القول الصريح بحكم الحج بلا تصريح

الشيخ عبدالله بن علي الطريف

2025-05-16 - 1446/11/18 2025-05-22 - 1446/11/24
عناصر الخطبة
1/من تقوى الله تعظيم شعائره 2/معنى شعائر الله وكيفية تعظيمها 3/اهتمام المملكة بالحج وتنظيمه 4/من أضرار الحج بلا تصريح 5/وجوب طاعة ولي الأمر فيما يقرره لتنظيم الحج

اقتباس

والتزام مريدي الحج بأخذ التصريح يحقق مصالح جمة، منها: جودة الخدمات المقدمة للحجاج، في أمنهم وسلامتهم وسكنهم وإعاشتهم، ويدفع مفاسد عظيمة كالافتراش في الطرقات الذي يعيق تنقلات الحجيج وتفويجهم، ويقلل مخاطرَ الازدحام والتدافع المؤدية إلى التهلكة...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

‏الحمدُ لله الذي جعلَ الحجَ إلى بيتِه الحرام أحدَ أركانِ الإسلام، ومبانِيه العظام، وخففَ عن عباده فأوجبَهُ على المستطيعين، وعفا بفضلِه وكرمِهِ عن العاجزين، وأشهدُ أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُهُ إمامُ المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:

 

أيها الإخوة: لما أمرَ اللهُ -تعالى- أبانا إبراهيمَ -عليه الصلاة والسلام- ببناءِ البيتِ وتطهيرِهِ للمتعبدين فيه، ثم أمره أنْ يؤذن بالحج، وجعل اللهُ ذلك من تعظيمِ حرمات الله وشعائره، وعلامةً على تقواه فقال: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)[الحج: 32]، و"شَعَائِرَ اللَّهِ" أعلام دينه الظاهرة، التي تعبد الله بها عباده، وأضاف -تعالى- التقوى إلى القلوب؛ لأن القلب محلها، كما جاء عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "التَّقْوَى هَاهُنَا"، وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.(رواه مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-)، وإذا خشع القلب واتقى خشعت سائر الجوارح.

 

ويقول -سبحانه-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ)[المائدة: 2]، قال بعض المفسرين: "شعائرُ اللهِ أوامرُه وفرائضُه"، ومعنى ذلك: أنَّ كلَ ما جاء في كتاب الله وسنة رسولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-، وما تعبدنا الله -تعالى- به من شعائره، فيدخل في ذلك الشعائر الظاهرة والباطنة، ويدخل في ذلك الشعائر العملية والشعائر الاعتقادية، والأركان والواجبات والمستحبات، والمسلمُ مأمورٌ بأنْ يُعظمَها وألا يحلَها، وتعظيمُها بأنْ يمتثلَ أوامرَ اللهِ ويجتنبَ نواهيَهُ، وهكذا يكون التعظيم على هذا المعنى، وقوله: (لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ) أي: لا تحلوا مُحَرَّمَ شَعَائِرِ اللهِ.

 

أيها الإخوة: والحج كما هو عند أهل السنة يكون لبيتِ اللهِ الحرامِ والمشاعرِ المقدسة، وقد وفقَ اللهُ حكومَةَ هذه البلاد لرعاية الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة وخدمتها، وقدمت الغالي والنفيس في توسعة المسجد الحرام والمسجد النبوي، وأوجدت المرافق والطرق وغيرها؛ لتستوعب الأعدادَ المتزايدة من الحجاج والمعتمرين من شتى أنحاءِ العالم، ومهما بلغتْ التوسعات فلن تكفي، فوُضِعَتْ تنظيمات لإدارة الحشود الضخمة من البشر من قاصدي بيت الله الحرام والمشاعر، منها تحدِيدُ نسبِ أعداد الحجاج القادمين من جميع الدول بالاتفاق معها.

 

وحُدِدَ حجاجُ الداخلِ من المواطنين والمقيمين، وأُلْزِمَ مريدُ الحجِ باستخراج تصريح لضبطِ العدد، وإعطاء الفرصة لمؤدي الفريضة، وأصدرت هيئةُ كبارِ العلماءِ -وفقهم الله- فتوى بوجوب الالتزام بأخذ تصريح لمن أراد الحج، وذكروا في فتواهم أن التزام قاصدي المشاعر المقدسة بذلك يتفق والمصلحة المطلوبة شرعاً، والشريعة جاءت بتحسينِ المصالحِ وتكثيرِها، ودرءِ المفاسدِ وتقليلِها، والتصريح يساعدُ الجهات المنظمة على تنظيم حركة الحجاج وتنقلاتهم؛ حتى يؤدوا مناسكهم بكل يسر وسكينة وسلامة وأمان، ‏منذ وصولهم إلى الحرمين الشريفين حتى مغادرتهم.

 

والتزام مريدي الحج بأخذ التصريح يحقق مصالح جمة، منها: جودة الخدمات المقدمة للحجاج، في أمنهم وسلامتهم وسكنهم وإعاشتهم، ويدفع مفاسد عظيمة كالافتراش في الطرقات الذي يعيق تنقلات الحجيج وتفويجهم، ويقلل مخاطرَ الازدحام والتدافع المؤدية إلى التهلكة.

 

أيها الإخوة: والحج بلا تصريح لا يقتصر ضرره على الحاج نفسه، وإنما يتعداه إلى غيره من الحجاج الذين التزموا بالنظام، ومن المقرر شرعًا أنَّ الضررَ المتعدي أعظمُ إثمًا من الضررِ القاصر، وفي الحديث المتفق عليه عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: "الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ"(رواه مسلم عن جَابِر والبخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-)، ونصت الفتوى على: "أنه لا يجوزُ الذهابُ إلى الحج دون أخذِ تصريح، ويأثمُ فاعله لما فيه من مخالفة أمر ولي الأمر، الذي ما صَدَرَ إلا تحقيقًا للمصلحة العامة"، وذكرت الفتوى أنه "وإن كان الحجُ حجَ فريضة ولم يتمكن المكلفُ من استخراج تصريح الحج؛ فإنه في حكم عدمِ المستطيع، قال الله -تعالى-: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)[التغابن: 16] وقال -سبحانه-: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)[آل عمران: 97].

 

ومن أعظم الذنوب التي تهاون بها بعضُ الناس دخولُ مكة للحجِ بملابسه المعتادة، حتى لا يَعْلَمَ المفتشون أنه مُحْرِم، وهو قد أهل بالحج أو العمرة سرًا، فإذا دخلَ مكة وأمن من التفتيش لبس ملابس الإحرام، ومن فعل هذا أثم لعدم طاعة ولي الأمر بمنع غير المصرحين، وبفعل محظور من محظورات الإحرام، وبعدم تعظيمِ شعائر الله وحرماته، ولو اتقى الله -تعالى- ولم يذهب للحج -مع حرصه عليه- لعدم وجود تصريح؛ لحاز على أجرين: أجرَ طاعةِ ولي الأمر، وأجرَ الهم بالحسنة، قال رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً"(رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-)، وسقطَ عنه وجوبُ الحج لعدم استطاعته.

 

اللهم اهدنا سبل الرشاد، وارزقنا الطاعة وجنبنا العناد، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، أَعْطَى فَأَجْزَلْ، وَمَنَحَ فَتَفَضَّل، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُم بِإِحْسَانٍ، وسَلَّمَ تَسْلِيماً كثيراً، أما بعد:

 

أيها الإخوة: اتقوا الله -تعالى- حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن الالتزام باستخراج التصريح للحج هو من طاعة ولي الأمر بالمعروف، الواجبة بقوله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)[النساء: 59]، قال الشيخ السعدي: "أمرَ اللهُ -تعالى- بطاعتِهِ وطاعةِ رسولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وذلك بامتثالِ أمرِهما، الواجبِ والمستحبِ، واجتنابِ نهيهما، وأمرَ بطاعةِ أوليِ الأمرِ وهم الولاةُ على الناسِ، منْ الأمراءِ والحكامِ والمفتين؛ فإنَّهُ لا يستقيمُ للناسِ أمرُ دينهم ودنياهم إلا بطاعتِهم والانقيادِ لهم، طاعةً للهِ ورغبةً فيما عنده، ولكن بشرطِ ألا يأمروا بمعصيةِ اللهِ، فإنْ أمروا بذلك فلا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالقِ".

 

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "يَجِبُ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ وِلَايَةَ أَمْرِ النَّاسِ مِنْ أَعْظَمِ وَاجِبَاتِ الدِّينِ؛ بَلْ لَا قِيَامَ لِلدِّينِ وَلَا لِلدُّنْيَا إلَّا بِهَا، فَإِنَّ بَنِي آدَمَ لَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهُمْ إلَّا بِالِاجْتِمَاعِ لِحَاجَةِ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ، وَلَا بُدَّ لَهُمْ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ مِنْ رَأْسٍ، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: "إذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-)، وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- وقَالَ: "لَا يَحِلُّ لِثَلَاثَةٍ يَكُونُونَ بِفَلَاةِ مِنْ الْأَرْضِ إلَّا أَمَّرُوا عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ"، فَأَوْجَبَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- تَأْمِيرَ الْوَاحِدِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْقَلِيلِ الْعَارِضِ فِي السَّفَرِ؛ تَنْبِيهًا بِذَلِكَ عَلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ الِاجْتِمَاعِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ -تعالى- أَوْجَبَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِقُوَّةِ وَإِمَارَةٍ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا أَوْجَبَهُ مِنْ الْجِهَادِ وَالْعَدْلِ وَإِقَامَةِ الْحَجِّ وَالْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقُوَّةِ وَالْإِمَارَةِ؛ وَلِهَذَا رُوِيَ: "أَنَّ السُّلْطَانَ ظِلُّ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ"، وَيُقَالُ "سِتُّونَ سَنَةً مِنْ إمَامٍ جَائِرٍ أَصْلَحُ مِنْ لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ بِلَا سُلْطَانٍ"، وَالتَّجْرِبَةُ تُبَيِّنُ ذَلِكَ، فَالْوَاجِبُ اتِّخَاذُ الْأَمَارَةِ دِينًا وَقُرْبَةً يَتَقَرَّبُ بِهَا إلَى اللَّهِ؛ فَإِنَّ التَّقَرُّبَ إلَيْهِ فِيهَا بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ مِنْ أَفْضَلِ الْقُرُبَاتِ". أهـ مجموع الفتاوى.

 

 

وَقَالَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: "عَلَيْكَ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ فِي عُسْرِكَ وَيُسْرِكَ، وَمَنْشَطِكَ وَمَكْرَهِكَ، وَأَثَرَةٍ عَلَيْكَ"، وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ يَعْصِنِي فَقَدْ عَصَى اللهَ، وَمَنْ يُطِعِ الْأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ يَعْصِ الْأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي"(رواهما مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-).

 

والنصوص في ذلك كثيرة، كلُها تؤكد وجوب طاعة ولي الأمر في المعروف وحُرمة مخالفة أمره، والالتزام باستخراج التصريح من الطاعة بالمعروف، يثاب من التزم به ويأثم من خالفه، ويستحق العقوبة المقررة من ولي الأمر.

 

أسأل الله -تعالى- أن ينير بصائرنا، ويجنبنا الحرام، إنه سميع مجيب.

المرفقات

القول الصريح بحكم الحج بلا تصريح.doc

القول الصريح بحكم الحج بلا تصريح.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات