عناصر الخطبة
1/القرآن الكريم والسنة النبوية وتصحيح المفاهيم 2/الواقع يثبت أن الغنى غنة النفس وليس المال 3/كيف نحقق غنى النفس في أنفسنا؟اقتباس
وعندما عرضت قريش على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الملك والمال والمتاع مقابل الكف عن الدعوة للتوحيد، وهو محتاج وقتها للأمن لنفسه وأصحابه ومحتاج للمال للدعوة ومحتاج للحماية، لكنه -صلى الله عليه وسلم- رفض الحاجة لهم واستغنى بالله -سبحانه-...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضْلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
إنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هديُ محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]؛ أما بعد:
أيها المسلمون: نزل القرآن الكريم ليصحح المفاهيم؛ بدءاً بمفهوم الألوهية وانتهاءً بمفهوم الفرح واللهو، وصحح القرآن مفهوم الإله الحق، ومفهوم العلم، ومفهوم العفة، ومفهوم العبودية، ومفهوم القوة والشجاعة، ومفهوم العافية والابتلاء، ومفهوم الصلاح والفساد، ومفهوم الظلم والعدل، ومفهوم الحياء، وغيرها، ومن المفاهيم التي صححها القرآن الكريم والسنة النبوية مفهومي الغنى والفقر؛ فالغنى في الإسلام غنى النفس، والغنى بالله -سبحانه-، والفقر الحاجة إلى الله -تعالى-؛ فمن كان مؤمناً بالله فهو الغني، ومن كان كافراً فهو الفقير، فليس الفقير فقير المال، وليس الغني غني المال، قال سليمان -عليه السلام- لما عرضت عليه الهدية: (أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ)، ما آتاني الله من النبوة خير من الدنيا، وقال ذو القرنين لما قال له قومه: (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا)؛ أي مالاً، (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا)؛ أي لا أحتاج إلى مالكم، لأن ربي معي.
وقال الله -تعالى- لرسوله صلى الله عليه وسلم: (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى)، ولا شك أن المقصود غنى النفس؛ لأن هذه الآية في بداية الرسالة بمكة، ولم يكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقتها من أهل المال؛ فالمقصود غنى النفس.
ويكفينا مثال قارون اللعين الذي أهلكه الله وهو أغنى أغنياء العالم مادياً في وقته، ولكنه فقير روحياً، لم يشبعه ماله وقتله غروره.
وجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- ليؤكد هذا المفهوم بقوله وفعله؛ فقال: "ليس الغنى عن كثرة العرض- أي المال-، ولكن الغنى غنى النفس"(متفق عليه)، وكان صلى الله عليه وسلم يبجّل ويقرّب الأتقى من الصحابة له المستغنين بالله بغض النظر عن مالهم وحالهم المادي، ويُقصي ويذمّ الجاحدين لله وإن كانوا من أهل الثراء.
والواقع يؤكد هذا المعنى، فكم من غني مادياً فقيرٍ نفسياً، والعكس صحيح، تجد الغني الجاحد لله -سبحانه- ونعمه، يعيش في ضنك وحيرة وشتات في أمره؛ لأنه ليس له هدف سامٍ في الحياة، وليس له دستور ينظم حياته، وليس له صلة روحية بالله تشبع حاجته العقدية التي خلق الله الإنسان عليها، فطرة الإنسان روح وجسد وعقل، لا جسد وعقل فقط، وفي الوقت نفسه تجده نهماً يطلب المزيد، لا يشبع من المال، فهو فقير أسير لهذا المال وللدنيا؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "منهومان لا يشبعان منهوم في العلم لا يشبع منه، ومنهوم في الدنيا لا يشبع منها"(رواه الحاكم).
أيها المسلمون: فأما المؤمن بالله الغني غنى النفس فهو وإن كان قليل ذات اليد إلا أنه مستقر نفسياً، راضٍ بقضاء الله، قانع بما آتاه الله، يؤمن بقول الله -سبحانه-: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا)، فنعم الله -سبحانه- لا يمكن إحصاؤها، ليست نعم الله المال فقط، أين العافية؟ أين الأمن؟ أين الصحة؟ أين العقل؟ لو حرمت من إحداها هل يستطيع أحد تعويضها؟ لو كان سكان العالم كلهم بيدهم منح إحدى هذه النعم لوهبوها لمن فقدها من الناس من أعز أقربائهم، ولكنهم عاجزون؛ فالمؤمن يردد: لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وشتان بين هذا وذاك.
عباد الله: كل إنسان يصبح بين نعمة الأمن والعافية والكفاف -وأكثرنا كذلك- ينطبق عليه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها"(رواه الترمذي).
ولكن بعض الناس عندهم عقدة الفقر، دائماً يحس بالنقص من الدنيا ويطلب المزيد، وهذا والله الحرمان، وقد عالجه القرآن والسنة أفضل علاج، وهو ما سنتعرف عليه.
معشر المسلمين: وحتى نحقق غنى النفس في أنفسنا فعلينا سلوك عدة أمور: الأول: الدعاء؛ فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأل الله -تعالى- ذلك فكان من دعائه: "وأسألك الرضا بعد القضاء"؛ لأن الرضا بعد القضاء دليل على القناعة والاستغناء بالله -سبحانه- عن غيره؛ قال صلى الله عليه وسلم: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له"(رواه مسلم).
قلت ما سمعتم ولي ولكم فاستغفروا الله ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إلا هو إليه المصير، كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه..
عباد الله: ومن الأمور التي تحقق غنى النفس تربيتها وترويضها على القناعة والاستعفاف عن الخلق، وقد جمع بينهما النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "ومن يستغنِ يُغنه الله، ومن يستعفف يُعفُّه الله"؛ لأن من قنع بالله استغنى عن غيره، ومن احتاج إلى الناس دائماً قلّت حاجته إلى الله؛ فالأنبياء -عليهم السلام- يرفعون حاجاتهم إلى الله -سبحانه-، قال إبراهيم -عليه السلام-: (إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ).
ويقول فرعون للسحرة بيدي حياتكم ومماتكم ورزقكم؛ (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ)؛ فقالوا حاجتنا ليست عندك؛ (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى).
وعندما عرضت قريش على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الملك والمال والمتاع مقابل الكف عن الدعوة للتوحيد، وهو محتاج وقتها للأمن لنفسه وأصحابه ومحتاج للمال للدعوة ومحتاج للحماية، لكنه -صلى الله عليه وسلم- رفض الحاجة لهم واستغنى بالله -سبحانه-.
ومن حثه صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله"(رواه الترمذي).
الثالث: أن ينظر المرء إلى من حرم من بعض النعم، ينظر المنومين في المستشفيات فيذكر العافية، ومن ألجأتهم الحاجة للتردد على الجمعيات الخيرية فيذكر المال، ومن يهجّر من بلده بسبب الحروب فيذكر الأمن، فيتذكر نعمة الله عليه ويتولد الغنى بالله في نفسه؛ قال صلى الله عليه وسلم: "انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا على من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم"(متفق عليه).
فاستغنوا بالله –عباد الله– عمّن سواه؛ فمن وجد الله فماذا خسر؟ ومن خسر الله فماذا وجد؟ واعلموا أن حوائجكم كلها بيد القوي الغني الكريم، فإياكم أن تركنوا إلى ضعيفٍ عاجزٍ يمرض وينسى ويموت، وتمسّكوا بالحي الذي لا يموت.
عباد الله: (إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، وقال صلى الله عليه وسلم؛ "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة"، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فأكثروا علي من الصلاة فيه؛ فإن صلاتكم معروضة علي"، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ.
اللهم أمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل هذا البلد آمناً مباركاً وجميع بلاد المسلمين.
اللَّهُمَّ إنَّا نَسْألُكَ مُوجِباتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزائِمَ مَغْفِرَتِكَ، والسَّلامَةَ مِنْ كُلِّ إثمٍ، والغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ، والفَوْزَ بالجَنَّةِ، والنَّجاةَ مِنَ النَّارِ.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل بلادنا آمنةً مطمئنة وسائر بلاد المسلمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم