عناصر الخطبة
1/الأمن في الأوطان نعمة عظمى 2/قطوف من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في حب الوطن 3/ضرورة الحفاظ على بلاد الحرمين الشريفين 4/حقوق وواجبات تراعى في حب الوطن 5/مواساة في فقد عالم جليلاقتباس
إذا كان حُبُّ الوطنِ ما جُبلت عليه النفوس وفطرت عليه القلوب، فكيف إذا كان الأمر متعلقًا بهذا الوطن المبارك الذي اختاره اللهُ -تعالى- مهبطًا للوحي والقرآن، وشرَّفَه ببيتِه الحرامِ؛ فكان قِبلةً للمسلمين، ومنارةً للعِلْمِ، ومأرزًا للإيمان!...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الذي منَّ علينا بنعمة الإيمان، وأكرَمَنا بالأمنِ في الأوطانِ، وأسبَغ علينا العافيةَ في الأبدانِ، وأشهد أَنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، الواحدُ الدَّيَّانُ، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، المبعوثُ رحمةً للأنام، صلى الله عليه وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه والتابعينَ، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ ما تعاقبَتِ الليالي والأيامُ.
أمَّا بعدُ: فأوصيكم -أيها الناسُ ونفسي- بتقوى الله؛ فإنَّها سرُّ الحياة الرَّضِيَّة، وعمادُ العيشةِ الهنيةِ، وبها تُنال الرحماتُ، وتُستدرُّ البركاتُ، وتُستجلَب الخيراتُ؛ قال رب البريات: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)[الْأَعْرَافِ: 96].
معاشرَ المسلمينَ: إنَّ مِنْ أعظمِ نعمِ الله على عباده أَنْ يمنَحَهم أوطانًا يأمنون في أرجائها، وبلادًا ينعمون في ربوعها؛ فالوطن مِنَّةٌ من جلائلِ المنن، وعطيةٌ لا تُقَدَّر بثمن، وحُبُّه مركوزٌ في الفِطَر، وكل ذلك في الكتاب والسُّنَّة مستطَرّ؛ فقد ربَط اللهُ -تعالى- بين حُبِّ النفسِ وحُبِّ الأوطانِ، وقرَن الجلاءَ عن البلاد بفوات الأبدان؛ فقال -تعالى-: (وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا)[الْبَقَرَةِ: 246].
كمَا جمَع اللهُ في القرآن بينَ الدينِ والوطنِ، فقال: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ)[الْمُمْتَحَنَةِ: 8].
واعلموا -يا عباد الله- أنَّ في سيرةِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أبهى الصور وأسماها في حب الأوطان؛ فهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما ابتلي بترك وطنه وقف بالحزورة، وهو على راحلته، يخاطب مكة قائلًا: "والله إنكَ لخيرُ أرضِ اللهِ، وأحبُّ أرضِ اللهِ إلى اللهِ، ولولا أنِّي أُخرجتُ منكِ ما خرجتُ"(رواه ابن ماجه)، وقد وعَد اللهُ -تعالى- نبيَّه -صلى الله عليه وسلم- أن يعيده إليها بقوله: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ)[الْقَصَصِ: 85]، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أي: إلى مكة"(رواه البخاري)؛ وبذلك يُعلَم -يا عباد الله- أنَّ حُبَّ الوطنِ غريزةٌ متأصِّلةٌ في النفوس، تجعل الإنسانَ يستريح إلى البقاء فيه، ويحنُّ إليه إذا غاب عنه.
أيها المؤمنون: ومن الدلائل الشرعيَّة على حب الأوطان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما استوطَن المدينةَ دعا ربَّه أن يرزقه حبها؛ فحبُّ مكةَ فطرةٌ؛ لأنَّها وطنه، أمَّا حبُّ المدينةِ فمنحة وهبة؛ ففي الصحيحين، عن عائشة -رضي الله عنها-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم حَبِّبْ إلينا المدينةَ كحُبِّنا مكةَ أو أشدَّ"، ودعا النبي -صلى الله عليه وسلم- بالبركة فيها وفي رزقها، كما دعا إبراهيم -عليه السلام- لمكة، وقد استجاب الله دعاءه؛ فكان النبي إذا خرج من المدينة لغزوة أو نحوها تحركَتْ نفسُه إليها؛ فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قَدِمَ من سفر فأبصَر درجاتِ المدينة أوضَع ناقتَه؛ -أي: أسرَع بها-، وإن كانت دابةً حرَّكَها من حبها"(رواه البخاري).
قال ابن حجر -رحمه الله-: "فيه دلالةٌ على فضلِ المدينةِ، وعلى مشروعيةِ حُبِّ الوطنِ والحنينِ إليه"، وقال الحافظ الذهبي -رحمه الله- معدِّدًا طائفةً من محبوبات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وكان يُحِبُّ عائشةَ، وَيُحِبُّ أباها، وَيُحِبُّ أسامةَ، وَيُحِبُّ سِبْطَيْهِ، وَيُحِبُّ الحلواءَ والعسلَ، وَيُحِبُّ جبلَ أُحُد، وَيُحِبُّ وطنَه".
وأمَر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الناسَ بسرعة الرجوع إلى أوطانهم عندَ انقضاء أسفارهم وحاجاتهم؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "فإذا قضَى أحدُكم نَهمتَه من سفره فَليُعَجِّلْ إلى أهله"(مُتفَق عليه).
أيها الناس: إذا كان حُبُّ الوطنِ ما جُبلت عليه النفوس وفطرت عليه القلوب، فكيف إذا كان الأمر متعلقًا بهذا الوطن المبارك الذي اختاره اللهُ -تعالى- مهبطًا للوحي والقرآن، وشرَّفَه ببيتِه الحرامِ؛ فكان قِبلةً للمسلمين، ومنارةً للعِلْمِ، ومأرزًا للإيمان، ومَنَّ عليه أَنْ جعلَه على الجادَّةِ من توحيد الله، وإخلاص العبادة له، واجتماع الكلمة، ووحدة الصف، واستخلف عليه ولاةَ أمرٍ موحدينَ مُصلحينَ، وألبَسَه لباسَ الأمن والأمان، وفتَح عليه أبوابَ الرزق والإنعام!، أَلَمْ ترَوْا أن إبراهيم -عليه السلام- دعَا لمكةَ بسَعة الرزق والأمن، فقال: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ)[الْبَقَرَةِ: 126].
عباد الله: بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن والسُّنَّة، ونفعني وإيَّاكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما سمعتُم، وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِه وصحبِه، ومن والاه.
أمَّا بعدُ، أيها المسلمون: ولَمَّا كان حُبُّ الوطن أمرًا جبليًّا وشرعيًّا، وأدبًا في ديننا مرعيًا، أحاطت الشريعةُ هذا الحبَّ بحقوق وواجبات؛ رعايةً لمصالح الدين والدنيا؛ وأولُ تلك الحقوق وأولاها التذكير بأهمية شكر الله -تعالى- على نعمة الوطن؛ فبالشكر تدوم النعم، قال -عز وجل-: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)[إِبْرَاهِيمَ: 7].
ثانيها: التأكيد على مشروعية حب الوطن، والانتماء إليه، والدفاع عنه، لا سيما هذه البلاد المبارَكة؛ لأنَّها قِبلةُ المسلمينَ، ومَهوَى أفئدتهم؛ فالدفاع عنها دفاع عن الدين والمقدَّسات، وأَمنُها أمنٌ للمسلمين، واستقرارُها استقرارٌ للناس أجمعين؛ قال -تعالى-: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ)[الْمَائِدَةِ: 97].
ثالثها: ترسيخ مفهوم السمع والطاعة لولاة أمرنا ولزوم الجماعة، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)[النِّسَاءِ: 59]؛ فقد تقرَّر عند أهل السُّنَّة، وعُلِمَ بالضرورة من دين الإسلام أنَّه لا دينَ إلا بجماعة، ولا جماعةَ إلا بإمامة، ولا إمامةَ إلا بسمع وطاعة؛ فعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- أنَّه قال: "بايَعْنا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في اليُسْر والعُسْر، والمنشط والمكره، وألَّا ننازع الأمرَ أهلَه"(رواه البخاري).
رابعها: الوصية بملازَمة العلماء الربانيين الراسخين؛ فملازمتُهم والاستنارةُ بآرائهم سَدادٌ في الرأي، وتحقيقٌ للمصالح، ودرءٌ للمفاسد، ودحضٌ لشُبَه المرجفينَ، وأكاذيب المُغْرِضِينَ، قال -تعالى-: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)[النِّسَاءِ: 83].
أيها المسلمون: إنَّ مِنْ أعظمِ المصائبِ وقعًا، وأشدها خطبًا، فِقْدَانَ العلماء العاملينَ، وحمَلَة الشرع البصيرين، وقد أُصيبت أمةُ الإسلام بوفاة عالِم من علمائها الراسخين، وعَلَم من أعلامها الربانيينَ الداعينَ إلى الله على علم وبصيرة، المجاهِد في سبيل الحق والهدى، وهو المفتي العامّ للمملكة، ورئيس هيئة كبار العلماء، سماحة العلامة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، الذي قضى عمره في خدمة الدين والعلم والوطن؛ فإن فقده مصاب أليم، وحادث جلل على أمة الإسلام، تغمده الله بواسع رحمته، وأسكنه فسيح جناته، وبوأه منازل الأبرار، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، وجزاه عما قدم للإسلام والمسلمين خير الجزاء، وعوض الله المسلمين بفقده خيرًا.
وإنَّ ممَّا يُهوِّنُ وقعَ المصاب ومرارة الحزن أنَّ اللهَ -تعالى- مكَّن لهذا الدين، وقيَّض له علماءَ مخلصينَ، وفقهاءَ بصيرينَ، ولاسيما علماء هذه البلاد المبارَكة، يَحمِلُون رسالةَ الإسلام، ويَدعُون إلى دين الله على علم وبصيرة؛ فبارَك اللهُ في حياتهم، وسدَّد على طريق الحق خطاهم، ومنَّ على الجميع بالصبر والاحتساب، في الفقيد -رحمه الله-.
أيها الناس: وخامس الحقوق والواجبات تعزيز الأمن الفكري والوعي الاجتماعيّ، بحماية الناس وتحصينهم من العقائد الفاسدة، والأفكار المنحرفة، والجماعات المتطرفة التي تسعى لشقِّ عصا الطاعة، وتفريق الكلمة، وإفساد النشء والشباب، وتوهين قوى المجتمع.
واعلموا -يا عباد الله- أنَّ المناعة الفكريَّة للمجتمع لا تتحقَّق إلا بالعناية بالعِلْم، والتسلُّح بالوعي؛ تحصينًا للنفوس من الشُّبُهات والشهوات، وصيانةً للعقول من الأراجيف والافتراءات، ووقايةً للأبدان من الآفات والمخدِّرات؛ ليكون الناسُ بذلك سدًّا منيعًا في وجه كل مَنْ يحاول زعزعةَ الوطن وأمنه واستقراره.
سادسها: الحثُّ على احترام أنظمة الوطن وقوانينه، والحفاظِ على أرضه ومقدَّراته، والمساهَمة الفاعلة في تحقيق رؤيته وتطلُّعاته كلٌّ في مجاله ومكانه؛ فالمُواطَنة الصالحة ليست مجرد كلمات تُردَّد، ولا شعارات تُرفَع، بل هي إخلاص وولاء، وقِيَم ومبادئ، وواجب ديني، والتزام أخلاقيّ يَدفَع الإنسانَ إلى العمل الجادّ الذي يُحقِّق رفعةَ وطنِه ورقيَّه وازدهارَه.
فاتقوا الله -عبادَ اللهِ-، وكونوا لوطنكم خيرَ بُناة، ولحصونه أقوى حُماة، فبذلك تَسعَدون في دنياكم، وتفلحون في أُخراكم، وتظفرون برضى مولاكم.
عباد الله: هذا صلوا وسلموا على الهادي البشير، والسراج المنير، كما أمركم الله ذلك وهو اللطيف الخبير فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، فاللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ على الرسول الأمين، وعلى آلِه الطيبينَ الطاهرينَ، وعلى أزواجِه أمهاتِ المؤمنينَ، وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، واحمِ حوزةَ الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا رخاءً، وسائرَ بلاد المسلمين، يا ربَّ العالمينَ.
اللهمَّ أيِّدْ بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا خادمَ الحرمينِ الشريفينِ، الملك سلمان، ووليَّ عهدِه الأمير محمد بن سلمان، ووفِّقْهُما وأعوانَهما لكل ما فيه صلاح للبلاد والعباد، وعز وتمكين للإسلام والمسلمين، واحفظ على هذه البلاد عقيدتها وأمنها وأمانها، وقيادتها وعلماءها، ورجالَ أمنِها وجنودَها، واجتماعَ كلمتِها واستقرارَها وازدهارَها، واجعلها شامخةً عزيزةً إلى يوم الدين.
اللهمَّ فَرِّجْ همَّ المهمومينَ، ونَفِّسْ كربَ المكروبينَ، واقضِ الدينَ عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، وارحمِ اللهمَّ موتانا وموتى المسلمين، برحمتكَ يا أرحمَ الراحمينَ.
اللهمَّ انصر إخواننا المستضعَفين في فلسطين، اللهمَّ اشف مرضاهم وداوِ جرحاهم وأطعِمْ جائعَهم، وأحقِنْ دماءَهم، واربِطْ على قلوبِهم، واجعَلْ لهم مِنْ كل هَمٍّ فرجًا، ومِنْ كلِّ ضيقٍ مخرجًا، ومِنْ كلِّ بلاءٍ عافيةً.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم