عناصر الخطبة
1/تقلب الأيام والليالي 2/الإنسان بين ضعفين 3/حياة الكهولة والمشيب 4/دلالات الشيب ورسائله 5/فضائل الشيب في الإسلام 6/رسائل ووصايا إلى كبار السن.اقتباس
ينما الإنسان يعيش شبابه في أوج قوته، وعنفوان فتوته، ويملأها بكل نشاط وحيوية، حتى إذا ما تعاقبت به السنون وما أسرع تعاقبها تغيرت أحواله، فابيض شعره، وتجعّد وجهه، واحدودب ظهره، وكلّت حواسه وتقاربت خطاه، وضعف هواه، ذَبل عزُّه، وضعفت ذاكرته، وتغيرت عافيته...
الخطبةُ الأولَى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه...
عباد الله: المرء في دنياه تقلبه الأيام والليالي، فبينما هو ابن يومٍ يخرج على الأرض لا يعلم شيئاً، وإذا بالأيام تترحل ليكبر عمره ويقرُب أجلُه، وتظلُ الأوقات تمضي حتى يمضي سِنُّ الشبابِ وتأتي سني الكهولة والشيب، ليقفَ المرءُ على مشارف الشيب فيعود الضعف الذي ابتدأ الدنيا به؛ (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ)[الروم: 54].
أجل، فالمرء في دنياه يعيش بين ضعفين؛ ضعفٍ في مبدأ طفولته، ووهنٍ عند نهايته وشيخوخته، ولئن أكثر الناس من الحديث عن الشباب وهمومه، فإن حديث اليوم هو عن الشيب والمشيب، حلوه ومره وآلامه وآماله.
عباد الله: حياة الكهولة والمشيب محطة لا بد منها لمن أمده الله في عمره وأنسأ له في أثره، وهي مرحلة تحمل في طياتها تغيراً كثيراً في الخلقة والطبائع.
تأمل -يا مبارك- عظيم قدرة الله وصنعه في عبده، فبينما الإنسان يعيش شبابه في أوج قوته، وعنفوان فتوته، ويملأها بكل نشاط وحيوية، حتى إذا ما تعاقبت به السنون وما أسرع تعاقبها تغيرت أحواله، فابيض شعره، وتجعّد وجهه، واحدودب ظهره، وكلّت حواسه وتقاربت خطاه، وضعف هواه، ذَبل عزُّه، وضعفت ذاكرته، وتغيرت عافيته.
إذا أصفرَّ لون المرء وابيضَّ شعره *** تنغص من أيامه مستطابها
وعزة عمر المرء قبل مشيبه *** وقد فنيت نفس تولى شبابها
الشيب -عباد الله- ناقوس الضعف، ونذير الرحيل، هو المرارة بعد الحلاوة، والعجز بعد القوة، وهو العِلَّةٌ التي لا تبرأ، والضيف الذي لا يرحل.
هذه نهاية عمر الإنسان، ومنتهى حياته، وصدق الله -تعالى-: (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ)[يس: 68].
وأهلُ القلوبِ الحية يعتبرون هذا الشيب نذارةً من ربهم ليستعدوا بالعمل قبل حلول الأجل، فليس بعد هذا المشيب بضعفه ووهنه إلا رذائل الأعمار، والانتقال من هذه الدار.
إذا الرجال ولدت أولادها *** وضعفت من كبرٍ أجسادها
وجعلت أسقامها تعتادها *** تلك زروعٌ قد دنا حصادها
وإذا شاب المرء فقد أعذره ربه بتعميره، وإمداده في فسحة حياته، وقد عُذِّب أقوام امتدت حياتهم لكنهم لم ينتفعوا بأعمارهم، وفي التنزيل يقول المولى لهم: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ)[فاطر: 37]؛ فسَّر ابن عباس وغيره النذير بالشيب.
عباد الله: المؤمن في حياته كلها في خيرٍ وعلى خير، فهذا المشيب وإن جاء بالضعف والعجز إلا أنه يحمل أبواباً عظيمة من الأجر، لمن تحلَّى بالطاعة، وتجمل بالصبر.
قال -صلى الله عليه وسلم-: "عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء فكان خيراً له"(رواه مسلم).
لأهل الشيب في الإسلام من الفضائل ما تهفوا له القلوب.
فالله يبدلهم بهذا الشيب نوراً، وفي الحديث بسند حسن قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة".
وطاب فضلُ الله وكرمه على أهل الشيب من المؤمنين بأن كافأهم بالحسنات، وحط الخطيئات، ورفعة الدرجات، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تنتفوا الشيب؛ فإنه نور يوم القيامة، ومن شاب شيبة في الإسلام كتب له بها حسنة، وحط عنه به خطيئة، ورفع له بها درجة"(رواه ابن حبان).
طوبى لمن شاب رأسه وابيض شعره وهو ثابت على طاعة ربه، ملازم لمرضاته، سُئل النبي -صلى الله عليه وسلم- أي الناس خير؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: "من أطال عمره وحسن عمله"، قيل: فأيّ الناس شر؟ قال: "من طال عمره وساء عمله". قال الحسن البصري: "أفضل الناس ثواباً يوم القيامة المؤمن المعمر".
هنيئاً لأهل المشيب إكرامَ الله لهم، يوم أن قرن إجلاله بإجلالهم، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن من إجلال الله -تعالى-: إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط"(رواه أبو داود وهو حديث حسن).
تذكّر يا من علاك الشيب أن الفسحة في العمر نعمةٌ منَّ الله بها، فاستثمر هذه النعمة فيما يرضي ربك، ويُعلي منزلتك، واستدرك ما فات، بالاستعداد لما هو آتٍ.
وقد دَخَلَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ مَسْجِدَ دِمَشْقَ، فَرَأَى شَيْخًا كَبِيرًا، فَقَالَ لَهُ: يَا شَيْخُ! أَيَسُرُّكَ أَنْ تَمُوتَ؟ قَالَ: لَا وَاللهِ، قَالَ: وَلِمَ؟ وَقَدْ بَلَغْتُ فِي السِّنِّ مَا أَرَى! قَالَ: ذَهَبَ الشَّبَابُ وَشَرُّهُ، وَجَاءَ الْكِبَرُ وَخَيْرُهُ، فَإِذَا قَعَدْتُ ذَكَرْتُ اللهَ، وَإِذَا قُمْتُ حَمِدْتُ اللهَ، فَأُحِبُّ أَنْ تَدُومَ لِي هَاتَانِ الْحَالَتَانِ.
يا من شاب شعره: لتكن شعرات شيبك تؤزُك للإنابة إلى ربك أزاً، وحفظ وقتك كي لا يضيع فيما لا ينفع.
فليس فيما بقي من العمر أطولُ مما فات، فبادِرْ بالتوبة والعمل بقيةَ أيامك قبل أن تبادرك المنون، واجعل مسك ختام العمر طاعةً وتقوى، سل الله حسن الخاتمة، فإنما الأعمال بالخواتيم ومن عاش على شيء مات عليه.
إخوة الإيمان: ويبقى الشيب وإن أَنِفَهُ البعض عنوانَ الوقار، وتاج الهيبة، ورمز الإجلال والرزانة، فجدير بمن لبس ثوب الوقار أن يتوقَّر، وحري بمن ابيض عارضاه أن يبيض صحيفته، والمصيبة والرزية أن يجمع العبد بين بياض الشعر وسواد الصحيفة.
عارٌ على من علاه الشيب أن يكون همه ويومه في شهوته وهواه، ولهوه وغفلته، يحمل مراهقة الشباب، وطيش المراهقين، لا يعرف للشيب وقاراً، ولا للكبر سمتاً.
ولئن كان العصيان من الشاب مذموم فهو في حق الكبير أشدّ ذماً، وقد ذكر -صلى الله عليه وسلم- أن من الذين لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم الشيخ الزاني؛ لأن داعي العصيان في نفسه أضعف.
ويقبح بالفتى فعل التصابي *** وأقبح منه شيخ قد تفتَّا
يا من هجم عليهم الشيب: من لم يعظه الشيب ولم يرعوِ مع مرّ السنين ولم ينزجر وهو يرى أقرانه قد رحلوا، ولم يتعظ وهو يرى المنايا تهجم، فما لدائه من دواء.
ألا أيَّها اللاهي وقد شاب رأسُهُ *** أَلَمَّا يَزعْكَ الشَّيْبُ وَالشَّيْبُ وَازِعُ
أَتَصْبُوا وَقَدْ نَاهَزْتَ خَمْسينَ حِجَّةً *** كَأَنَّكَ غِرٌ أو كَأَنَّكَ يَافِعُ
ولقد قال الحسن مرةً: "يا معشر الشيوخ ما يُنتظر بالزرع إذا بلغ؟ قالوا: الحصاد، ثم أيقظ الشباب بقوله: يا معشر الشباب.. إن الزرع قد تبلغه العاهة قبل أن يبلغ".
ويا من يرى المشيب ولمَّا يعلوه، يا أيها الشاب اعتبر بغيرك، وادَّكر بما ترى، واعلم -زادك الله صحة وقوة- أن مَيْعة الصبا، ويَنْع الفتوة ظل زائل، وبستان ذابل، وربيع لكنه إلى خريف.
تذكر -أيها الشاب- أن زمن المشيب قريب، وأن شيوخ اليوم كانوا شباب الأمس، فالعمر يمضي، والسنون تنقضي، فما بين ليلة وأختها إلا وأنت على أعتاب الشيخوخة، فاملأ رصيد حياتك -رعاك الله- بالأعمال الصالحات، واستعن بقوة الشباب على استجلاب الحسنات، وقد التفت الإمام أحمد فرأى الشيب في لحيته، فقال: "والله ما مثّلتُ الشباب إلا بشيء كان في يدي، ثم سقط من يدي".
وأيام الحداثة فاغتنمها *** ألا إنَّ الحداثة لا تدوم
لاَ تَغْتَرِرْ بِشَبَابٍ نَاعِمٍ خَضِلٍ *** فَكَمْ تَقَدَّمَ قَبْلَ الشَّيْبِ شُبَّانُ
إنها حقيقة، فلا تغمض عينك عنها، ولا تخدعنَّك نفسك الأمارة، فتمدُّ لك من الأماني مداً.
تذكر أنك تعيش حالة غبطة وغبن، فكم من أعين شابت حواجبها، وبكت على قوتها التي ذبلت، ونشاطها الذي كلَّ وفَتَر.
بكيت على الشباب بدمع عيني *** فما يغني البكاء ولا النحيب
فيا أسفاً أسفتُ على شباب *** نعاهُ الشيبُ والرأس الخضيب
فيا ليت الشباب يعود يوماً *** فأخبره بما فعلَ المشيب
أقول ما سمعتم، وأستغفر ربي من كل إثم وخطيئة فاستغفروه إن ربي غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
وإذا كان للشباب ثوب القوة والفتوة، فإن للشيوخ رداء الرأي والحكمة، وإذا كان للشباب عزم وإقدام، فإن للشيوخ تجارب وأحكام، ولا يزال الناس بخير ما ارتبط أصاغرهم بأكابرهم، فاستناروا بآرائهم، واستضاءوا بتوجيهاتهم.
فهؤلاء الكبار عرفوا الأيام، وعاشوا تقلبات الزمان، وحنكتهم التجارب، وصقلتهم الحياة فحصلوا من معتركها رصيداً من الحكمة، وذخراً من الواقعية، فكم يجدر بالشباب أن يأخذوا من الكبار دروسَ الحياة فهم مَن خَبرها.
إذا طال عمر المرء في غير آفة *** أفادت له الأيام في كَرّها عقلاً
وقد قيل: من طال عمره نقصت قوة بدنه، وزادت قوة عقله.
وبعدُ أيها الكبار: أنتم كبار في قلوبنا، وكبار في عيوننا، كبار بعظيم حسناتكم وفضلكم -بعد الله- علينا، أنتم الذين عَلّمتم وربيتم وبنيتم وقدمتم وضحيتم، ولئن نسي البعض فضلكم فإن الله لا ينسى، ولئن جحد البعض معروفكم فإن المعروف لا يَبْلى، ولئن طال العهد على ما قدمتموه من خيرات وتضحيات فإن الخير يدوم ويبقى، ثم إلى ربك المنتهى، وعنده الجزاء الأوفى.
أنتم زينة المجالس قدمتم للبلد ولأهلكم وأولادكم الكثير، واليوم حان وقت تكريمكم، وأنتم أهل لذلك، وأعظمُ تكريمٍ لكم بعد التوقير والتقدير أن ندعو الله لكم أن يبارك في حياتكم، ويُسعِدكم في أيامكم ويُدخِلَكم الجنة ويرضى عنكم.
وما أحسنَ الأُسرة تعرف لكبارها قدرهم، حين تُجِلّهم في المجالس وتتأدبُ معهم، وتُذكِّرُهم بمآثرهم، وفي الحديث: "ليس منا من لم يرحم صيرنا ويوقر كبيرنا".
تلكم -عباد الله- بعض المعالم عن المشيب وأهله، وشيء من عِبره، وعظاته.
أسأل الله -تعالى- أن يبارك لنا في كبارنا، وأن يثبتهم على الإيمان ويزيدهم إحساناً وتقًى، ويلبسهم لباس الصحة والعافية.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم