عناصر الخطبة
1/تعامل المسلم مع الأقدار 2/صنفان من همم الناس في الدنيا 3/خطورة الانشغال الزائد بالدنيا 4/طالب الآخرة يأتيه رزقه بلا عناء 5/ الاشتغال بالآخرة سبب السعادة 6/التوسط والاعتدال في الدنيا وطلب الأرزاق.اقتباس
إذا أصبح العبد وأمسي وليس همّه إلا الله وحده تحمَّل الله -سبحانه- حوائجه كلها وحمَل عنه كل ما أهمه وفرَّغ قلبه لمحبته ولسانه لذِكْره وجوارحه لطاعته، وإن أصبح وأمسي والدنيا همه حمَّله الله همومها وغمومها وأنكادها ووكله إلى نفسه....
الخطبةُ الأولَى:
إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضْلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
إنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هديُ محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]؛ أما بعد:
أيها الإخوة: الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيَّن كيف يتعامل المسلم مع أقداره في الحياة، فبين "أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك"، وأنه "لن تموت نفس حتى تستكمل أجلها ورزقها"، ووصى النبي -صلى الله عليه وسلم- ابن عمر -رضي الله عنهما- أن يكون فيها بقوله: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل".
وفي هذا الحديث صنفان من همم الناس في الدنيا: أولهما قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من كانت الدُّنيا همَّه"؛ أي: كانت الدنيا قصْدَه وشُغلَه الشاغل، وأعظم شيء يهتم به، وكان غرَضُه مِنها اتباع الشَّهواتِ؛ "جعَل اللهُ فقْرَه"؛ أي: جعَل اللهُ احتِياجَه "بينَ عينَيْه"؛ أي: أمامَه ولو كان مِن الأغنياءِ، فلم يغنيه انكبابه على الدنيا بل فرَّق عليه شَمْلَه، فشتت عليه أمرَه فتتشعَّبُ عليه أمورُ الدُّنيا، "ولم يأتِه مِن الدُّنيا إلَّا ما قُدِّر له"؛ أي: لَم يُحصِّلْ مِنْها رُغمَ هذا السَّعي الحثيث فيها إلَّا ما قد كتَبه الله -عز وجل- له.
والصنف الآخر من الحديث: "مَن كانَتِ الآخِرةُ همَّه"؛ أي: أهَمَّ ما يَشغَلُه وكانتْ هي قَصْدَه في عمَلِه وحياتِه في الدُّنيا، "جعَل اللهُ غِناه في قلبِه"؛ أي: رزَقه الكِفايةَ وقنَّعه بما في يدِه، فيكونُ مُستغنِيًا باللهِ عن النَّاسِ، ولا يَطمَعُ في أحَدٍ، وأكرمه الله بأن: "جمَع له شَمْلَه"؛ أي: وكانَت أمورُه المتفرِّقةُ مُجتمِعةً بإذنِ اللهِ، ويسَّر له كلَّ شيءٍ، وتسهلت له أمور الدنيا؛ "وأتَتْه الدُّنيا وهي راغِمةٌ"؛ أي: وتأتيه الدُّنيا وهي ذَليلةٌ؛ لأنَّه لم يتَطلَّعْ إليها؛ قال -سبحانه-: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا)[الإسراء: 19]؛ أي: مقبولاً منمّى مدخرًا لهم أجرهم وثوابهم عند ربهم، وهذا بيان حسن عاقبة المؤمنين.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "إذا أصبح العبد وأمسي وليس همه إلا الله وحده تحمَّل الله -سبحانه- حوائجه كلها وحمَل عنه كل ما أهمه وفرَّغ قلبه لمحبته ولسانه لذِكْره وجوارحه لطاعته، وإن أصبح وأمسي والدنيا همه حمَّله الله همومها وغمومها وأنكادها ووكله إلى نفسه؛ فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق ولسانه عن ذِكْره بذكرهم وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم، والحاصل أن ما كُتب للعبد من الرزق سيأتيه لا محالة؛ فطالب الآخرة رزقه يأتيه بلا عناء، وطالب الدنيا يأتيه بتعب ومشقة".
وفقنا الله وإياكم لفعل الطاعات.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛ أما بعد:
عباد الله: الاشتغالُ بالآخرةِ دارِ القَرارِ سببُ السَّعادةِ والفوزِ بنَعيمِ الله -عز وجل-، ولا يَنقُص من الرِّزق شَيئًا، والاشتِغالُ بالدُّنيا حيث تكون همه الأول في تحقيق مراده منها وإضاعته للواجبات؛ كأداء الصلاة في وقتها وغيرها، فلن يحصل منها إلا ما كتب له؛ قال قتادة -رضي الله عنه-: "من كانت الدنيا همه ونيته وطلبه، جازاه الله في الدنيا بحسناته، ثم يُفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يجازى بها، وأما المؤمن فيجزى في الدنيا بحسناته، ويثاب عليها في الآخرة".
وقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- حال الدنيا بالنسبة للآخرة بقوله: "والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم فلينظر بم يرجع"(رواه مسلم)؛ قال النووي -رحمه الله-: "ومعنى الحديث: ما الدنيا بالنسبة إلى الآخرة -في قِصَر مدتها وفناء لذاتها، ودوام الآخرة ودوام لذاتها ونعيمها، إلا كنسبة الماء الذي يعلق بالإصبع إلى باقي البحر".
ثم اعلموا -أيها الإخوة- أن الحديث لا يمنع المسلم من طلب الرزق والسعي فيه لكفايته، وكفاية من يعول ومن سؤال الناس، بل هو مأمور به؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها؛ فيكفّ الله بها وجهه؛ خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه"(رواه البخاري).
والله -سبحانه- ذكر أن مِن الناس مَن يطلب الرزق بالضرب في الأرض بالإسفار؛ قال -سبحانه-: (وآخَرُونَ يَضْرِبُونَ في الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ)[المزمل: 20].
والإسلام أمر بالجد والعمل والتحصيل؛ فاعمل الصالحات وتوكل على الله وابتعد عن المحظورات.
رزقنا الله وإياكم الرزق الحلال المبارك.
وصلوا وسلموا على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التعليقات