عناصر الخطبة
1/الاعتبار بتغيرات الزمان 2/تأملات في الظواهر الجوية 3/تأملات في قصة قوم عاد 4/عاقبة الأمن من مكر الله 5/الحث على التوبة والاستغفار.اقتباس
واعتبروا -يا عباد الله- بأقوامٍ قصهم الله -جَلَّ وَعَلا- عليكم في القرآن، كيف كان موقفهم من هذه النعم، وكيف كان موقفهم مِن نِقَم الله -جَلَّ وَعَلا-، ومجمل أحوالهم أنهم أمنوا مكر الله، نعم أمنوا مكر الله؛ فاستبعدوا أن يأتيهم عذابه، أو يأتيهم مقته....
الخطبةُ الأولَى:
إنَّ الحَمْدَ للهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيه، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه، ومن سلف من إخوانه من المرسلين، وسار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: عباد الله: فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
إن في تغيرات الزمان عبرة لا يعتبر بها إلا المؤمن؛ كما قال -جَلَّ وَعَلا-: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)[الذاريات: 55]، وقال -جَلَّ وَعَلا-: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)[القمر: 17].
المؤمن -يا عباد الله- يعتبر من دنياه إلى آخرته، ومن سعيه إلى خاتمته، فينظر في تقلبات الأحوال، وفي تغيرات الظروف، فينظر في ذلك حتى يؤديه ذلك إلى أن يتقي الله ويعمل لآخرته.
هبَّت على الناس هبائب الغبار والأعاصير والعواصف، حتى صارت حديثهم، وكان جُلّهم ينظر إليها بنظر قريبٍ محدود، ثم إن الله -جَلَّ وَعَلا- أبدل هؤلاء بهذا الغبار والتراب الذي يمشي، أبدلهم بهذه الأمطار التي غسل بها بلادهم، وغسل بها أراضيهم، وتنزلت عليهم بها رحماته.
واعتبروا -يا عباد الله- بأقوامٍ قصهم الله -جَلَّ وَعَلا- عليكم في القرآن، كيف كان موقفهم من هذه النعم، وكيف كان موقفهم مِن نِقَم الله -جَلَّ وَعَلا-، ومجمل أحوالهم أنهم أمنوا مكر الله، نعم أمنوا مكر الله؛ فاستبعدوا أن يأتيهم عذابه، أو يأتيهم مقته، لما كانوا في أنفسهم من الغرور ومن العُجب والتعالي.
إن هذه التغيرات في أجوائنا -يا عباد الله- يجب أن نرجع فيها بالملامة إلى أنفسنا، إلى ذنوبنا، وإسرافنا، وتفريطنا في فرائض الله، فإنه ما نزل بلاءٌ من السماء إلا بذنب وما رُفع إلا بتوبة.
واعتبروا –يا رعاكم الله- ما حصل لقوم عاد مما قصه الله -جَلَّ وَعَلا- علينا غير مرة، في كلامه القرآن؛ (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ)[الزمر: 23] أي: يثنّي به الله -جَلَّ وَعَلا- به الخبر، ويثنِّي به الحكم مرةً بعد أخرى.
ومجمل ما حصل لهم أنهم عاندوا الله -جَلَّ وَعَلا-، وكذَّبوا رسوله هودًا -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلام-، واستمروا على شركهم، وإنه أبطأ عليهم المطر إبطاءً عظيمًا، حتى أمحلت أراضيهم وأقحطت زروعهم، فأرسلوا ندباءهم إلى الحرم يستغيثون الله -جَلَّ وَعَلا- فيه.
فلما قدموا الحرم، شغلهم أهل الحرم بشرب الخمور والاستماع إلى القينات، وهن المغنيات والراقصات، حتى نسوا ما كان أرسلهم إليه به قومهم، ثم إنهم فطنوا لذلك فلجأوا إلى الله -جَلَّ وَعَلا-، ورجعوا يظنون أن الله -جَلَّ وَعَلا- سيُنجّيهم من حالهم، مع كفرهم وعنادهم وتكذيبهم رسله -عَلَيهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وربي -جَلَّ وَعَلا- في هذا كله يمهلهم ولا يعاجلهم بالعقوبة، يُمهل عباده لعلهم أن يتوبوا إليه، وينيبوا إليه، ويتخلصوا مما هم فيه من الإسراف والغفلات، حتى يرجعوا إلى الله -جَلَّ وَعَلا-.
كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون"، وقال -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلام-: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وأتى بقومٍ يذنبون ثم يستغفرون فيغفر الله -عَزَّ وَجَلَّ- لهم".
رأى قوم عاد السحاب مُقْبِل عليهم من جهة الجنوب الغربي، فقالوا: (هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا)[الأحقاف: 24]، نعم ما زالوا في إمهال، وما زالوا في أمنٍ قبيحٍ من مكر الله -جَلَّ وَعَلا-، رأوا السحاب مقبلاً؛ فقالوا: هذا المطر ولم ينظروا إلى ذنوبهم، ولا إلى كفرهم وعنادهم، وإلى تعاليهم أن يصيبهم العذاب؛ (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ)[الأحقاف: 24- 25].
دمرتهم هذه الريح، وخلعت أرواحهم من جنوبهم، حتى إنه لم يبقَ في أراضيهم إلا دورهم وبيوتهم لما كذبوا الله -جَلَّ وَعَلا- وأشركوا به، وعاندوا رسولهم هودًا -عليه وعلى نبينا أفضل صلاةٍ وأزكى سلام-.
قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "نُصرت بالصَّبا"، وهي الريح الشرقية، كما نصره الله -جَلَّ وَعَلا- بها يوم الأحزاب، "وأُهلكت عادٌ بالدبور"؛ وهي: الريح الغربية الجنوبية التي ساق الله -عَزَّ وَجَلَّ- عليهم فيها العذاب، وجعل فيها الريح الصرصر العاتية. نعوذ بالله من غضبه، ونعوذ بالله من عذابه، ونعوذ بالله أن يحيط بنا مكره.
نفعني الله وَإِيَّاكُمْ بالقرآن العظيم، وما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحمد لله الذي أعاد علينا الخيرات تترى، فلا ينقطع شيءٌ إلا ويعقبه آخر مرةً بعد أخرى، والحمد لله الذي نوَّع على عباده البلاء بالسراء مرةً وبالضراء أخرى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله شهادةً نرجو بها النجاة في الدار الأولى وفي الأخرى، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد عباد الله: فاتقوا الله -جَلَّ وَعَلا-، وعَظِّموا أوامره، واعتبروا بحالكم إلى مستقبلكم، وتذكروا، فإن الذكرى تنفع المؤمن، فمن مرَّت عليه المِحَن والبلايا، ومرت عليه هذه التغيرات ثم لم يتذكر ولم يعتبر فليرجع بالملامة على نفسه، وليرجع باللائمة على قلبه؛ فإن قلبه إما أنه ميّت أو أنه مريضٌ لم يحس فيه مع الحياة، والله -جَلَّ وَعَلا- قصر الاعتبار بالتذكر بالمؤمنين، فهل أنتم منهم –يا رعاكم الله-؟ نرجو أن نكون وإياكم كذلك.
ثم ارجعوا على أنفسكم بالملامة، فإنه ما نزل من السماء بلاءٌ إلا بذنب، إلا بذنوب العباد، والله -جَلَّ وَعَلا- من سنته الكونية ومن سنته الشرعية أنه يُمهل ولا يهمل -سبحانه وتعالى-، وهذا مقتضى اسمٍ من أسمائه الحسنى؛ وهو اسم الله الحليم -جَلَّ وَعَلا-؛ فإنه لا يعاجل عبيده بالعقوبات، لعلهم أن يؤوبوا، ولعلهم إليه أن يتوبوا، ولعلهم عن ذنوبهم وعن تقصيرهم أن يرجعوا.
فنسأل الله -جَلَّ وَعَلا- أن يمن علينا وعليكم بتوبةٍ نصوح يمحو الله -جَلَّ وَعَلا- بها ذنوبنا، ويكفر بها سيئاتنا، ويبطئ عنا بها البلاء في أنفسنا وبلادنا وعقيدتنا وأمننا وولاة أمورنا.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي العَالَمِينَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ وارضَ عن الأربعة الخلفاء، وعن المهاجرين والأنصار، وعن التابع لهم بإحسانٍ إِلَى يَومِ الدِّينِ، وعنَّا معهم بمنِّك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم ارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء، اللهم ارحمنا برحمتك الواسعة، ولا تعذبنا بذنوبنا، فإنك أحلم علينا من أمهاتنا يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إن رحمتك أرجى عندنا من أعمالنا، اللهم فأنت أهل التقوى وأهل المغفرة، اللهم امنن علينا بتوبةٍ، اللهم امنن علينا بتوبةٍ تجلو بها سخائم صدورنا وتغفر بها ذنوبنا، وترفع بها درجاتنا، وتزكي بها أعمالنا وقلوبنا، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم اجزهم عنا خير الجزاء وأعظمه وأوفره، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم كن للمسلمين المستضعفين في كل مكان، كن لنا ولهم وليًا ونصيرًا وظهيرًا، اللهم لا نُغتال وأنت ولينا، ولا نهان وأنت ركننا، احفظنا بركنك الذي لا يرام، وبعينك التي لا تنام يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفق ولي أمرنا بتوفيقك، اللهم خذ بناصيته للبر والتقوى، وأصلح جميع ولاة أمور المسلمين، واجعلها فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، يا رب العالمين.
اللهم ارفع عنا البلاء، اللهم ارفع عنا البلاء والمحن الزلازل وكل الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن بلاد المسلمين عامةً، يا ذا الجلال والإكرام.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم