الحج النظامي

الشيخ هلال الهاجري

2025-05-16 - 1446/11/18 2025-05-21 - 1446/11/23
التصنيفات: الحج والعمرة
عناصر الخطبة
1/الحج واجب على المستطيع 2/وجوب التعجيل بالحج 3/اهتمام المملكة بتيسير الحج 4/أضرار الحج العشوائي

اقتباس

فَهَل يُعقَلُ أَن نَفسِدَ هَذا التَرتيبَ العَظيمَ، بالحَجِّ العَشوائيِّ دُونَ تَصريحٍ أو تَنظيمٍ، ودونَ إشرافٍ من القَائمينَ عَلى الحَمَلاتِ؟! فَيُعَرِّضَ الحَاجُّ نَفسَهُ وَغيرَهُ لِلمُهلِكَاتِ، وَتَحدثُ الفَوضى في المواصلاتِ، والتَّدافعُ في الجَمَراتِ، ويُضايقُ الحُجَّاجَ...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الحمدُ للهِ الذي وفقَّ عبادَه الطَّائعينَ لأداءِ فريضةِ الحجِّ، ودعاهم فلبَّوا وأتوا من كلِّ بلدٍ وفجٍّ، امتثالاً لأمرِه -تعالى-: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ)[الحج: 27 - 28]، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، يُنعمُ على حُجَّاجِ بيتِه الحرامِ بالمغفرةِ والرِّضوانِ والإكرامِ، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا محمَّدًا عبدُه ورسولُه، وصفيِّه من خلقِه وخليلِه، خيرَ من حجَّ واعتمرَ وصلَّى وصامَ، بيَّنَ لنا المناسكَ والأحكامَ، فقالَ -عليه أفضلُ الصَّلاةِ وأكملُ السَّلامِ-: "خذوا عني مناسكَكم"، فيا ربِّ صلِّ على الهادي البشيرِ، وعلى آلِه الطَّاهرينَ وصحابتِه الغُرِّ الأعلامِ، ومن اقتدى واهتدى بهداهم على الدَّوامِ.

 

أما بعد: تأملوا معي هذه الآيةَ: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)[آل عمران: 97]، ففيهِ وجوبُ الحجِّ على المستطيعِ، وجاءَ في الحديثِ أنَّها مرَّةٌ في العُمرِ، ولكن اسمعْ معي لبقيةِ الخِطابِ فيمن تركَ الحجَّ مع الاستطاعةِ: (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)[آل عمران: 97]، لا إلهَ إلا اللهُ! فالأمرُ خطيرٌ جِدَّاً، حتى أنَّ عمرَ بنَ الخَطابِ -رضِيَ اللهُ عنهُ- قَالَ: "لقد هَممتُ أنْ أبعَثَ رِجالاً إلى هذهِ الأمصارِ، فيَنظُروا كلَّ مَن كانَ له جِدَةٌ -أي قُدرةٌ ماليةٌ وبدنيةٌ- ولم يحجَّ؛ ليَضرِبوا عليهم الجزيةَ، ما هم بمسلمينَ، ما هم بمسلمينَ".

 

فَمَا هو عذرُكَ يا من تستطيعُ الحجَّ وما حججتَ؟! ما هو عذرُكَ وقد أعطاكَ اللهُ صِحةً وغِنىً؟! ما هو عذركَ وقد أصبحتْ الطُّرقُ أكثرَ أَمناً، وَأصبحتْ المسافاتُ قصيرةً، وَأصبحتْ المناسكُ يسيرةً؟! عَن أبي هريرةَ -رَضيَ اللهُ عنه- قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَمَ- فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ قَد فَرَضَ عَلَيكُمُ الحَجَّ، فَحُجُّوا"، فماذا تنتظرُ يا مَن لم يحجَّ؟ قَالَ السَّريُّ السَّقَطيُّ: خرجتُ إلى الحجِّ فلقيتُ جاريةً حَبَشيةً، فقلتُ: إلى أينَ يا جاريةُ؟، فقالتْ: إلى مَكةَ، فقلتُ: إنَّ الطَّريقَ بَعيدٌ، فأَنشدتْ تَقولُ:

بعيدٌ على الكسلانِ أو ذُو مَلالةٍ *** وأمَّا على المُشتاقِ فهو قَريبُ

 

فَهَلْ ننتظرُ بتسويفِنا وتأجيلِنا للحجِّ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا، أَوْ غِنًى مُطْغِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا، أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا، أَوْ الدَّجَّالَ، فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوْ السَّاعَةَ، فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ، يقول -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ، وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ، وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ".

 

مَن مِنَّا يُريدُ فتحَ صفحةٍ جديدةٍ لِعُمرِه؟ نستدركُ فيها ما كانَ من خطايا، ونُعوِّضُ فيها ما كانَ من بلايا، ونُجدِّدُ الأعمالَ مع اللهِ -تعالى- والنَّوايا، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضِيَ اللهُ عنهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَمَ-: "مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ؛ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ"، اللهُ أكبرُ! أيامٌ معدوداتٌ، تمحو سنينَ عديداتٍ، فيصبحُ الواحدُ بعدَها كطفلٍ وَليدٍ، فماذا عسى أن تفعلَ بعُمرِكَ الجديدِ؟!.

 

مَن منكم قد اشتاقَ إلى الجِهادِ في سبيلِ اللهِ -تعالى-؟، هل تعلمونَ ما هو أفضلُ الجهادِ؟ عَنْ أُمِّ المُؤمِنينَ -عَائشةَ رَضِيَ اللهُ- عَنهَا قَالتْ: يا رسولَ اللهِ، نرى الجهادَ أفضلَ العملِ، أفلا نجاهِدُ؟ قال: "لا، لكنَّ أفضلَ الجهادِ حجٌّ مبرورٌ"؛ ولذلكَ كانَ أجرُ الحجِّ المبرورِ عظيماً، فقد قالَ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةَ"، فماذا ننتظرُ؟.

 

هل تشتكي من قلةِ البركةِ في الرِّزقِ؟ هل تعاني من الأزماتِ الماليةِ المُتكرِّرةِ؟ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضِيَ اللهُ عنهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ؛ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ، كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ"، سُبحانَ اللهِ! دواءٌ نافعٌ، لرزقٍ واسعٍ.

 

إليـكَ إلهـي قــد أتيـــتُ مُلَبّيَــا *** فبارِك إلهــي حجّتِـي ودُعائــيَا

أتيتُ بلا زادٍ وَجُودُك مَطْعَمِي *** وما خابَ من يهْفُو لجُودِك ساعيَا

إليكَ إلهِي قد حضرتُ مؤمِّلًا *** خلاصَ فؤادي مِن ذنوبي مُلَبّيَا

قصدتُك مضطرًا وجئتُكَ باكيَا *** وحاشاك ربي أن تَرُدَّ بُكَائيَــا

 

أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولجميعِ المسلمينَ من كلِّ ذَنبٍ، فاستغفروه إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ على نعمائه، والشُّكرُ له على فضلِه وآلائه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، عَبدَ ربَّه في سَرائه وضرائه، صلى اللهُ وسلمَ وباركَ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأتباعِه.

 

أما بعدُ: اليَومَ مَا نَراهُ من تَيسيرِ الحجِّ شَيءٌ عَجيبٌ، فَيبدَأُ مَسَارُ الحَجِّ في بَلَدِ الحَاجِّ، ويُنهي جَميعَ الإجراءاتِ بِسُهولةٍ وَسَلامٍ، ثُمَّ يُستَقبلُ في هَذهِ البِلادِ بِحَفاوةٍ وإكرامٍ، ويَتَنَقلُ في مَشاعِرِ الحَجِّ بأمنٍ وَأَمانٍ، عِبادةٌ واطمئنانٌ، وأجواءٌ مليئةٌ بالسَّعادةِ والإيمانِ، وصدقَ اللهُ: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ)[العنكبوت: 67].

 

وأما خِدمةُ الحُجَّاجِ فَشيءٌ أغربُ من الخيالِ، استنفارٌ للجميعِ، حكومةً وشعباً وعلى رأسِهم المَلكُ، أجهزةُ الأمنِ بجميعِ قطاعاتِها، والصِّحةُ وكلُّ أقسامِها، والدوائرُ الحكوميةُ وسائرُ خَدماتِها، فأمنُ الحُجاجِ خطٌ أحمرُ، وراحتُهم غايةٌ عظمى، إرشادٌ وعِنايةٌ، إطعامٌ وسِقايةٌ، معالمُ التَّوحيدِ ظاهرةٌ، ومظاهرُ الشِّركِ داحرةٌ، معروفٌ به يُؤمرُ، ومنكرٌ عنه يُنهى، اجتماعُ الملايينَ من بلادٍ مُختلفةٍ، وعاداتٍ مُختلفةٍ، في مكانٍ واحدٍ، وفي وقتٍ واحدٍ، وتفويجُهم بينَ المَناسكِ بانسيابيَّةٍ تامَّةٍ، وعنايةٍ هامَّةٍ، فحُقَّ لهذهِ البلدِ أن تفخرَ بشرفِ خدمةِ البيتِ، وشرفِ ضيافةِ الحاجِّ، حتى يَرجعَ إلى أهلِه غَانِماً، قد حازَ الأجرَ وأدَّى فريضةَ اللهِ -تعالى-.

 

فَهَل يُعقَلُ -أَيُّها الأحبَّةُ- أَن نَفسِدَ هَذا التَرتيبَ العَظيمَ، بالحَجِّ العَشوائيِّ دُونَ تَصريحٍ أو تَنظيمٍ، ودونَ إشرافٍ من القَائمينَ عَلى الحَمَلاتِ؟! فَيُعَرِّضَ الحَاجُّ نَفسَهُ وَغيرَهُ لِلمُهلِكَاتِ، وَتَحدثُ الفَوضى في المواصلاتِ، والتَّدافعُ في الجَمَراتِ، ويُضايقُ الحُجَّاجَ والأجهزةَ الحُكوميةَ، ويُخالفُ الأنظَمةَ والفَتوى الشَّرعيةَ، وَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ لِلْخَيْرِ لَمْ يُصِبْهُ!.   

 

اللهمَّ يَسِّرْ لمنْ أرادَ الحجَّ والعُمرةَ، اللهم اجعل حجَهم مبرورًا، وسعيَهم مشكورًا، وذنبَهم مغفورًا، اللهم رُدَّهم إلى أهليهم سَالمينَ، وبلباسِ التَّقوى مُتجملينَ، ولكل خيرٍ وفضلٍ غَانمينَ، وبالمغفرةِ فائزينَ، ومن النَّارِ مَعتوقينَ، ولرضوانِكَ حَائزينَ، اللهمَّ واجعلنا معهم من المرحومينَ المقبولينَ الفائزينَ، اللهمَّ لا تحرمنا فضلَك وجودَكَ وعطاءَك وكرمَك بسوءِ ما عندنا، اللهم اغفر ذنوبَنا، واستر عيوبَنا، وارحم ضعفَنا، واسلل سخيمةَ صدورِنا، اللهمَّ وفقْ ولاةَ أمرِ المسلمينَ للحكمِ بكتابِك والعملِ بسنةِ نبيِّك، ووفقْ ولاةَ أمرِنا خاصةً للخيرِ، اللهم خذْ بأيديهم لما فيه خيرُ البلادِ والعبادِ، واجزهم خيرَ الجزاءِ لِما يُقدمونَه للحجاجِ والمعتمرينَ والزائرينَ، ولما يبذلونَه في خِدمةِ الحرمينِ الشَّريفينِ يا ربَّ العالمينَ.

 

واذكروا اللهَ يذكركم، واشكروه على نعمِه يزدكم، ولذكرُ اللهِ أكبرُ، واللهُ يعلمُ ما تَصنعونَ.

المرفقات

الحج النظامي.doc

الحج النظامي.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات