أوسع العطاء الصبر

راكان المغربي

2025-09-26 - 1447/04/04 2025-10-09 - 1447/04/17
عناصر الخطبة
1/الصبر خير عطاء للمؤمن 2/من مواقف الصبر ومواضعه 3/من ثمرات الصبر 4/نعيم الجنة ينال بالصبر

اقتباس

مَرَاتِبُ الدُّنْيَا العَالِيَةِ، ومَنَاصِبُهَا الرَّفِيعَةُ، لَا تُنَالُ إِلَّا بِالصَّبْرِ، فَالطَّالِبُ النَّاجِحُ هُوَ الَّذِي يَصْبِرُ عَلَى الجَدِّ والاجْتِهَادِ، ويُقَاوِمُ الكَسَلَ والفُتُورَ، ويَحْبِسُهَا عَنْ كَثِيرٍ مِنَ اللَّعِبِ والتَّرْفِيهِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الدُّنْيَا، فَمَا بَالُكُمْ بِمَنَازِلِ الآخِرَةِ، ودَرَجَاتِ الجِنَانِ؟...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].

 

أما بعد: عَطَاءٌ مَجَانِيٌّ، ومِنْحَةٌ مُتَاحَةٌ، يُمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ عَلَيْهِ الجَمِيعُ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، مُوَاطِنًا أَوْ مُقِيمًا، هُوَ لَيْسَ عَقَارًا مَجَانِيًّا، ولا مَرْكَبًا فَاخِرًا، ولا مَبْلَغًا مَقْطُوعًا، بَلْ هُوَ أَغْلَى وأَثْمَنُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَمَا هُوَ هَذَا العَطَاءُ؟.

 

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ نَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: "مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، ومَن يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، ومَن يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، ومَن يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وما أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ".

 

"ومَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ"، الصَّبْرُ هُوَ خَيْرُ العَطَاءِ وأَوْسَعُهُ، فَلَئِنْ كَانَ المَالُ يَنْفَدُ، والمَتَاعُ يُفْقَدُ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مَخْزُونُ الصَّبْرِ لَهُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يَسْتَمِدَّ مِنْهُ سَعَادَةً لا تَفْنَى، ورِضًا لا يَنْقَضِي، فَالصَّابِرُ يَعِيشُ أَحْوَالَ حَيَاتِهِ، يَسْتَمِدُّ مِنْ كُنُوزِ الصَّبْرِ مَا يُقِيمُهُ عَلَى الدَّرْبِ، ويَحْفَظُهُ مِنَ الكَرْبِ.

 

تَمُرُّ عَلَى الصَّابِرِ أَحْوَالُ الشِّدَّةِ، فَيُبْتَلَى بِالفَقْرِ، أَوْ يُقْعِدُهُ المَرَضُ، أَوْ يَفْقِدُ الحَبِيبَ، أَوْ يَتَسَلَّطُ عَلَيْهِ العَدُوُّ، فَيَسْتَخْرِجُ مِنْ مَخْزُونِ الصَّبْرِ مَا يُهَوِّنُ عَلَيْهِ كُلَّ الصِّعَابِ، ويَمْلَأُ قَلْبَهُ بِتَمَامِ الرِّضَا.

 

لَمَّا وَاجَهَ جَيْشُ طَالُوتَ جُنْدَ جَالُوتَ، أُلْهِمَ المُؤْمِنُونَ مِفْتَاحَ النَّصْرِ، فَطَلَبُوهُ مِنَ اللهِ دَاعِينَ: (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)[البقرة: 250]، ومَعْنَى: (أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا) أَيْ: صُبَّ عَلَى قُلُوبِنَا الصَّبْرَ صَبًّا، وبِنَفْسِ الدُّعَاءِ دَعَا سَحَرَةُ فِرْعَوْنَ بَعْدَ أَنْ آمَنُوا وسَمِعُوا التَّهْدِيدَ والوَعِيدَ مِنْ فِرْعَوْنَ، فَقَالُوا: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ)[الأعراف: 126].

 

وَفِي هَذَيْنِ المَشْهَدَيْنِ تَتَصَوَّرُ كَيْفَ تَكُونُ النَّفْسُ فِي الشَّدَائِدِ خَاوِيَةً مُتَهَالِكَةً، حَتَّى تَسْتَمِدَّ القُوَّةَ مِنَ اللهِ، وتَسْتَمْطِرَ مِنْهُ العَوْنَ؟ فَيُفِيضُ عَلَيْهِمْ مِنَ الصَّبْرِ ويَصُبُّهُ صَبًّا فَيَغْمُرُهُمْ سَكِينَةً وطُمَأْنِينَةً، واحْتِمَالًا لِلأَهْوَالِ والصِّعَابِ؛ فَتَكُونُ النَّتِيجَةُ ثَبَاتًا عَلَى الحَقِّ لا يَتَزَعْزَعُ، ونَصْرًا لا رَيْبَ فِيهِ، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-: "واعْلَمْ أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ".

 

عِنْدَمَا ذَكَرَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- أَنْوَاعَ البَلَاءِ مِنَ الخَوْفِ والجُوعِ ونَقْصِ الأَمْوَالِ والأَنْفُسِ والثَّمَرَاتِ، عَقَّبَ بِالبِشَارَةِ التَّامَّةِ لِصِنْفٍ خَاصٍّ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ البَلَايَا، وهُمُ الصَّابِرُونَ، فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)[البقرة: 155 - 157].

 

يَا الله! انْظُرْ كَيْفَ تَتَحَوَّلُ البَلَايَا إِلَى عَطَايَا، والمِحَنُ إِلَى مِنَحٍ؟! يُصَابُ بِأَعْظَمِ المَصَائِبِ، لَكِنْ بِصَبْرِهِ يُبَشَّرُ بِأَحْلَى البُشْرَيَاتِ، ثَنَاءٌ مِنَ اللهِ عَلَيْهِ، ورَحْمَةٌ مِنْ لَدُنْهُ، واسْتِحْقَاقٌ لِلْهِدَايَةِ والْتِحَاقٌ بِأَهْلِهَا، فَهَلْ رَأَيْتُمْ أَوْسَعَ مِنْ هَذَا العَطَاءِ، وهَلْ عَلِمْتُمْ أَسْعَدَ مِنْ نَائِلِيهِ؟!.

 

صَدَقَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- إِذْ قَالَ: "إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَنَ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَنَ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَنَ، ولَمَنْ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ"، حَقًّا، إِنَّ الصَّبْرَ هُوَ كَنْزُ السَّعَادَةِ، ومَنْجَمُ السَّكِينَةِ، ومَنْبَعُ الرِّضَا الَّذِي لا يَنْضُبُ، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-: "عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، ولَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ".

 

عِبَادَ اللهِ: ومِنَ الأَحْوَالِ الَّتِي يَبْرُزُ فِيهَا عِظَمُ عَطَاءِ الصَّبْرِ، مَا يُعْطِيهِ الصَّبْرُ مِنْ طَاقَةٍ عَجِيبَةٍ لِلْمُؤْمِنِ فِي طَاعَةِ اللهِ -سُبْحَانَهُ-، فَتَجِدُ الرَّجُلَ قَدْ شَابَ شَعْرُهُ، وَانْحَنَى ظَهْرُهُ، وَوَهَنَتْ عِظَامُهُ، لَكِنَّهُ قَوِيٌّ فِي طَاعَةِ اللهِ، سَرِيعٌ إِلَى مَوَاطِنِ رِضَاهُ، عِنْدَ صَلَاةِ الفَجْرِ تَجِدُهُ أَوَّلَ المُسْتَيْقِظِينَ، وعَلَى أَبْوَابِ الأَيْتَامِ والأَرَامِلِ تَرَاهُ أَوَّلَ السَّاعِينَ، وَفِي سَبِيلِ إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ تَعْرِفُهُ أَوَّلَ الدَّاعِينَ.

 

يَا تُرَى ما هُوَ مَشْرُوبُ الطَّاقَةِ الَّذِي يَتَنَاوَلُهُ؟! ومَا هِيَ التَّمَارِينُ الرِّيَاضِيَّةُ الَّتِي يُمَارِسُهَا؟! إِنَّهُ مَخْزُونُ الصَّبْرِ الَّذِي يُمِدُّهُ بِالطَّاقَةِ اللَّا مَحْدُودَةِ؛ فَتُقَوِّي ضَعْفَهُ، وتُوقِدُ هَمَّهُ، وتُشْعِلُ عَزِيمَتَهُ، فَلَا أَثَرَ لِضَعْفِ الجَسَدِ مَعَ قُوَّةِ القَلْبِ والرُّوحِ.

 

رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- يَتَجَاوَزُ الخَمْسِينَ مِنْ عُمْرِهِ، ومَعَ ذَلِكَ يُصَلِّي اللَّيْلَ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، يَقِفُ فِي وَجْهِهِ قَوْمُهُ وعَشِيرَتُهُ لَكِنَّهُ يُكْمِلُ مَسِيرَةَ دَعْوَتِهِ، تَجْتَمِعُ العَرَبُ عَلَى حَرْبِهِ وإِيذَائِهِ فَمَا يَزِيدُهُ ذَلِكَ إِلَّا ثَبَاتًا ومُضِيًّا فِي طَرِيقِ الجِهَادِ.

 

عَجَبِي، مِنْ أَيْنَ لَهُ هَذِهِ القُوَّةُ؟! إِنَّهَا مِنَ اللهِ -سُبْحَانَهُ- الَّذِي وَعَدَ الصَّابِرِينَ بِمَعِيَّتِهِ وتَوْفِيقِهِ وتَسْدِيدِهِ؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[البقرة: 153].

 

الصَّابِرُونَ هُمْ أَحْبَابُ اللهِ، يَرَاهُمْ يُصَابِرُونَ عَلَى طَاعَتِهِ، ويُرَابِطُونَ عَلَى أَبْوَابِ رِضَاهُ، فَيُكْرِمُهُم بِمَحَبَّتِهِ ومَوَدَّتِهِ، قَالَ -سُبْحَانَهُ-: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)[آل عمران: 146].

 

مَعَاشِرَ المُسْلِمِينَ: ومِنْ أَحْوَالِ الصَّبْرِ الَّتِي يَتَجَلَّى فِيهَا عِظَمُ عَطَاءِ الصَّبْرِ، تِلْكَ السُّدُودُ المَتِينَةُ الَّتِي يَبْنِيهَا الصَّبْرُ بَيْنَ الإِنْسَانِ وبَيْنَ المَعْصِيَةِ، فَالصَّابِرُ هُوَ القَادِرُ عَلَى حَبْسِ النَّفْسِ عَمَّا يَضُرُّهَا، والحَيْلُولَةِ دُونَ مَا يُرْدِيهَا ويُهْلِكُهَا.

 

يُجَابِهُ المَرْءُ الفِتْنَةَ، فَتَعْرِضُ لَهُ المَرْأَةُ الجَمِيلَةُ، أَوِ النَّغْمَةُ المُطْرِبَةُ، أَوِ الصَّفْقَةُ المُحَرَّمَةُ، فَتُطَالِبُ النَّفْسُ بِحَظِّهَا، وتَرْغَبُ فِي إِشْبَاعِ شَهْوَتِهَا، فَلَا يَنْتَصِرُ حِينَئِذٍ إِلَّا الصَّابِرُ الَّذِي يَسْتَمِدُّ مِنْ مَخْزُونِ صَبْرِهِ اليَقِينَ، بِأَنَّ إِرْضَاءَ اللهِ أَوْلَى مِنْ إِرْضَاءِ النَّفْسِ، وأَنَّ نَعِيمَ الآخِرَةِ الآجِلَةِ خَيْرٌ وأَبْقَى مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا العَاجِلَةِ الفَانِيَةِ.

 

انْظُرْ إِلَى نَبِيِّ اللهِ يُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَيْفَ صَبَرَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، حِينَ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وجَمَالٍ، فهَيَّأَتِ الأَسْبَابَ، وغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ، وكَرَّرَتِ المُحَاوَلَاتِ، لَكِنَّ سُدُودَ الصَّبْرِ آتَتْ أُكْلَهَا، وأَدَّتْ مَفْعُولَهَا، فَعَصَمَهُ اللهُ مِنَ الوُقُوعِ فِي الفَاحِشَةِ؟! بِذَلِكَ اسْتَحَقَّ يُوسُفُ الإِمَامَةَ فِي الدِّينِ، وكَانَ القُدْوَةَ العُلْيَا لِلْمُؤْمِنِينَ، قَالَ -سُبْحَانَهُ-: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)[السجدة: 24].

 

تِلْكَ هِيَ أَحْوَالُ الصَّبْرِ الثَّلَاثَةُ: صَبْرٌ عَلَى أَقْدَارِ اللهِ، وصَبْرٌ عَلَى طَاعَةِ اللهِ، وصَبْرٌ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ. مَنْ جَمَعَهَا فَقَدْ عَظُمَ غِنَاهُ، وتَمَّ سَعْدُهُ، ونَالَ رِضَا رَبِّهِ.

 

لَقَدْ عَاشَ الصَّحَابَةُ أَحْوَالَ الغِنَى والفَقْرِ، والضَّعْفِ والتَّمْكِينِ، والقَهْرِ والغَلَبَةِ، فَخَرَجُوا بِهَذِهِ الخُلَاصَةِ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِقَوْلِهِ: "خَيْرُ عَيْشٍ أَدْرَكْنَاهُ بِالصَّبْرِ"، وصَدَقَ رَسُولُ اللهِ عَلَيْهِ وسَلَّمَ إِذْ قَالَ: "الصَّبْرُ ضِيَاءٌ"، ضِيَاءٌ يُبَدِّدُ ظُلُمَاتِ الشَّدَائِدِ والمُنْكَرَاتِ، ويُنِيرُ طَرِيقَ الطَّاعَاتِ والقُرُبَاتِ.

 

أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[آل عمران: 200].

 

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ وَالَاهُ.

 

أَمَّا بَعْدُ: مَرَاتِبُ الدُّنْيَا العَالِيَةِ، ومَنَاصِبُهَا الرَّفِيعَةُ، لَا تُنَالُ إِلَّا بِالصَّبْرِ، فَالطَّالِبُ النَّاجِحُ هُوَ الَّذِي يَصْبِرُ عَلَى الجَدِّ والاجْتِهَادِ، ويُقَاوِمُ الكَسَلَ والفُتُورَ، ويَحْبِسُهَا عَنْ كَثِيرٍ مِنَ اللَّعِبِ والتَّرْفِيهِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الدُّنْيَا، فَمَا بَالُكُمْ بِمَنَازِلِ الآخِرَةِ، ودَرَجَاتِ الجِنَانِ؟.

 

إِنَّ الصَّبْرَ هُوَ خُلَاصَةُ عَمَلِ المُؤْمِنِ، المُعَبِّرُ عَنْ عَامَّةِ سَعْيِهِ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ ولِذَا فَقَدْ تَكَرَّرَتِ الآيَاتُ القُرْآنِيَّةُ الَّتِي تُعَبِّرُ عَنْ هَذَا المَعْنَى، قَالَ -سُبْحَانَهُ-: (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا)[الإنسان: 12]، فَالصَّبْرُ هُوَ سَبَبُ دُخُولِهِمُ الجَنَّةَ، حِينَ صَبَرُوا عَلَى أَقْدَارِ اللهِ، وصَابَرُوا عَلَى طَاعَتِهِ، وحَسَبُوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ، فَكَانَتِ النَّتِيجَةُ كَمَا قَالَ اللهُ: (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ)[المؤمنون: 111]، وكَمَا سَتَقُولُ المَلَائِكَةُ؛ (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)[الرعد: 23 - 24]، هُنَاكَ يَتَجَلَّى عِظَمُ عَطَاءِ الصَّبْرِ، واتِّسَاعُ خَيْرِهِ، حِينَ يُغْرَفُ لَهُمُ النَّعِيمُ غَرْفًا، فَلَا حَدَّ ولَا عَدَّ، ولَا حِسَابَ ولَا مِقْدَارَ؛ (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[الزمر: 10].

 

اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا الصَّبْرَ واليَقِينَ، وتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ.

المرفقات

أوسع العطاء الصبر.doc

أوسع العطاء الصبر.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات