عناصر الخطبة
1/الهدف من خلق الإنس والجان توحيد الله تعالى 2/بعض أدلة وحجج توحيد الله تعالى 3/بيان حقيقة التوحيد 4/تفصيل نوعي الشركاقتباس
ليس الشرك فقط في عبادة الأصنام، بل هو في كل قلب تعلَّق بغير الله، في كل عمل خالَطَه رياءٌ، في كل دعاء توجَّه إلى غير الله، في كل حَلِف بغيره -سبحانه-، في كل طِيَرة وتشاؤم واعتماد على غيره...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله قضى ألَّا تعبدوا إلا إيَّاه، لا مضلَّ لمن هداه، ولا هادي لمن أضله وأعماه، أشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، شهادة حق ويقين أدخرها عند الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، اختاره الله واصطفاه، وأكرمه وفضله واجتباه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه، ومَنِ استنَّ بسُنَّتِه وتمسك بهداه.
أما بعدُ: فإن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وخير الزاد تقوى الله، وشرطُ صحةِ العملِ وقَبولِه توحيدُ اللهِ، واتباع رسول الله؛ (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)[الْكَهْفِ: 110].
عبادَ اللهِ: اتقوا اللهَ حقَّ التقوى، وكُفُّوا النفوسَ عن الهوى، وحاسِبُوا أنفسَكم قبل أن تُحاسَبُوا، وراقِبُوا اللهَ في السرِّ والنجوى؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الْحَشْرِ: 18].
أيها الناسُ: اتقوا الله واعلموا أن الله -تعالى- لم يخلقكم عبثًا، ولن يترككم همَلًا، وخلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملًا، وقد أخذ عليكم العهد والميثاق بالإقرار بربوبيته وتوحيده فقال: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ * وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[الْأَعْرَافِ: 172-174].
وأخذ عليكم العهد والميثاق أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، فقال -سبحانه-: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)[يس: 60-61]، وحثكم ووصاكم على ذلك فقال: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[الْأَنْعَامِ: 151].
أيها الناسُ: إن الله -تعالى- خلق الإنسان لغاية عظمى، وهدف أَسْمَى، وهو توحيده وعبادته، فأعظم ما أمر الله به عباده وأوجب عليهم تحقيقه، وأرسل به جميع رسله، هو توحيده -سبحانه وتعالى-، قال -تعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[الذَّارِيَاتِ: 56]؛ أي: ليُوحِّدُوه ويُفرِدُوه بالعبادة، فلا يُدعَى ويُرجَى غيرُه، ولا يُخشى سواه، ولا يُسجَد إلا له، ولا يُحلَف إلا به، ولا يُتوكَّل إلا عليه، فتوحيد الله -تعالى- وعبادته غاية الوجود، وأعظم مسؤوليَّة على الإنسان، لأجله شرع الله الشرائع، وبعث الرسل، وأنزل الكتب، وهو أمر أجمعت عليه الديانات السماوية، واتفق عليه الرسل والأنبياء في الأمم الخالية، قال -تعالى-: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا في كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ)[النَّحْلِ: 36]، وقال: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)[الْأَنْبِيَاءِ: 25]، فالتوحيد هو الغاية من وجودك عبد الله، والمقصد من خلقك، والممر الذي لا طريق إلى الجنة سواه.
أيها المؤمنون: لقد نصَب اللهُ على توحيده أدلةً ساطعةً، وحُجَجًا قاطعةً، شَهِدَ عليها الشرعُ والعقلُ والحسُّ، فالكون كتاب مسطور ينطق تسبيحًا وتوحيدًا، وذراته تهتف تقديسًا وتمجيدًا؛ (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)[الْإِسْرَاءِ: 44]، فالتوحيد هو الحق المبين، والدليل الساطع، والحقيقة التي تنسجم مع الواقع، وقد فطر الله الإنسان على التوحيد، وجعله مصدر كرامته وفضله، وبه عصمة دمه وماله.
أيها الناسُ: إنَّ حقيقة التوحيد هي إفراد الله -تعالى- بما يختصُّ به من الألوهية والربوبية والأسماء والصفات، والإيمان بأن الله -تعالى- واحد لا شريك له في مُلكِه وتدبيرِه، وأنَّه وحدَه المستحِقُّ للعبادة فلا تُصرَف لغيره، فهذا هو التوحيد الذي يتحرر به المسلم من وطأة وذل عبودية الأوثان واتباع أهل الهوى من الدجاجلة والسحرة والكهان، وطاعة مردة الإنس والجان، وقهر وجبروت أعوان الشيطان، قال -تعالى-: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ -سُبْحَانَهُ- عَمَّا يُشْرِكُونَ)[التَّوْبَةِ: 31].
وهذا هو التوحيد الذي يَخرُج به المسلم من أوحال الضلال والأوهام، وغياهب الظلام إلى نور الهداية والإسلام، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[الْبَقَرَةِ: 257].
بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفِر اللهَ فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي خلَق الخلقَ لعبادته، واصطفى منهم أهل طاعته، فأكرمهم بمعرفته، وشرفهم بصدق توحيده.
أيها الناسُ: توحيد الله -تعالى- هو روح الإسلام وجوهره، بل هو أصله وبدايته وعمدته، وكلمة التوحيد لا إلهَ إلَّا اللهُ، محمدٌ رسولُ اللهِ، هي باب الدخول فيه، والانتماء إليه، وهي شعار الإسلام، والفيصل بين أهل الشرك والإيمان، وهي مفتاح الجنة وثمنها، وهي معراج العباد إلى ربهم؛ لأجلها خلق الله الخلق، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب.
عبادَ اللهِ: اعلموا أن توحيد الله -تعالى- شرط لقبول العمل وصحته، قال -تعالى-: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الزُّمَرِ: 65]، وقال: (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[الْأَنْعَامِ: 88]، وما فتئ إبليس يترصد ببني آدم ويجتالهم ويغويهم عن التوحيد، ويصدهم عنه كما قال -تعالى- عنه أنَّه أقسم: (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)[ص: 82-83]، وفي الحديث القدسي: "وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ فَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا"(رواه مسلم).
أيها الناسُ: اعلموا أن الشرك نوعان: النوع الأول: شرك أكبر مخرج من الملة، وهو صرف شيء من العبادة لغير الله -تعالى-؛ كدعاء غير الله، وكالتقرب بالذبائح والنذور لغير الله، وكالتوكل على غير الله فيما لا يَقدِر عليه إلا اللهُ، وهذا الشرك من أعظم الذنوب، فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "سألتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: أيُّ الذنبِ أعظمُ عندَ اللهِ؟ قال: أَنْ تجعلَ للهِ ندًّا وهو خلقَكَ"(مُتفَق عليه)، وهذا هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، ولا يتجاوز عنه، قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا)[النِّسَاءِ: 48]، وقد حرم الله الجنة على من تلبس بهذا الشرك، فقال -سبحانه-: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ)[الْمَائِدَةِ: 72].
النوع الثاني: شرك أصغر لم يصل إلى حد الشرك الأكبر، ولكنه ذريعة إليه، ووسيلة للوقوع فيه؛ كالحلف بغير الله، والتطير والتشاؤم والرياء والسمعة، ويسمى شركًا خيفا؛ لأنَّه يخفى على بعض الناس، وهذا النوع لا يخرج صاحبه من الإسلام، ولا ينفى عنه أصل الإيمان، ولكنه على خطر عظيم.
عبادَ اللهِ: ليس الشرك فقط في عبادة الأصنام، بل هو في كل قلب تعلَّق بغير الله، في كل عمل خالَطَه رياءٌ، في كل دعاء توجَّه إلى غير الله، في كل حَلِف بغيره -سبحانه-، في كل طِيَرة وتشاؤم واعتماد على غيره، عن محمود بن لبيد -رضي الله عنه- أن رسول الله قال: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ، قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: الرِّيَاءُ"(رواه أحمد).
أيها المسلمون: القرآن هو كتاب التوحيد، وهو مصدر التشريع، فيجب أن يكون مورد الجميع، وليس تحت أديم السماء كتاب متضمن للبراهين والآيات والحجج والبينات، والمطالب العالية من التوحيد وإثبات الصفات، وإثبات المعاد والنبوات، ورد النحل الباطلة والآراء الفاسدة مثل القرآن؛ فإنَّه كفيل بذلك كله، متضمن له على أتم الوجوه وأحسنها، وأقربها إلى العقول وأفصحها بيانًا، فهو الشفاء على الحقيقة من أدواء الشُّبَه والشكوك، ولكن ذلك موقوف على فهمه ومعرفة المراد منه.
وبعد يا أهل الإيمان: فاعلموا -رحمكم الله- أن أعظم نعمة تورث في القلب، وأثمن كنز يودع في الصدر، وأجل حقيقة تعرف في الحياة هي التوحيد، فهو مفتاح النجاة، وسبب الأمن في الدنيا والآخرة، وليس التوحيد مجرد كلمة تقال باللسان، بل هو عهد يعقد مع الرحمن، وميثاق يوثق مع الديان، ومحبة لا يزاحمها في القلب مخلوق.
اللهمَّ إنَّا نسألك توحيدًا يملأ قلوبنا، وإخلاصًا لا يخالطه رياء، وصدقًا لا يشوبه غرور، ويقينًا لا يتطرق إليه شك، اللهمَّ اجعل لا إله إلا الله آخر ما تنطق به ألسنتنا، وثبتنا عليها بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
اللهمَّ حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكَرِّهْ إلينا الكفرَ والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهمَّ يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهمَّ يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك؛ (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)[آلِ عِمْرَانَ: 8].
اللهمَّ أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وانصُرْ عبادَكَ الموحِّدينَ، واجعل اللهمَّ هذا البلد آمِنًا مطمئنًا وسائرَ بلاد المسلمين، اللهمَّ آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهمَّ وفِّق وليَّ أمرنا خادمَ الحرمينِ الشريفينِ بتوفيقِكَ، وأيِّده بتأييدِكَ، اللهمَّ ألبسه ثوب الصحة والعافية يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ وفِّقه ووليَّ عهدِه لما تحبُّ وترضى، يا سميعَ الدعاءِ.
اللهمَّ تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، اللهمَّ صل على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
التعليقات