عناصر الخطبة
1/الاعتبار بالحوادث والابتلاءات 2/خطورة الغفلة 3/الجزاء من جنس العمل 4/التقصير في طاعة الله 5/الاعتراف بالتقصير وإظهار الندم.اقتباس
إنكم لم تُخلقوا عبثًا ولن تُتركوا سدًى، وإن لكم معاداً ينزل الله فيه للفصل بين عباده، فقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحُرم جنة عرضها السماوات والأرض، فاتقوا الله عباد الله قبل نزول الموت، وانقضاء مواقيته، وإني لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما عندي، ولكن أستغفر الله وأتوب إليه...
الخطبةُ الأولَى:
الحمد لله مُوقِظ القلوب الغافلة، بالوعظ والتذكير، ومُوفِّق مَن شاء مِن عباده للاعتبار بما يُمضيه في خلقه من تصرُّف وتدبير، فسبحانه من إله عظيم، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، أحمده -تعالى- وأشكره، وأستغفره وأتوب إليه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذو العرش المجيد، الفعَّال لما يريد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها المسلمون: اتقوا الله -تعالى- حق تقواه، واعتبروا -رحمكم الله- بما يجري الله في خلقه، من حوادث وابتلاءات يميناً وشمالاً، فما أعظمها من زواجر وابتلاءات وعقوبات، يتنبه لها المسلم الفَطِن فيعتبر بها ويتعظ، وذلك بما يرى ويسمع من جور بعض السلاطين، وعماية قلوبهم، ومن تسليط الأعداء، ووقوع الزلازل والمحن، وحصول الجدب، وما ينتج عن ذلك من خوف وضيق صدر، وشدة مؤنة وغير ذلك مما يبتلي الله به عباده، فيُظهر عجزهم عنه وفقرهم إليه، قال -تعالى-: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[الروم: ٤١].
فالمؤمن حقاً يرتجف قلبه عند حصول النكبات، وترتعد فرائصه هيبةً من مولاه الحق، وذعراً بين يديه فيزداد بهذه الابتلاءات توبة إلى ربه، وخضوعاً بين يديه، واتجاهاً إليه، مُظهِراً حاجته إليه، وطالباً العون منه والثبات على الحق، وقائلاً: إنا لله وإنا إليه راجعون.
أما أعمى البصيرة فتراه يتمادى في كبره وعناده، وطغيانه وجهله، ولا يتأثر بالقوارع والزواجر، ولا بالعقوبات المتتالية عليه، وربما رآها -والعياذ بالله- دلائل على قوته وبطشه، وهو يتقلب فيها معذباً عذاباً عاجلاً ومخزياً له ولذويه، فهو غافل تمام الغفلة وربما نسب هذه الأمور إلى غيره، وكأنها لا تعنيه، ولا يقبل نصح ناصح في ذلك، ولا يسلك طريق رشد، بل يتخذ سبيل الغي منهجًا بكل محاذيره وعواقبه الوخيمة، غير مُبالٍ بكل ما يجري إزاء ذلك، فهو وعصابته المتغطرسة ممن قال الله -تعالى- فيهم: (سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ)[الأعراف: ١٤٦].
فهم الآن بسبب كفرهم وإلحادهم، وظلمهم وكبريائهم وحقدهم، لا يقبلون نُصْح ناصح ولو لحياتهم العاجلة، ولا إنذار مُنْذِر، ويتجرعون أشد العذاب العاجل، الذي معظمه من حطبهم الذي جمعوه، ومكرهم الذي قالوا، (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ)[فاطر: 43]، وما هي إلا سنة الله في الأولين والآخرين من أمثالهم، كل بحسب حاله وظروفه. ومن ذلك لما ظنوا أنهم أقوياء؛ أراهم الله مَن هو أقوى منهم، فصار يسومهم بسوء العذاب.
فاعتبروا يا أولى القلوب الحية، وخذوا من هذه الدروس القولية والفعلية، نباهة قوية، لإصلاح النفس وإلزامها بالسير على الحق والتمسك به، وأن لا نغتر بالباطل مهما زُوِّق ونُمِّق، بدعوى الحق والصلاحية، وأن نطمئن النفس بأن الحق منصور، وأن الله يدافع عن أصحابه بأمور كثيرة، منها أن يُسلّط على العدو من هو أقوى منه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ * أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)[الحج: ٣٨ – ٤١].
بارك الله لي ولكم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله مُوفِّق مَن شاء مِن عباده لعبادته وطاعته، ومعينه عليها، ورازقه الرغبة فيها والطمأنينة، أحمده -تعالى- وأشكره وأستغفره وأتوب إليه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فلا مستحق للعبادة سواه، ولا نعبد إلا إياه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخليله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد أيها المسلمون: اتقوا الله -تعالى- حق تقواه، اهتموا بطاعته وتذكروا عظمتها وقدرها وتفاوت الناس في ذلك، فما أقل من يهتم بطاعة الله ويعظمها، وما أكثر من يغفل عنها ويستخف بها وينفر عنها، ولنا في الأحداث الواقعة بين الأمم عبرة وعظة، فما أقل التائبين وما أكثر الغافلين، وما أعظمه من زجر لمن أراد الله هدايته، وما أوسعها من مهلة لمن أراد أن يستبصر في أمره.
وليس بعيب أن يتهم الإنسان نفسه بالتقصير في طاعة الله، فضلاً عن الاعتراف بالذنب الواقع، وقد كان من منهج السلف الاعتراف بالتقصير وإظهار الندم، وهم بررة أتقياء في مستوى الولاة؛ فعمر بن عبد العزيز -رحمه الله- في آخر خطبة خطبها يوصي رعيته بتقوى الله، ويبين لهم خسارة من خرج من رحمة الله وحرم الجنة، بسبب الذنوب، ويتهم نفسه بذلك ويتوب أمام رعيته وهو على المنبر.
قال -رحمه الله-: "إنكم لم تُخلقوا عبثًا ولن تُتركوا سدًى، وإن لكم معاداً ينزل الله فيه للفصل بين عباده، فقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحُرم جنة عرضها السماوات والأرض، فاتقوا الله عباد الله قبل نزول الموت، وانقضاء مواقيته، وإني لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما عندي، ولكن أستغفر الله وأتوب إليه"، ثم رفع رداءه وبكى حتى شهق، فما عاد إلى المنبر بعدها حتى مات -رحمه الله-.
هكذا -يا عباد الله- يتهم العارفون بالله أنفسهم بالتقصير في طاعة الله، وهم الصالحون الراشدون والبررة المتقون، فعلى نهجهم فليعمل العاملون، وفي طريقهم فليتنافس المتنافسون.
اللهم ارزقنا الإنابة إليك، والجد والاجتهاد في طاعتك، وهب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إمامًا، يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين.
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم