عناصر الخطبة
1/استعداد المشركين لغزوة أحد 2/خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إلى أحد 3/بدء المعركة وهزيمة المشركين 4/الرماة يغادرون الجبل وتغير المعركة 5/تضحيات الصحابة بين يدي رسول الله 6/دروس وعبر من غزوة أحداقتباس
في هَذِهِ المَعْرَكَةِ قَاتَلَ سَمُرَةُ ورَافِعُ وَهُمَا ابْنَا خَمْسَ عَشْرَةَ سَنةٍ، عَلَى دِمَاءِ فِتْيَانٍ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَا هَذَا الدِّينُ، لَا لَـهْوٌ فِي الْأَوْقَاتِ، وَلَا مَرَحٌ فِي الشَّهَوَاتِ، سَعَى الْآبَاءُ لِإِصْلَاحِهِم، فَجَنَوْا ثَمَرَةَ صَلاحِهِم، فَمَاذَا قَدَّمَ شَبَابُنَا لِدِّينِهِم؟ وَمَا هِيَ هِمَّتُهُم؟ وَمَا هَمُّهُم؟ وَمَا تَطَلُّعَاتُهُم؟...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إن الْـحَمْدَ لِلَّـهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، ونعوذُ بِاللَّـهِ مَنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمَن سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنٍّ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهِدُ أن لاَ إلَهَ إلَّا اللَّـهُ وَحَدَّهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهِدُ أن محمدًا عَبدُهُ وَرَسُولُه، صَلَّى اللَّـهَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابه، وَسلِّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيكُمْ بتقوى الله -تعالى-.
أَيُّهَا الْـمُسْلِمُونَ: لَقَدْ بَعَثَ اللَّـهُ نَبِيِّنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مَنْ الرُّسُلِ، وَالْـحَيَاةُ مَلِيئَةٌ بظلماءِ جهالاتِها، ودهماءِ ضلالاتِها، فَأَخَذَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- ومعه صحبٌ كرامٌ بِنَشْرِ هَذَا الدّيْنِ في الْآفَاقِ، وتصدَّى أَهْلُ الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ لِدَعْوَتِهِ، وَأَشْهَرُوا الأسياف لِمُقَابَلَتِهِ، فَالْتَقَوْا فِي بَدْرٍ، وَتَحَقَقَ النَّصْرُ بِعَوْنِ اللَّـهِ، فَارْتَفَعَتْ رَايَةُ الإسلامِ، وَعَادَ الْـمُشْرِكُونَ إِلَى مَكَّةَ بِالثبُورِ، كلٌ يَبْكِي قَتَلَاهُ، ويشكي بَلْوَاهُ، وَعَظُّمَ عَلَيْهِمْ الْـمُصَابُ.
فَعَزَمْت قُرَيْشٌ عَلَى إعْدَادِ العُدَّةِ لِـمُلَاقَاةِ الْـمُسْلِمِينَ، وَأَمْضَوْا عاماً كاملاً فِي الِاسْتِعْدَادِ، فَاجْتَمَعَ جَمْعُهُمْ، وَاتَّجَهَ جَيْشُهُمْ إِلَى الْـمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ فِي شَوَّالٍ مَنْ السُّنَّةِ الثَّالِثَةِ؛ لِيَأْخُذُوا بِثَأْرِهِمْ مَنْ يَوْمِ بَدْرٍ، وَنَزَلُوا عِنْدَ جَبَلٍ أَحُدٍ عَلَى شَفِيرِ الْوَادِي، وكان رِجَالٌ مَنْ الْـمُسْلِمِينَ أَسِفُوا عَلَى مَا فَاتَهُمْ مَنْ مَشْهَدِ بَدْرٍ، فَأَشَارُوا عَلَى النَّبِيِّ بِالْـخُرُوجِ لملاقاتِهم، وَبَعْدَ أن صَلَّى -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- بِالنَّاسِ يَوْمَ الْـجُمُعَةِ دَخَلَ بَيْتَهُ، وَخَرَجَ مُتهيئاً لِلْقِتَالِ، وَقَالَ: "ما يَنْبغي لنبيٍّ أنْ يضَعَ أداتَهُ بعدَ أنْ لبِسَها، حتى يحكُمَ اللـهُ بينَهُ وبينَ عدُوِّه".
خَرَجَ فِي أَلْفٍ مَنْ الرِّجَالِ، فَلَمَّا كانوا بالطريقِ انخذلَ عَنْهُ عبدُاللـهِ بنُ أُبيٍّ -رَأْسُ النِّفَاقِ- بِثُلُثِ الْـجَيْشِ، فَتَرَكَهُمْ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- ومضى حَتَّى نَزَلَ الشِعبَ مَنْ أُحُدٍ، وَجَعْلَ ظَهْرَهُ وَعَسْكَرَهُ إِلَى أُحُدٍ، وَجَعْلَ عَلَى الرُماةِ خَمْسِينَ رجلاً، وأمّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَاللَّـهِ بنَ جُبَيْرٍ، وَأَمْرَهُمْ أن يَلْزَمُوا مَكَانَهُمْ، وَقَالَ: "إنْ رَأَيْتُمُونَا نُقتلُ فَلاَ تنصُرونا، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا نَغْنَمُ فَلاَ تَشْرَكُونا".
فَلَمَّا كَانَ صَبِيحَةُ يَوْمِ السَّبْتِ استعدَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- لِلْقِتَالِ، وَظَاهَرَ بَيْنَ درعيِه، وَاسْتَعْرَضَ الشَّبَابَ، وكان مِمَّنْ أَجَازَ سَمُرَةُ بنُ جُنْدُبٍ وَرَافِعُ بنُ خَدِيجٍ، ولهما خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً.
وَاسْتَعَدَّتْ قُرَيْشٌ لِلْقِتَالِ، في ثَلاَثَةِ آلَافِ رَجُلٍ، فِيهِمْ مئتا فَارِسٍ، يَقُودُهُمْ أَبُو سُفْيَانَ، يُرِيدُونَ أن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّـهِ، وَإِضْلَالَ الْعِبَادِ، والمسلمونَ سَبْعُ مِائَةِ رَجُلٍ، يَبْتَغُونَ النَّصْرَ أَو الشَّهَادَةِ.
حرّض النَّبِيُّ أَصْحَابَهُ عَلَى الْقِتَالِ، وحضَّهم عَلَى الصَّبْرِ والمجالدةِ، وَتَقَابَلَ الْـجَيْشَانِ، وَتَقَارَبَ الْـجَمْعَانِ، السُّيُوفُ مصلتةٌ، وَالرِّمَاحُ مُبرَّزَةٌ، وَالسِّهَامُ منتثرةٌ، حِزْبُ الرَّحْمَنِ وَحِزْبُ الشَّيْطَانِ.
تلاحمَ الْفُرْسَانُ، وَحَمِيَ الْوَطِيسُ، وكانت الدَّائرَةُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَنْزَلَ اللَّـهُ نَصَرَهُ عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ، وَانْكَشَفَ الْـمُشْرِكُونَ، وَسَقَطَ لِواؤُهم، وَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، فَلَمَّا رَأَى الرُّمَاةُ هَزِيمَتَهُمْ، ظَنُّوا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُشْرِكِينَ رَجْعَةٌ، فَنَزَلَ مَنْ نَزَلَ مِنْهُمْ فِي طَلَبِ الْغَنِيمَةِ، وَتَرِكُوا مَكَانَهُمْ الَّذِي أَمَرَهُمْ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- بِحِفْظِهِ، وذكَّرَهم أَمِيرُهُمْ بِلُزُومِهِ، فَنَزَلُوا وَخَلا الثَّغْرُ، فالتفَّ خَالِدٌ وَهْوَ عَلَى الشِّرْكِ يَوْمَئِذٍ، مَنْ وَرَاءِ جَبَلِ الرُّمَاةِ، فَقَتلَ الْعَشَرَةَ الْبَاقِينَ مَنْ الرُّمَاةِ الَّذِينَ عَلَى الْـجَبَلِ، وَأَصْبحَ جَيْشُ الْـمُسْلِمِينَ بَيْنَ خَيَّالَةِ الْـمُشْرِكِينَ مَنْ الْـخَلَفِ، وَبَيْن مُشاتِهم مَنْ الْأَمَامِ، وَأَحَاطُوا بِالْـمُسْلِمِينَ، فاضطربِتِ الصفوفُ.
وَانْهَزَمَتْ طَائِفَةٌ مَنْ الْـمُسْلِمِينَ، وَتَفَرَّقَ سَائِرُهُمْ، وَوَقْعُ الْقَتْلُ فِيهِمْ -رَضِيَ اللَّـهَ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ-، فَكَانَ مَا أَرَادَ اللَّـهُ كَوْنه، فَأَكْرَمَ مَنْ أَكْرَمَ بِالشَّهَادَةِ، وَثَبَتَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- حِينَ انْكَشَفُوا عَنْهُ، وَهْوَ يَدْعُوهُمْ فِي أُخراهُم حَتى رَجَعَ إلَيْهِ بَعْضُهُمْ، وَخَلَصَ الْـمُشْرِكُونَ إِلَى النَّبِيِّ يُرِيدُونَ قَتْلَه، فشجُوا وَجْهَهُ، وَكَسَرُوا رَباعيّتَهُ بِحَجَرٍ، وَوَقَعْت حَلْقَتَانِ مَنْ حِلَقِ الْمِغْفَرِ فِي وَجْهِه، وَهَشَّمُوا الـخُوذَةَ عَلَى رَأْسِهِ، وَرَمَوْهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى وَقْعَ لِشِقِّهِ، وَسَقَطَ في حُفْرَةٍ مَنْ الْـحَفْرِ الَّتِي كَانَ أَبُو عَامِرٍ الْفَاسِقُ حَفَرَهَا؛ ليكيد بِهَا الْـمُسْلِمِينَ.
فَأَخَذَ عَلَيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنه- بِيَدِهِ، وَاحْتَضَنَهُ طَلْحَةُ بنُ عُبَيْدِ اللَّـهِ، وقُتِل مُصْعَبُ بن عُمَيْرٍ بَيْنَ يَدَيْه، وَأَدْرَكَ الْـمُشْرِكُونَ الرَّسُولَ، فَحَالَ دُونَهُمْ نَفَرٌ مَنْ الْـمُسْلِمِينَ نحوٌ مَنْ الْعَشَرَةِ، حَتَّى قُتِلوا جميعاً، ثُمَّ جالدَهُم طَلْحَةُ حَتَّى أَبْعَدَهُمْ عَنْهُ، فَشُلّتْ يَدُهُ، وتَرَّسَ أَبُو دُجَانَةَ عَلَيْهِ بِظَهْرِهِ، والنبالُ تَقَعُ عَلَيْهِ وَهْوَ لاَ يَتَحَرَّكُ؛ وِقايةً لِرَسُولِ اللَّـهِ، وَصَرَخَ الشَّيْطَانُ بِأَعْلَى صَوْتَهُ: إنَّ محمداً قَدْ قُتلَ، وَوَقْعُ ذَلِكَ فِي قُلُوبِ كَثِيرٍ مَنْ الْـمُسْلِمِينَ، وتولى أَكْثَرُهُمْ؛ (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا)[الأحزاب: 38].
وَأَقْبَلَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- نَحْوَ الْـمُسْلِمِينَ، فَرَأَوْهُ وَاجْتَمَعُوا بِهِ، وَنَهَضُوا مَعَهُ إِلَى الشِعبِ الَّذِي نَزَلَ فِيْهِ، وَاسْتَنَدُوا إِلَى الْـجَبَلِ، وَغَسَّلَ عَلَيٌّ الدَّمَ عَنْ وَجْهه -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، وَلَـما رَأَتْ ابْنَتَهُ فَاطِمَةُ أن الْـمَاءَ لاَ يَزِيدُ الدَّمَ إلَّا كَثْرَةً، أَخَذَتْ قِطْعَةً مَنْ حَصِيرٍ فَأَحْرَقَتْهَا فألصقَتهَا، فَاسْتَمْسَكَ الدَّمُ، وأُجهدَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- غَايَةَ الْإِجْهَادِ، وَلمـا أَرَادَ أن يَعْلُو صَخْرَةً هُنَاكَ لَمْ يَسْتَطِعْ لِمـا بِهِ، فَجَلَسَ طَلْحَةُ تَحْتَهُ حَتَّى صَعَدهَا، وَفَزِعَ النَّاسُ لقتلاهُم، ثُمَّ نَزَلَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- فَرَأَى الشُّهَدَاءَ قَدْ مُثِّلَ بِهِمْ، وَقَدَ مُثِّلَ بِهِمْ أَقْبَحُ تَمْثِيلٍ، وتلمّسَ عَمِّهَ حَمْزَةَ فَوَجَدَهُ فِي الْوَادِي، مبقورَ الْبَطْنِ، مجدوعَ الْأَنْفِ وَالْأُذُنَيْنِ.
وَمَال الْـمُشْرِكُونَ إِلَى رِحَالِهِمْ، وفي الأَرْضِ أَشْلَاءٌ، وَأَرْوَاحٌ تُحتضرُ، وكان هَذَا كُلُّه يَوْمَ سَبْتٍ، وَوَضَعَتْ الْـحَرْبُ أَوْزَارَهَا، حَصَادُهَا سَبْعُونَ شهيداً مَنْ الْـمُسْلِمِينَ، واثنانِ وعشرونَ هالكاً مَنْ الْكَافِرِينَ، قَتْلَانَا فِي الْـجَنَّةِ، وَقَتَلَاهُمْ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا الْـمُسْلِمُونَ: أُحدٌ نصرٌ لاَ هَزِيمَةٌ، مَعْرَكَةٌ فياضةٌ بِالْعَبْرِ والعظاتِ، أحداثُها صَفَحَاتٌ ناصعةٌ، يَتَوَارَثُهَا الْأَجْيَالُ بَعْدَ الْأَجْيَالِ، أَنْزَلَ اللَّـهُ فِيهَا سِتِّينَ آيَةً فِي كِتَابِه الْـمُبِينِ، كَانَ لَهَا أَثَرٌ عَمِيقٌ فِي نَفْسِ النَّبِيِّ فظِلِّ يَذْكُرُهُ إِلَى قُبَيْلِ وَفَاتِهِ.
إن هَذَا الدّيْنَ وَصْلَ إلَيْنَا بَعْدَ كفاحٍ مَرِيرٍ مَنْ الصَّحَابَةِ وَالْأَسْلَافِ، ذَاقُوا فِيْهِ مَرَارَةَ الْـمَصَائِبِ وَالْمِحَنِ: فأَنَسُ بنُ النَّضْرِ يُصَابُ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ بِبِضْعٍ وثمانينَ جِرَاحَةً، ثُمَّ مُثّلَ بِهِ بَعْدَهَا، فَلَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ سِوَى أُخْتِه بِبَنَانِهِ، وفي سَعْدِ بنِ الرَّبِيعِ سَبْعُونَ طَعْنَةً، فَمَاذَا قَدَّمَنَا لِدِينِنَا؟.
ولِلصَّحَابَةِ الْكِرَامِ الصُحبةُ والسبقُ وَالْإِقْدَامُ، تَقَطَّعَتْ مِنْهُمْ الْأَشْلَاءُ، وَتَمَزَّقَتْ الْأَجْسَادُ، وترملَ النِّسَاءُ، قدَّموا أَرْوَاحَهُمْ فِدَاءً لِهَذَا الدّيْنِ، حَتَّى وَصَلَ إلينا كاملاً مُتمّماً، فاقدِرْ لَـهُمْ قَدْرَهَمْ، وَاشْكُرْ لهم سَعْيَهُمْ، وترضَّ عَنْهُمْ، فَقَدْ أَحَبَّهُمْ ربُّهم.
في الفُرقةِ وَالنِّزَاعِ تُبعثَرُ الجهودُ، وفي الْأُلْفَةِ وَالِاتِّفَاقِ صَفَاءُ الْقُلُوبِ، فَاحْذَرْ مَنْ تَفَرَّقِ الْكَلِمَةِ وَالِاخْتِلَافِ فِي الرَّأْيِ فَهُمَا الْـهَزِيمَةُ؛ (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)[الأنفال: 46].
بالمعاصي تَدُورُ الدَّوَائِرُ، فَفَاضَتْ أَرْوَاحٌ فِي تلك الْغَزْوَةِ بِسَبَبِ خَطِيئَةٍ، وَخَرَجَ آدَمُ مَنْ الْـجَنَّةِ بِمَعْصِيَتِهِ، فَالْزَمْ الطَّاعَةَ وَالْعُبُودِيَّةَ، يُؤْخَذُ بِيَدِك فِي الْـمَضَايِقِ، وتُفرَجُ لَك الشدائدُ، ولا تَجْعَلَ أَعْمَالَك جُنداً عَلَيْك، يَزْدَادُ بِهَا عَدُوُك قُوَّةً عَلَيْك.
ولا تَأْمَنِ الْـمَعْصِيَةَ مَنْ جَانِبِ المسرّةِ، وَحَلَاوَةِ الْفَرَحِ قَدْ تَخْتَلِطُ بِمَرَارَةِ الْـحُزْنِ، وَالصَّحَابَةُ الْكِرَامُ فَرِحُوا بِالْغَنِيمَةِ، وَنَزَّلَ الرُّمَاةُ لِجَمْعِهَا، فلحقتهُمُ الْـهَزِيمَةُ، والدُّنيا لاَ تَدُومُ عَلَى حَالٍ، فَكُنْ صابراً عَلَى لَأْوَائِهَا، شاكراً لِلَّـهِ فِي نعمائها؛ (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)[آل عمران: 140].
أَبُو سُفْيَانَ فِي أُحُدٍ يَقُودُ الْـمُشْرِكِينَ، وَشِعَارُهُ: اُعلُ هُبلٍ، وفي فَتْحِ مَكَّةَ يَقُوْل: لاَ إلَهَ إلَّا اللَّـهُ، وَوَحْشِيٌ يَقْتَلُ حَمْزَةَ، ثُمَّ يُسلمُ، وَيَقْتُلُ مُدعي النُّبُوَّةِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابُ، فَاحْذَرْ عَلَى نَفْسَك التَّقَلُّبَ؛ "فَالْقُلُوبُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مَنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ"، وَاسْأَلْهُ دوماً دَوَامَ الثَّبَاتِ، وَالْعَبْدُ وَإِنَّ اسْتَغْرَقَ فِي الْعِصْيَانِ، فَالتَّوْبَةُ تَحُطُّ الْأَوْزَارَ وَإِنَّ بَلَغَتْ الْعَنَانِ.
وخَالِدُ بنُ الْوَلِيدِ يَقُودُ خيَّالةَ الْكُفْرِ، وقُتِلَ عَلَى يَدَيْه فُضَلَاءُ الصَّحَابَةِ، وَلَـما شَرْحَ اللَّـهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ، أَتَى يُبَايِعُ، فقَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّـهِ، إنِّي أَشْتَرِطُ أن تُغفَرَ زَلَّتِي"، فَقَالَ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "يَا خَالِدُ، أَمَّا عَلِمْت أن الإسلامَ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ، وَأَنْ التَّوْبَةَ تجُبُ مَا قَبْلهَا".
فَأَنْقَذْ نَفْسَكَ مَنْ وَحْلِّ الْأَوْزَارِ، وَأَقْبَلْ عَلَى رَبِّكَ تائباً مَنْ الْآثَامِ، فالحسناتُ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ، ولا تَسْتَنْكِفْ عَنْ التَّمَسُّكِ بِهَذَا الدّيْنِ، فَحَولَهُ سَالَت الدِّمَاءُ؛ (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[آل عمران: 165].
أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أما بعد:
فيا عباد الله: الْأَنْبِيَاءُ عَبَيْدٌ مَخْلُوقُونَ، يَعْتَرِيهِمْ مَا يَعْتَرِي الْبَشَرُ، لاَ يُرفعونَ فَوْقَ مَنْزِلَةِ الْعُبُودِيَّةِ، ولا يُحَطُ مَنْ شَأْنِهِمْ، وَالنَّبِيُّ ظَاهِرَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ، وَلَبِسَ لامةَ الْـحَرْبِ، وكافحَ مَعَهُ الصَّحَابَةُ، وَقَاتِلَ عَنْهُ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ أَشَدَّ الْقِتَالِ، وَمَعْ هَذَا شُجَّ فِي وَجْهِه، وكُسرت رَباعيتُه، وَالْأَمْرُ لِلَّـهِ مَنْ قُبْلُ وَمَن بَعْدُ، وَهْوَ -سُبْحَانَهُ- وَحَدَّهُ النَّافِعُ الضَّارُّ، ولو كَانَ يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ شيئاً مَا سَالَ الدَّمُ مِنْهُ، فَاصْرِفْ عِبَادَتِكَ لِلْجَبَّارِ، وَتَذَلَّلْ بَيْنَ يَدَيْ الْقَهَّارِ، تَتَحَقَّقْ لَك -بِإِذْنِ اللَّـهِ- المسارُّ.
وَالْـمَرْءُ قَدْ يُبتلى بِذَوِي الْقُرْبَى وَالْأَرْحَامِ، فَاصْبِرْ عَلَى مَا تُلَاقِيهِ مِنْهُمْ، فَأَقَارِبُ النَّبِيِّ تَرَكُوا أَوْطَانَهَمْ وَأَمْوَالَهمْ، وَقَدِمُوا إِلَى الْـمَدِينَةِ لِقَتْلِ النَّبِيِّ، وَفَعَلُوا مَا لَمْ يَفْعَلْهُ غَالِبُ الْكُفَّارِ، مَنْ تَمْثِيلِهِمْ بِالْقَتْلَى، مَعَ أَنَّهُمْ بَنُو عَمِّهِ، وفي الْفَتْحِ عَفَا عَنْهُمْ وَصَفَحَ، وَقَالَ: "أَنْتُمْ الطُّلَقَاءُ"، فَاِتَّخَذِ النَّبِيَّ قُدْوَةً لَك فِي الْـحِلمِ وَالْعَفْوِ، وَصْلْ رَحِمَكَ، وَغُضَّ الطَّرَفَ عَمَّا يسوؤُكَ مِنْهُمْ.
عباد الله: مَن مُروآتِ الْأَفْعَالِ الْعِرْفَانُ لِمَنْ خَدَمَ الدّيْنَ، وَمَن جَمِيلِ الْـخِلَّالِ الْوَفَاءُ لِلْأَصْحَابِ، وَدِمَاءُ شُهَدَاءِ أَحُدٍ بَقِيَتْ فِي نَفْسِ الرَّسُولِ إِلَى السَنةِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا، فَصَلَّى عَلَى قتلى أُحُدٍ بَعْدَ ثَمَانِ سِنِينَ، كَالْـمُودِعِ لَـهُمْ.
فأَجِلَّ نُبَلَاءَ هَذَا الدّيْنِ، وَاحْفَظْ وُدَّ خِلاَّنِكَ، وارعَ حَقَّ صُحْبَتِهِمْ، وَاحْفَظْ سِرَّهَمْ، يَقُوْل أَبُو سُفْيَانَ: "مَا رَأَيْتُ مَنْ النَّاسَ أحداً يُحِبُّ أحداً، كَحُبِّ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ محمداً".
يا شبابَ الأُمةِ: في هَذِهِ المَعْرَكَةِ قَاتَلَ سَمُرَةُ ورَافِعُ وَهُمَا ابْنَا خَمْسَ عَشْرَةَ سَنةٍ، عَلَى دِمَاءِ فِتْيَانٍ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَا هَذَا الدِّينُ، لَا لَـهْوٌ فِي الْأَوْقَاتِ، وَلَا مَرَحٌ فِي الشَّهَوَاتِ، سَعَى الْآبَاءُ لِإِصْلَاحِهِم، فَجَنَوْا ثَمَرَةَ صَلاحِهِم، فَمَاذَا قَدَّمَ شَبَابُنَا لِدِّينِهِم؟ وَمَا هِيَ هِمَّتُهُم؟ وَمَا هَمُّهُم؟ وَمَا تَطَلُّعَاتُهُم؟ وَبِمَ تَعَلُّقُهُم؟ (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)[الكهف: 13].
التعليقات