الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم

د. منصور الصقعوب

2025-08-21 - 1447/02/27
التصنيفات الفرعية: التربية
عناصر الخطبة
1/ أدب الصحابة الكرام مع رسول الله 2/استحضار مقامات الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم 3/حقيقة الأدب في الاتباع والطاعة والعمل بالسنة 4/ أشرف مجالات الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم.

اقتباس

إن أشرف مجالات الأدب مع النبي -صلى الله عليه وسلم-: كمالُ التسليمِ له والانقيادِ لأمره، والعمل بشريعته، والتأسي به ظاهراً وباطناً، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، بلا شكٍّ ولا تردد، ولا نقدم عليه آراء الرجال، لأنه -عليه السلام- هو المُؤيَّد بوحي السماء، ولذا لا يتحقق لعبدٍ إيمانٌ وأدبٌ حتى يطيع النبي ويسلمَ له تسليماً......

الخُطْبَة الأُولَى:

 

الأدب يا كرام زينة الرجال، وحلية الأفاضل، ويعظم ثوابه بعظم منزلة من يبذل له.

حديث اليوم عن الأدب مع النبي -عليه السلام-، وكل ناظرٍ للسيرة يتجلى له جمال أدب الصحابة الكرام معه، وما ذاك إلا لعلمهم أن هذا مِن حقه عليهم، وقد قال الله: (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ)[الفتح: 9]؛ قال السعدي: "أي: تُعظِّموه وتُجِلُّوه، وتقوموا بحقوقه -صلى الله عليه وسلم-".

 

ولعلمهم أن الأدب معه -عليه السلام- هو أدبٌ مع المرسِل -سبحانه-، ولا تُتصور محبته -صلى الله عليه وسلم- مع سوء أدبٍ معه.

 

قال عروة بن مسعود الثقفي لأهل مكة متحدثاً عن أدب الصحابة: "أيْ قومِ، والله لقد وفدتُ على الملوك، ووفدت على قيصر، وكسرى، والنجاشي، والله إنْ رأيتُ ملِكًا قط يعظِّمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- محمدًا، والله إنْ تنخَّم نخامةً إلا وقعت في كفّ رجلٍ منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحدُّون إليه النظر تعظيمًا له".

 

ولأجل هذا قال عمرو بن العاص: "مَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَلا أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ، وَمَا كُنْتُ أُطيقُ أَنْ أَمْلأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ إِجْلالا لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطقْتُ لأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ حياءً منه"(رواه مسلم).

 

وحتى في قرعهم لبابه، روى البخاري في الأدب المفرد أن الصحابة إنما كانوا يقرعون باب النبي -صلى الله عليه وسلم- بالأظافر.

 

وكم نحتاج يا كرام إلى استحضار مقامات الأدب مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في زمنٍ ربما أساء البعض الأدب معه وهو يظنُّ أنه يحسن، حين ظن الأدب في شعارات وعبارات تردد، واحتفالات وأناشيد تنشد.

 

أجل؛ فليس الأدب معه -صلى الله عليه وسلم- مجرد كلمات مدائح خالية من الاتباع والعمل، بل الأدب معه -صلى الله عليه وسلم- أعظمُ من ذلك؛ إذ هو بالأعمال والأقوال، والاعتقاد، وفي العبادات والمعاملات والأخلاق، وفي القرآن: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)[الأحزاب: 21].

 

عباد الله: إن أشرف مجالات الأدب مع النبي -صلى الله عليه وسلم-: كمالُ التسليمِ له والانقيادِ لأمره، والعمل بشريعته، والتأسي به ظاهراً وباطناً، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، بلا شكٍّ ولا تردد، ولا نقدم عليه آراء الرجال، لأنه -عليه السلام- هو المُؤيَّد بوحي السماء، ولذا لا يتحقق لعبدٍ إيمانٌ وأدبٌ حتى يطيع النبي ويسلمَ له تسليماً.

 

والصحب الكرام لهم في هذا أجملُ الصور، حتى صرَّح أبو بكر بقوله: "لست تاركًا شيئًا كان رسول -صلى الله عليه وسلم- يعمل به، إلا عملت به، وإني لأخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ"، وهجر ابن مسعود صاحبه حين حدثه بحديثٍ فخالفه، وقال له: أُحَدِّثُكَ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الخذف ثم تخذف! لا أكلمك أبداً.

 

قال ابن القيم: "من الأدب مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن لا يُتقدم بين يديه بأمر ولا نهي، ولا إذن ولا تصرف حتى يأمر هو ويأذن، كما قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[الحجرات: 1]، وهذا باقٍ إلى يوم القيامة ولم يُنسَخ، فالتقدم بين يدي سنته بعد وفاته كالتقدم بين يديه في حياته، ولا فرق بينهما عند كل ذي عقل سليم".

 

إذن، فالأدب معه -عليه السلام- يوجب علينا أن نُحَكِّمه في سائر أمورنا، ولا نتقدم بين يديه، وقد قال ربنا -سبحانه-: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[النساء: 65].

 

يا كرام: ومن عظيم أدب القوم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: تعظيم سماع سُنته، وقد قال مصعب بن عبد الله: "كان مالك إذا ذكَر النبي -صلى الله عليه وسلم- يتغيَّر لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له يوماً في ذلك.

 

فقال: لو رأيتم ما رأيت؛ لما أنكرتم عليَّ ما ترون؛ لقد كنت أرى محمد بن المنكدر ، وكان سيد القراء لا نكاد نسأله عن حديث أبداً إلا ويبكي حتى نرحمه. ولقد كنت أرى جعفر بن محمد، وكان كثير الدعابة والتبسم؛ فإذا ذُكِرَ عنده النبي -صلى الله عليه وسلم- اصفر لونه، وما رأيته يحدث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا على طهارة.

 

ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير فإذا ذُكِرَ عنده النبي -صلى الله عليه وسلم- بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع. ولقد رأيت الزهري، وكان من أهنأ الناس وأقربهم، فإذا ذُكِرَ عنده النبي -صلى الله عليه وسلم- كأنه ما عرفك ولا عرفته. ولقد كنت آتي صفوان بن سليم وكان من المتعبدين المجتهدين؛ فإذا ذَكر النبي -صلى الله عليه وسلم- بكى فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه.

ألا، فرحم الله ذلكم الرعيل، وشرح الله صدورنا بالأدب مع نبينا وتعظيم سنته.

 

عباد الله: ومن مجالات الأدب معه -عليه السلام-: أدبُ اللسان، بأن لا تُرفع الأصواتُ فوقَ صوته، فإن هذا سببٌ لحبوط الأعمال، وقد قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَط أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)[الحجرات: 2]؛ وإذا كان هذا الوعيد لمن رفع الصوت فحسب، فما الظنُّ برفعِ الآراء والأفكار على سُنته وما جاء به؟!

 

ومن أدب اللسان مع النبي -صلى الله عليه وسلم- كذلك: ألا نذكره باسمه فقط، بل يُذْكَر بالنبوة والرسالة، وقد قال ربنا: (لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا)[النور: 63].

 

ومن الأدب القولي مع الحبيب -صلى الله عليه وسلم- الصلاةُ عليه إذا ذُكِر، كما أمر الله -تعالى- بقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، فالصلاة والسلام عليه من أفضل القربات، وأجلّ الأعمال، ومن مظاهر حبه والأدب معه.

 

 

الخطبة الثانية:

 

عباد الله: والأدب معه -صلى الله عليه وسلم- يقتضي أن نتحرَّى سُنّته، وبه نقتدي، فذاك علامةٌ على حبّه.

 

وقد كان أصحاب الأدب معه يتحرون سنته، حتى قال أحمد بن حنبل: ما كتبتُ حديثاً إلا وقد عملت به، حتى مرَّ بي "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- احتجم وأعطى أبا طيبة ديناراً"؛ فأعطيت الحجام ديناراً، حين احتجمت.

 

وحتى في حال الشدة يتابعون سُنّته، وقد قال إبراهيم بن هاني: "اختفى عندي أحمد بن حنبل ثلاث ليال، ثم قال: اطلب لي موضعاً حتى أدور. قلت: لا آمن عليك يا أبا عبد الله. فقال لي: النبي -صلى الله عليه وسلم- اختفى في ‌الغار ‌ثلاثة ‌أيام ثم دار، وليس ينبغي أن نتَّبع سُنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ‌الرخاء ونتركها في الشدة". فسل نفسك كم هي السنن التي تطبقها في يومك، وما هو قدر السنة في نفسك.

 

عباد الله: ومِن مقامات الأدب معه -صلى الله عليه وسلم-: التأدب مع صحابته، فهم القوم الذين رضيهم الله لصحبته، وهم الذين نقلوا إلينا سُنته، وبذلوا الغالي والنفيس في نشر شرعته. وإنه لسوءُ أدبٍ مع الصحب الكرام أن يأتي بذيءُ قولٍ ليذمّ بعض الصحابة بأيّ حجة من الحجج.

 

وهؤلاء -ولا شك- قومٌ قلّ علمهم وعقلهم، وإلا فكيف يُذَم من قال الله عنهم (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)[التوبة: 100]، ومن قال ربنا فيهم: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ)[الفتح: 29]؛ فأقل صحابي أفضل من كل من ما جاء بعده، ولا يمكن أن يلحقهم غيرهم في الفضيلة، وقد قال ابن عمر: "لا تسبوا أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمره".

 

والعجب لا ينقضي ممن يدّعي الإسلام ثم هم يسبّون الصحب الكرام، ويكفرونهم ويلعنوهم، وهم الرافضة كفى الله المسلمين شرهم.

 

ونحن قومٌ عقيدتنا تُملي علينا أن نحب الصحابة، وأن نذبّ عنهم ما استطعنا، ولا خير فيمن يُبغض صحب نبيه أو يوالي من يبغضهم.

 

وبعد: فذلكم شيء من مجالات الأدب مع نبينا -عليه السلام-، والمسلم يتدين لله بحبّ نبيه، وبأن يكون حبّه مُقدّماً على حبّ أهله ونفسه والناس أجمعين.

 

اللهم ارزقنا الأدب مع نبينا -صلى الله عليه وسلم- واحشرنا في زمرته.

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life