عناصر الخطبة
1/الحث على اتباع سنة السلف الصالح 2/التحذير من الذنوب والمعاصي 3/التحذير من الفتن والشرور الواقعة 4/في سير الصالحين تقوية لعزيمة المؤمنين 5/خصوصية المسجد الأقصى ووجوب العناية بهاقتباس
أيُّها النَّاسُ: عليكم أن لا تُحرِّكوا الفِتَن، ولا تُطيعوا أمرَ المُفسدينَ الَّذين يُفسِدونَ في الأرضِ ولا يُصلِحون، ولا تَسمعوا كلامَ المُنافقينَ، ولا تَتَّبِعوا خُطى الأشرارِ، فتكونوا من الخاسرين، الفِتنةُ نائمةٌ، لعنَ اللهُ مَنْ أيقظَها بينَ النَّاس...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ رافِعِ الأخيارِ، وواضِعِ الأشرارِ، مادِحِ الأبرارِ، وقاصِمِ الفُجَّارِ، البصيرِ السميعِ، العزيزِ المنيعِ، الَّذي مَنْ رفَعَ فهو الرّفيعُ، ومَنْ وضَعَ فهو الوضيعُ، بيَّنَ وأنارَ، واصطفى واختارَ، اصطفى الرُّسُلَ والأنبياءَ على سائرِ البَريّةِ، واختارَ أتباعَهم على الوَرى والخَليقَةِ، فجَعَلَ لكلِّ نبيٍّ أُمَّةً وأصحابًا، ولكلِّ رسولٍ أنصارًا وأعوانًا، رفعَ بهم المنازلَ، وشَرَّفَ بهم القبائلَ، فَجَعَلَ نبيَّنا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سيِّدَ الأنبياءِ والمُرسَلينَ، وجعلَ أُمَّتَهُ سيِّدةَ الأُمَمِ والماضينَ، وفضَّلَ أصحابَهُ على جميعِ أتباعِ المرسَلينَ والنبيّينَ.
اللهمَّ ذا الحَبْلِ الشديدِ، والأمرِ الرشيدِ، نسألكَ الأمنَ يومَ الوعيدِ، والجنّةَ يومَ الخلودِ، معَ المُقرَّبينَ الشهودِ، والرُّكَّعِ السُّجودِ.
ونشهدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ، منَّ علينا بالإسلامِ، وهدانا للإيمانِ، وجَعَلَ أرضَنا مهوى أفئدةِ المؤمنينَ، وأمرَ بشدِّ الرِّحالِ إلى مسجدِها على لسانِ رسولِهِ النّبيِّ الأمينِ.
فيا طوبى لمَن تَقرَّبَ فيها بالقُرُباتِ، ويا فوزَ مَن فعلَ الخيراتِ، ويا سَعدَ أهلِها في آخرِ الزّمانِ، كيفَ لا، وهم في البلاءِ صابرونَ راضونَ، وفي الرّخاءِ شاكرونَ وحامدونَ؟!
ونشهدُ أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا محمّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، المُستقلُّ بأعباءِ الرّسالةِ، المُنقِذُ من الضّلالةِ، المبعوثُ من أكرمِ الأعراقِ وأحسَبِها، المنعوتُ بمكارمِ الأخلاقِ وأحسنِها، أمَا خاطبَهُ المولى -تباركَ وتعالى- بقولهِ: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[الْقَلَمِ:4]، فالإسلامُ كلُّهُ أخلاقٌ، لا أقوالٌ ودعاوى وأكاذيبُ، ليسَ للمسلمِ سُكونٌ، ولا للصادقِ دعوى، ولا للخائفِ قرارٌ، ولا للخلقِ من اللهِ فِرارٌ.
ورضيَ اللهُ -تعالى- عن آلِ بيتِهِ الكرامِ، علماءَ رَبّانيّينَ، يُهتدى بهديِهم وبنورِهم، ويُقتدى بأثرِ مأثورهم، أئمَّة طُهِّروا بنصِّ الكتابِ، فاتَّصلَ نورُهم بنورِهِ من أقربِ بابٍ.
وارضَ اللهمَّ عنِ الصّحابةِ أجمعينَ، أرحمُهم أبو بكرٍ، وأشدُّهُم في دينِ اللهِ عمرُ، وأصدقُهُم حياءً عُثمانُ، وعليٌّ الذي صلَّى والنَّاسُ مُشركون، وأطاعَ وهم مُرتابون.
ونحنُ من هنا، من هذه الرِّحابِ الطّاهرةِ، ومن قلبِ الأرضِ المقدَّسةِ، نتوجَّهُ إلى المولى -تباركَ وتعالى- أنْ يتولَّانا برعايتِهِ، وأنْ يجعلَ أرضَنا أرضَ عزٍّ وبركةٍ لأُمَّتِنا الإسلاميّةِ، وأنْ يجمعَنا على الهُدى والرّشادِ والسَّدادِ.
أمَّا بعدُ، فيا أيّها المسلمُ، يا مَن وفدتَ إلى اللهِ -تعالى- في بيتِهِ المُقدَّسِ: أكرمَ اللهُ مثواكَ، ولا خَيَّبَ مَسْعاكَ، أنتَ اليومَ ضيفُ اللهِ -تباركَ وتعالى- وضيافتُهُ لا تَنْقَضي، أنتَ في رعايتِهِ وعنايتِهِ، فاشكرِ اللهَ -تباركَ وتعالى- على هذه النِّعمةِ، فمَنْ حولَنا في شدَّةٍ وعناءٍ وبلاءٍ وكربٍ وغلاءٍ، فمَنْ عَرَفَ اللهَ -تعالى- لا يكونُ لهُ غَمٌّ أبدًا.
عليكم -يا عبادَ اللهِ- بسيرةِ السَّلفِ الصّالحِ، فانظُروا فيها، واهتَدُوا بهديِهِم؛ فإنَّكم في زمانٍ قلَّ فيه الورعُ، وكثُرَتْ فيه الشُّبُهاتُ، وقد تجلسُ على المائدةِ، ولا تجدُ عليها لُقمةً حلالًا، أو أخًا مُؤنِسًا يأخذُ بيدِكَ إلى الطّريقِ المستقيمِ، فإذا أردتَ أن تتحصَّنَ من الشّيطانِ الرّجيمِ، فعليكَ بذِكرِ اللهِ -تباركَ وتعالى- في كلِّ وقتٍ وحينٍ، تدخل في حِصنِ اللهِ ودِرعِهِ الحصينِ؛ فمَنْ طلبَ أن يقضيَ اللهُ -تباركَ وتعالى- له جميعَ حوائجِهِ بلا سؤالٍ، فَلْيُلازمْ ذِكرَ اللهِ ليلًا ونهارًا.
إنَّ لكلِّ شيءٍ زينةً، وإنَّ زينةَ المساجدِ المتعاونونَ على ذِكرِ اللهِ -تباركَ وتعالى-، وليسَ الذينَ يجلسونَ في المساجدِ وترتفعُ أصواتُهم بالغِيبةِ والنَّميمةِ والمُنكَرِ والفحشاءِ، وإثارةِ الفتنِ بين المصلّينَ.
المساجدُ بيوتُ اللهِ، ولا يجلسُ فيها إلّا المُطهَّرونَ الذينَ يَصلُحونَ لمجالَسةِ اللهِ -تباركَ وتعالى-؛ فإيّاكَ -أيُّها المسلمُ- أنْ تَدَّعي أنَّ لكَ مقامًا بين الخَلْقِ، ثمّ تَعصيَ ربَّكَ بعدَ ذلك؛ فإنَّ اللهَ -تعالى- يقولُ لكَ: "أفٍّ عليكَ، أما تَستحيي؟ أينَ دَعواكَ القُربَ منّي؟ أينَ غَسلُكَ أثوابَكَ المُدنَّسةَ لِمُجالَسَتي؟ كم تَرعى في بطنِكَ من الحرامِ؟ كم تَنقُلُ أقدامَكَ إلى الآثامِ؟ كم تَنامُ وأحبابي قد صَفُّوا الأقدامَ؟ أنتَ مُدَّعٍ كاذبٌ، قُمْ وأَصْلِحْ نفسَكَ".
كيفَ ينبغي لِمَنْ يَدَّعي محبَّةَ اللهِ أنْ ينامَ عن خِدمتِهِ أوقاتَ المواكبِ الإلهيَّةِ؟ فَمَنْ نامَ أكثرَ من ثُلُثِ عُمرِهِ، فهو مفتونٌ؛ ولذلكَ قالوا: إنَّ النَّومَ أخو الموتِ؛ قال -تعالى-: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا)[الزُّمَرِ:42].
كيفَ يَدَّعي المسلمُ الصِّدقَ، وهو لا يَغُضُّ بصرَه، ولا يُطَهِّرُ فَرجَه، ولا لِسانَه من الآثام! وكيفَ يَدَّعي الصِّدقَ، وهو يَظلِمُ مَنْ حولَه مِنَ المسلمينَ والجيران! وكيفَ يَدَّعي الصِّدقَ، وهو خائنٌ للهِ ولرسولِه ولكتابِه ولجماعةِ المسلمينَ!
ما أَغفَلَنا عمَّا إليه مَصيرُنا! يا أهلَ معاصي اللهِ، لا تَغترُّوا بطولِ حِلمِ اللهِ عنكم، واحذروا أَسَفَه، فإنَّه يقولُ: (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ)[الزُّخْرُفِ:55].
كلُّ حُزنٍ يَبلى، إلَّا حُزنَ التائبِ عن ذنبِه. يا ابنَ آدم، صَاحِبِ الدُّنيا ببدنِك، وفارِقْها بقلبِك وهَمِّك.
عبادَ اللهِ: نعيشُ اليومَ في زمنِ البلاءِ والفِتَن، والحوادثِ الجسيمةِ، والوقائعِ النّازلةِ، والنّوازِلِ الهائلةِ، وتضاعُفِ الشّرورِ، وتَوالِي الأمورِ، وتوالي المِحَنِ، واختلافِ الزّمنِ، وانعكاسِ المَطبوعِ، وانقلابِ الموضوعِ، وتَتابُعِ الأهوالِ، واختلاف الأحوالِ، وفسادِ التدبيرِ، وعمومِ الخرابِ، وتَواتُرِ الأسبابِ.
أحوالُنا صعبةٌ، وأيَّامُنا عصيبةٌ، تُفنِي الجِلَادَ، وتُذيبُ الأكبادَ، وتُضنِي الأجسادَ، وتَدفَعُ السّهادَ، وتُسقِمُ القلبَ.
إنَّ القلبَ في هذا الزّمانِ مُتعَبٌ، فكيفَ المَلجأُ والمفرُّ من أهلِ هذا الزّمان؟! زمانٌ قد كَثُرَ فيه القيلُ والقالُ، لكنْ مَن بَلَانَا بأهلِه يُدَبِّرُنا بتدبيره معهم؛ فاللهُ -سبحانه وتعالى- هو وَلِيُّنا، وعليه نَعتَمِدُ في رفعِ الشّدائدِ.
نَعوذُ باللهِ من الفِتَنِ ما ظهرَ منها وما بَطَن، ونبرأُ إلى اللهِ مِنَ السَّاعينَ في الأرضِ فسادًا.
فيا أيُّها النَّاسُ: عليكم أن لا تُحرِّكوا الفِتَن، ولا تُطيعوا أمرَ المُفسدينَ الَّذين يُفسِدونَ في الأرضِ ولا يُصلِحون، ولا تَسمعوا كلامَ المُنافقينَ، ولا تَتَّبِعوا خُطى الأشرارِ، فتكونوا من الخاسرين، الفِتنةُ نائمةٌ، لعنَ اللهُ مَنْ أيقظَها بينَ النَّاس.
فيا أيُّها المسلمُ: اصبِرِ الصَّبرَ الجميلَ، واصفَحِ الصَّفحَ الجميلَ، واهجُرِ الهجرَ الجميلَ، تكنْ من الصَّابرينَ، الصَّبرُ لِباسُ المُرسَلينَ، وجِلبابُ الصّالحينَ، وتاجُ المُتّقينَ.
اصبِرْ على النَّوائبِ، ولا تتعرَّضْ للحقوقِ، وإنِ امرؤٌ شتَمَكَ بما فيكَ، فلا تشتِمْهُ بما تَعلَمُ فيه، فإنَّه يكونُ لكَ أجرُه، وعليه وِزرُه.
انظُروا إلى رسولِ اللهِ -صلّى اللهُ عليه وسلّم- كيفَ كان يَجوعُ حتَّى يَشُدَّ الحَجرَ على بطنِه، وقامَ في اللّيلِ حتّى تَورَّمَتْ قدماه، وهكذا أصحابُهُ الكِرامُ، قاموا وجاعوا، وخافوا من اللهِ أشدَّ الخوفِ، حتَّى كان الصِّدِّيقُ الأكبرُ إذا تَنَهَّدَ، يُشَمُّ من حَلقِه رائحةُ الكَبِدِ المَشويِّ، وأنفَقَ من مالِه في سبيلِ الله، وكانَ عمرُ لا يُرى فارغًا قطُّ، لا في ليلٍ ولا في نهارٍ، وكانَ عُثمانُ -رضيَ اللهُ عنه- يَختِمُ القرآنَ في رَكعةٍ من الليل، وأمَّا عليٌّ فهو أوفى الصّحابةِ وأشجعُهم، وفضائلُهم لا تُعدُّ ولا تُحصى، وهي أشهرُ من أن تُستقصى.
وتذكَّروا -يا عبادَ اللهِ- أنَّ للهِ في خلقِه من قديمِ الزّمانِ عادةً، وانتظار الفَرَجِ عبادة، نسألهُ انقشاعَ المصائبِ، وحُسنَ العواقبِ.
اللهمَّ ما مَنَنْتَ به فتمِّمْه، وما أنعمتَ به فلا تَسلُبْه، وما سَتَرتَهُ فلا تَهتِكْه، وما عَلِمتَهُ فاغفِرْه.
نسألُ اللهَ -تباركَ وتعالى- أن يُعوِّضَنا عن ضِيقِ هذه الدُّنيا الجافيةِ بالدخولِ إلى جنَّاتِه الواسعةِ الرفيعة، وأن يُمتِّعَنا فيها بفاكهةٍ كثيرةٍ لا مَقْطوعةٍ ولا مَمنوعةٍ.
عبادَ اللهِ: إنَّ اللهَ يُحبُّ المؤمنَ المُذنِبَ التوّابَ، وفي الحديثِ: "النَّدمُ توبةٌ"؛ (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)[الْبَقَرَةِ:222]، فتوبوا إلى اللهِ جميعًا أيُّها المؤمنونَ لعلَّكم تُفلحونَ، واستغفِروهُ إنَّهُ هو الغفورُ الرّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الذي خصَّ أُمَّتَنا بالمسجدِ الأقصى، الذي فضائلُهُ لا تُعدُّ ولا تُحصى، ومزاياهُ لا تُستقصى، فحَظِيَ بالأنبياءِ والمُرسَلينَ، وخُصَّ بالنبيِّ الأمينِ، فشُرِّفَ به قولًا ونصًّا، فزارهُ في ليلةٍ ما أعظمَها قدرًا، وصلَّى بالأنبياءِ إمامًا، فازدادوا به فخرًا.
فيا لهُ من مقامٍ ما أرقاهُ! ورَوضٍ ما أبهَاهُ! وخيرٍ ما أصفاهُ! منهُ تفيضُ البركاتُ، وعليهِ تتنزّلُ الرَّحماتُ.
مسجدُنا الأقصى الذي أعزَّهُ اللهُ وأبقاهُ، وتولَاهُ ورعاهُ، ومن كلِّ سوءٍ وقاهُ، فحافِظوا عليهِ، واعمُروهُ بالصّلواتِ والخَلواتِ والجَلَواتِ، وإيَّاكم وارتكابَ السّيّئاتِ؛ فإنَّهُ مَحَطُّ أنظارِ المولى -تباركَ وتعالى-.
وهكذا الأرضُ المُقدَّسةُ، إنّها خِيرَةُ اللهِ من أرضِه، يجتبي إليها خِيرَتَه من عبادِه، وقد تَكفَّلَ اللهُ -تعالى- بها وبأهلِها، ومَن تَكفَّلَ اللهُ به فلا ضَيعةَ عليه.
ونَشهدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ، خَلَقَ الأرضَ، واختارَ منها مواضعَ رفعَها، فسمَّاها بيوتَهُ الكرامَ، ومشاعرَهُ العِظامَ، وأمرَنا بطهارتِها، ونبَّهَنا على زيارتِها، فجعلَ منها بيتًا أُسِّسَ على التّقوى، وقِبلةً عظيمةً لِمَنِ اهتدى، ومسجدًا فضَّلَهُ بالنبيِّ المُصطفى، وقُدْسًا عظَّمَهُ بليلةِ الإسراءِ.
ونشهدُ أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، الذي اخترقَ السَّبْعَ الطّباقَ بنورٍ أضاءَتْ منه قصورُ بُصرى من أرضِ الشام، ذو الشَّرَفِ الأعلى، السَّنيِّ الجَبْهةِ، الواضحِ الجبينِ، الذي أنزلَ عليهِ المولى -تباركَ وتعالى- قولَهُ: (وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ)[الْمُؤْمِنَونَ:50].
اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ عليهِ ما دامَتِ الأرضُ المقدَّسةُ عامرةً بأهلِها، وعلى آلِهِ وأصحابِهِ الذينَ تمسّكوا بأرضِها ومقدَّساتِها.
أمّا بعدُ، فيا عبادَ الله: عصَمَنا اللهُ وإيَّاكم من الحَيْرةِ، ولا حمَّلَنا ما لا طاقةَ لنا به، وقيَّضَ لنا من جميلِ عونِهِ دليلًا هاديًا إلى طاعتِهِ، ووهبَنا من توفيقِهِ أدبًا صارِفًا عن معاصيه، ولا وكَلَنا إلى ضَعفِ عزائمِنا، وخَوَرِ قوانا، ووَهنِ بُنْيَتِنا، وتَردُّدِ آرائِنا، وسوءِ اختيارِنا، وقلّةِ تمييزِنا، وفسادِ أهوائِنا.
فيا أيُّها المسلمُ: إذا نَزَلَ بكَ أمرٌ من فقرٍ أو سُقْمٍ أو أذًى، فاستعِنْ باللهِ -تباركَ وتعالى-، واستعملِ الرِّضا، فإنَّ اللهَ مُطَّلِعٌ عليكَ، يعلَمُ ما أنتَ عليه، واعلمْ أنَّ لكلِّ شيءٍ سببًا، ولكلِّ سببٍ أجلٌ، ولكلِّ أجلٍ كتابٌ، ولكلِّ همٍّ في اللهِ فرَجٌ عاجِلٌ أو آجلٌ.
لا تَشتغِلْ قطُّ بمن يُؤذيكَ، واشْتَغِلْ باللهِ يردُّه عنكَ، فإنَّهُ هو الذي حَرَّكه عليه ليختبرَ دعواكَ في الصِّدق.
واحذَرُوا -يا عبادَ اللهِ- أنْ تَرْكَنُوا إلى نفوسِكم الظالِمَةِ؛ فإنَّ اللهَ -تباركَ وتعالى- يقولُ: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)[هُودٍ:113].
احذَروا غَوَائِلَ النفوسِ؛ فإنَّ المَسْلِمَ يُؤخَذُ عن مقامِه إذا أُعجِبَ بنفسِه، مَنِ اعترفَ بذنبِه، ثم تابَ؛ تابَ اللهُ عليه، فأصلِحوا وردُّوا الحقوقَ إلى أهلِها.
وإيَّاكم وأكلَ الحرامِ؛ فابتعِدُوا عن الشُّبُهاتِ، وظلم الْبَناتِ، ادفعوا لهنَّ الحقوقَ قبلَ فواتِ الأمانِ، وعندئذ ولات ساعة مندم، ولات حين مناص، إيَّاكُم والمعاملاتِ الربَوِيّةَ؛ فإنَّها حرامٌ.
يا مسكينُ: كم تبكي وتَنْدُبُ؟ أخلِصْ تَخْلُصْ، وبابُ التَّوبةِ مفتوحٌ حتَّى تطلعَ الشَّمسُ من مغربِها؛ فمن وَقَعَ في هَفْوَةٍ فليَتُبْ إلى اللهِ، وليؤمِّلْ أن يقبَلَ توبتَه بفضْلِهِ، وإيَّاكم وسوءَ الظَّنِّ باللهِ -تباركَ وتعالى-.
إنَّ اللهَ -سبحانه- غفَرَ لأقوامٍ بسجدةٍ واحدةٍ من غيرِ وضوءٍ، ولا استقبالِ قِبْلَةٍ، ولا طهارةِ بدنٍ ولا ثوبٍ؛ إنَّهم سحرةُ فرعونَ، فالمؤمنُ يسجُدُ للهِ بقلبٍ طاهرٍ، وبَدَنٍ طاهرٍ، ووضوء طاهرٍ، على موضعٍ طاهرٍ، ويقينٍ طاهرٍ، ومحبَّةٍ طاهرةٍ، وسِرٍّ طاهرٍ.
اللهمَّ اجعلْنا من عبادِك وأوليائِك المقَرَّبين.
اللهمَّ بنورِك اهتَدَيْنَا، وبفَضلِك استَغنَيْنَا، وبكَ أصبحْنَا وأمْسَيْنَا، ذنوبُنا بينَ يديكَ، نستغفِركَ ونتوبُ إليك.
اللهمَّ فرِّجْ كُرباتِنا، وأَقِلْ عثرتَنا، واغفِر زَلاتِنا، اللهمَّ هَبْ لنا إنابة إخباتٍ وإخباتَ منيبٍ، وزيِّنَّا في خَلقِكَ بطاعتِكَ، وحَسِّنَّا لديكَ بحُسنِ خِدمتِك، وأكرِمْنا إذا وفَدَ إلَيْكَ المتَّقونَ، فَأنتَ خيرُ مَقْصودٍ، وخيرُ مَعْبودٍ، وخيرُ مَشْكورٍ، وخيرُ مَحمودٍ.
اللهمَّ اقسِمْ لنا من خشيتِكَ ما تَحُولُ به بينَنا وبينَ معاصيكَ، ومن طاعتِكَ ما تُبَلِّغُنا به جَنَّتَكَ، ومِنَ اليقينِ ما تُهَوِّنُ به علينا مصائِبَ الدُّنيا.
اللهمَّ متِّعْنا بأسماعِنا وأبصارِنا وقُوَّاتِنا أبدًا ما أحيَيْتَنا، واجعلْهُ الوارِثَ منا، واجعلْ ثأرَنا على مَن ظلَمَنا، وانصُرْنا على مَن عادانا، ولا تَجعَلْ مصيبتَنا في دينِنا، ولا تجعلِ الدُّنيا أكبرَ همِّنا، ولا مَبلَغَ علمِنا، ولا إلى النَّارِ مَصيرَنا، ولا تُسَلِّطْ علينا بذُنوبِنا مَن لا يَخافُكَ ولا يَرحَمُنا.
وأنتَ يا مُقيمَ الصَّلاةِ أقمِ الصَّلاةَ؛ (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ:45].
التعليقات