عناصر الخطبة
1/عِظَم نعمة المال 2/من وسائل تداول المال بين الناس 3/أهمية البيع والشراء والتجارة 4/ من صفات التاجر المبارك 5/التحذير من المكاسب المحرمة 6/التيسير في المعاملات.اقتباس
وما تُغني مكاسب كثيرة لكنها ليست بنقية، في حين أن القليل من أبوابه مع البركة يكفي.. واليوم تنوعت المكاسب المحرمة، وسهلت طرائقها، والمُوفَّق مَن تحرَّى في كسبه، فلم يُدخل عليه درهمًا من حرام ولا من شبهة، ليَرضى ربَّهُ، ولتُقبَل دعواتُه، ولِيُطْعِمَ ذُريتَه مِن حلال، وذاك أحرى أن يبارك له فيهم....
الخطبةُ الأولَى:
الحمد لله بيده مفاتيح الفرج، شرع الشرائع وأحكم الأحكام، وما جعل علينا في الدين من حرج. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قامت على وحدانيته البراهين والحجج.
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، هو المفدّى بالقلوب والمُهَج، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ساروا على أقوم طريق وأعدل منهج، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد: وهب الله الناس المال، وجعله عصبًا للحياة، لا يستطيع أحد أن يعيش بدونه، وجعل المال مباحًا للجميع، وليس حِكْرًا على أحد، كما قال -سبحانه- عن المال: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ)[الحشر: 7]، بل أمر بالزكاة يخرجها الغني وتُدْفَع إلى الفقير، وحثّ على الصدقات على المحاويج.
وإن من وسائل تداول المال بين الناس: العمل فيه بالتجارة بيعاً وشراءً، وذلكم عملٌ لا بد للمرء منه لتبقى له حياته، وتستقيم مصالحه، ونبينا -صلى الله عليه وسلم- باع واشترى، واقترض وقضى، ولا ينفك المرء في كل يوم من هذا الأمر، ولا تقوم الأمور إلا به.
بل جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الباب من أطيب المكاسب فقال وقد سئل: أَيُّ الْكَسْبِ أَطْيَبُ؟؛ فقَالَ: «عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَكُلُّ بَيْعٌ مَبْرُورٌ».
ولأجل أهمية هذا الباب قررت الشريعة للبيع والشراء أحكاماً، وعقد له الفقهاء الأبواب في بيان تفاصيله ومسائله.
وكل داخل في هذه الأبواب إنما يبغي فيها البركة والربح، وذاك يجعله يتحرى المسلك الرشيد المبارك
ألا وإن من أولى صفات التاجر المبارك: أنه لا تشغله تجارته عن الصلاة وعن طاعة ربه، فهو يعمل في تجارته، لكنه إذا دعا داعي ربه توقف كل شيء، ولجأ إلى بيت من بيده الأرزاق، ومن ترتجى منه البركة والكسب، وفي التنزيل أثنى الله على أقوامٍ فقال عنهم: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[النور: 37- 38].
ومن صفاته: أنه يتحرى الحلال في كسبه، فإذا ما عرضت له مكاسبُ فيها حرامٌ خالص، أو مشتبه لا يعرِفُ عن حِلّه، نأى بنفسه، وترك ذلك لأجل ربه، وإبقاءً لدينه وعِرْضه، وفي السُّنة أنه -صلى الله عليه وسلم- قال مبيناً ما ينال هؤلاء المتحرزين عن المكاسب المحرمة أو المشتبهة: "فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ".
وما تُغني مكاسب كثيرة لكنها ليست بنقية، في حين أن القليل من أبوابه مع البركة يكفي، وفي الحديث المروي بسندٍ فيه ضعف: "ما قل وكفى خير مما كثر وألهى".
واليوم تنوعت المكاسب المحرمة، وسهلت طرائقها، والمُوفَّق مَن تحرَّى في كسبه، فلم يُدخل عليه درهمًا من حرام ولا من شبهة، ليَرضى ربَّهُ، ولتُقبَل دعواتُه، ولِيُطْعِمَ ذُريتَه مِن حلال، وذاك أحرى أن يبارك له فيهم.
قال ابن قدامة: "وكان النساء في السلف إذا خرج الرجل من منزله يقول له أهله: إياك وكسب الحرام، فإنا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار".
يا كرام: والتاجر المُوفَّق هو مَن يتحلى بالبر والصدق في بيعه وتعامله، لا يُخفي عيب سلعة، ولا يغشّ في تعامله، ولا يُدلّس في بيعه، لأنه يبغي البركة، والبركة تنال بالصدق، وفي الحديث "فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا".
وفي السنن أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّاراً، إِلاَّ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ وَبَرَّ وَصَدَقَ".
ولما دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- مرة إلى السوق وجد مَن وضع طيب الطعام أعلى ومعيبه في الأسفل، قال له: "ما هذا يا صاحبَ الطّعام؟» قال: أصابته السّماءُ يا رسول الله. قال: «أفلا جعلتَهُ فوق الطّعام كي يراه النّاس؟ من غشّ فليس منّي".
وتوعد ربنا بأعظم وعيد من يطففون المكاييل فقال: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)[المطففين: 1- 6]؛ فماذا يقول الغشاش في تعامله حين يبعث في يوم عظيم ويقف بين يدي رب العالمين؟
والتاجر المبارك لا يجعل اللهَ بضاعته، فلا يحلف في مبايعاته، إلا إن اضطُر لذلك؛ لأن الحلف بالله عظيم، فلا يجعل إلا في الأمر العظيم، والإكثار من الحلف بالله في البيع لا يفعله الموفقون، وفي الصحيح أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إياكم وكثرة الحلف في البيع؛ فإنه يُنفِّق ثم يَمْحَقُ".
فأما إن كان حلفه بالله كاذباً فذاك ممن لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة، وفي الصحيح أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ: رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى وَهُوَ كَاذِبٌ، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ"(متفق عليه).
والتاجر الموفق -يا موفقون-: مَن تعامل مع الناس بالرفق والسماحة، لم يشدد ولم يُوعِ، سمح في بيعه، وفي شرائه، وفي قضائه واقتضائه، وهو بهذا قد وضع نُصْب عينه قول نبيه "رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى".
إن وجد معسراً أنظره، أو وضع عنه، وهو بهذا يبغي عطاء ربه، وفي الصحيح "مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ".
وفي الصحيح عند البخاري كذلك أنه قال: «كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ، لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ اللهُ عَنْهُ».
فهنيئاً لهؤلاء، أن كان بيعهم سبباً لوصولهم أعلى الدرجات، ونيل رضا رب البريات، اللهم اجعلنا منهم.
الخطبة الثانية:
أما بعد: التاجر المبارك واضح في تعامله، لا يضرّ بمنافسيه، ولا يتجسَّس عليهم لا يفرح لخسارتهم، أو تعثُّر أمورهم؛ لأنه يعلم أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
والتاجر الصدوق من يتحرى ما سنّه ولي الأمر من أنظمة رُوعِي فيها مصلحة عامة الناس، فلا يحتكر سلعة رجاء ارتفاع سعرها وقت الحاجة، ولا يرفع الأسعار على الناس بما يشق عليهم، ولا يتستر على مخالفٍ، وهو بهذا يريد ما عند ربه من بركة كسبه ونقاء ربحه.
والتاجر المسدد هو مَن يفعل السبب فإن ربح فرح وما بطر، وأدَّى حق ربه عليه من زكاة وصدقة، وإن لم يربح رضي لتدبير ربه، وقنع بما أعطاه، واستشعر أن ما صرفه الله عنه من الربح خيرٌ له، وأن ما يسّر له مع القناعة أبركُ له، وفي الصحيح: "قد أفلح مَن أسلم ورُزِقَ كفافاً، وقنَّعه الله بما أعطاه".
وقبل كل ذلك وبعده؛ فالتاجر الموفَّق هو من ينوي بكل عمله النية الحسنة في تجارته، أن ينوي طلب الرزق الحلال لنفسه ولمن هم تحت يده، وأن ينوي أن يخدم المسلمين بتيسير ما يحتاجونه، وأن يكون لديه مالٌ يتصدق به ليعظم أجره، وقد قال عبد الله بن المبارك: "لولا خمسةٌ لما تاجرت: الفضيلُ بن عياض، وسفيان الثَّوريّ، وابن عُيينة، وابن عُلَيَّة، ومحمَّد بن السمَّاك"، وكان يعطيهم من المال ما لا يحتاجون معه لأحد.
وكان ينفق على الفقراء من غيرهم في كلِّ سنةٍ مئةَ ألف درهم.
فما أحسن مثل هذه النوايا! وما أربح هذا المقاصد!
وصلوا وسلموا....
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم