريبًا، وأن كل ذلك من قضاء الله فيكم؛ ليغفر لكم، ويرفع درجاتكم عنده، فتكونون من الذين يسبقون غيرهم إلى رضوانه وجنانه.

 

يا مؤمنون: ظلُّوا قربَ أقصاكم، يا مسلمون: شُدُّوا رحالَكم إلى مسراكم؛ فذلك كله من حُسْن ظنكم بالله، الذي هو ربكم، ومولاكم، الذي لن يخذلكم، وإن خذلكم الخاذلون.

 

فاللهمَّ استر عوراتنا، وآمِنْ روعاتنا، واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، اللهمَّ انصر الإسلام والمسلمين، وأعل بفضلك كلمتي الحق والدين، اللهمَّ اجعل أقصانا آمِنًا بأمانك، عزيزًا بعزك، مرعيا برعايتك، يا ولي المؤمنين، اللهمَّ اجعلنا على الحق ظاهرين، وبالإسلام محفوظين، وبكتابك وسُنَّة رسولك عاملين، اللهمَّ ارحم موتانا وموتى المسلمين، وأطلق سراح الأسرى والمعتقَلينَ، وارفع البلاء والمحن عَنَّا، يا أرحم الراحمين، اللهمَّ إنَّا نحسن الظن بك، فامنن علينا بفرجك وعافيتك، ورحمتك، يا رحمن يا رحيم، اللهمَّ اغفر لنا وللمسلمين، وتولنا برحمتك وعنايتك يا ولي المتقين.

 

عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه يزدكم، واستغفروه يغفر لكم، وأنتم يا مقيم الصلاة أَقِمِ الصلاةَ؛ (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].

 

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life