عناصر الخطبة
١/شمولية تربية الصحابة لأبنائهم وتهيئتهم في سن مبكر 2/آثار عناية الصحابة بشبابهم ومراهقيهم عليهم وعلى الأمة 3/ نماذج من شباب الصحابة وصغارهم 4/الدروس المستفادة من قصص شباب الصحابة وذكر سيرهم 5/رسائل إلى المربين والأبناء وبيان الواجب لهم وعليهم.اقتباس
إِنَّ عِنَايَةَ الصَّحَابَةِ بِتَرْبِيَةِ هَذِهِ الْفِئَةِ آتَتْ ثِمَارَهَا؛ فَصَلَحَ هَؤُلَاءِ الشَّبَابُ، وَانْتَفَعَ بِهِمْ مُجْتَمَعُهُمْ وَأُمَّتُهُمْ فِي كَافَّةِ الْمَجَالَاتِ، بَلْ قَامَ الدِّينُ وَانْتَشَرَ عَلَى تَضْحِيَاتِهِمْ وَعَزْمِهِمْ، وَإِذَا صَلَحَ الشَّبَابُ صَلَحَتِ الْأُمَّةُ؛ فَإِنَّ قُوَّةَ الْأُمَمِ فِي شَبَابِهَا، وَإِذَا ضَعُفُوا ضَعُفَ الْمُجْتَمَعُ الْمُسْلِمُ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ:70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ: أَوْلَى الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- اهْتِمَامًا كَبِيرًا بِتَرْبِيَةِ الشَّبَابِ، إِدْرَاكًا مِنْهُمْ لِطَبِيعَةِ هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ وَأَهَمِّيَّتِهَا، وَتَمَيَّزَتْ تَرْبِيَتُهُمْ بِالشُّمُولِيَّةِ وَالْمُرُونَةِ، فَأَشْبَعُوا لَدَى الْمُرَاهِقِينَ وَالشَّبَابِ حَاجَتَهُمُ الرُّوحِيَّةَ وَالنَّفْسِيَّةَ وَالْجَسَدِيَّةَ الَّتِي يَحْتَاجُونَهَا، وَمِنْ مَظَاهِرِ ذَلِكَ:
تَحْبِيبُهُمْ فِي الْعِلْمِ وَدَفْعُهُمْ إِلَى حَلَقَاتِ الْمَسَاجِدِ وَمَجَالِسِ الْعُلَمَاءِ، هَذِهِ أُمُّ سُلَيْمٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- تَأْتِي بِابْنِهَا أَنَسٍ إِلَى النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لِيَخْدِمَهُ وَيَتَعَلَّمَ مِنْهُ، "فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ رِجَالَ الْأَنْصَارِ وَنِسَاءَهُمْ قَدْ أَتْحَفُوكَ، وَإِنِّي لَمْ أَجِدْ مَا أُتْحِفُكَ بِهِ إِلَّا ابْنِي هَذَا فَاقْبَلْهُ مِنِّي يَخْدِمُكَ مَا بَدَا لَكَ، قَالَ: فَخَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَشْرَ سِنِينَ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)، وَقَدْ كَانَ لِنَشْأَتِهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي بَيْتِ النُّبُوَّةِ أَثَرٌ كَبِيرٌ فِي حَيَاتِهِ، خَاصَّةً مِنَ النَّاحِيَةِ الْعِلْمِيَّةِ؛ فَكَانَ مِنَ الْمُكْثِرِينَ مِنْ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولٍ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-.
وَلَقَدْ كَانَتْ لِكَلِمَاتِ الصَّحَابَةِ عَنِ الْعِلْمِ وَالِاهْتِمَامِ بِهِ أَثَرُهَا فِي شَبَابِهِمْ، يَقُولُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مُوَجِّهًا: "تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تَسُودُوا"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)، وَيَحُثُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَلَى الْعِلْمِ فَيَقُولُ: "عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ، وَقَبْضُهُ أَنْ يَذْهَبَ بِأَصْحَابِهِ، عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ"(سُنَنُ الدَّارِمِيِّ)، فَلَا عَجَبَ إِذَنْ أَنْ يَنْشَطَ شَبَابُ الصَّحَابَةِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ حَتَّى كَانَ لِبَعْضِهِمْ رِحْلَاتٌ إِلَى مَسَافَاتٍ بَعِيدَةٍ، فَقَدْ رَحَلَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)، وَيُرْوَى "أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَحَلَ إِلَى فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ وَهُوَ بِمِصْرَ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ آتِكَ زَائِرًا، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ أَنَا وَأَنْتَ حَدِيثًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَكَ مِنْهُ عِلْمٌ"(صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
وَمِنْ مَظَاهِرِ تَرْبِيَتِهِمْ لِلْمُرَاهِقِينَ: إِشْبَاعُ الْجَانِبِ الرُّوحِيِّ لَدَيْهِمْ بِالِانْشِغَالِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ -تَعَالَى- وَطَاعَتِهِ مُنْذُ سِنٍّ مُبَكِّرَةٍ لِيَعْتَادُوا عَلَيْهَا، فَالصَّحَابِيَّةُ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- تَقُصُّ كَيْفَ عَلَّمَتْ أَوْلَادَهَا الصِّيَامَ فَتَقُولُ عَنْ صَوْمِ عَاشُورَاءَ: "فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ، وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وَمِمَّا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: "أَنَّهُ كَانَ يُحْيِي اللَّيْلَ صَلَاةً ثُمَّ يَقُولُ: "يَا نَافِعُ، أَسْحَرْنَا؟"، فَأَقُولُ: لَا، فَيُعَاوِدُ الصَّلَاةَ، ثُمَّ يَقُولُ: "يَا نَافِعُ أَسْحَرْنَا؟"، فَأَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقْعُدُ فَيَسْتَغْفِرُ وَيَدْعُو حَتَّى يُصْبِحَ"(رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ)، فَكَانَ تَعْلِيمُهُمْ بِالْقُدْوَةِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ بِالْأَوَامِرِ وَالتَّوْجِيهَاتِ.
وَمِنَ الْمَظَاهِرِ التَّرْبَوِيَّةِ: إِعْدَادُهُمُ الْجِهَادِيُّ، فَمَا إِنْ يَبْلُغْ أَحَدُهُمْ سِنَّ التَّكْلِيفِ إِلَّا وَيُنَافِسُ الْكِبَارَ فِي سَاحِ الْجِهَادِ، وَهَذَا الْحَمَاسُ وَالِانْدِفَاعُ مِنْ شَابٍّ صَغِيرٍ إِلَى سَاحَاتِ الْقِتَالِ هُوَ نِتَاجُ تَرْبِيَةٍ أُسَرِيَّةٍ، دَاعِمَةٍ لَهُ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ، زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَرَادَ أَنْ يُشَارِكَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَسِنُّهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَاسْتَصْغَرَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَرَدَّهُ، وَأَرَادَ أَنْ يَشْهَدَ غَزْوَةَ أُحُدٍ فَرَدَّهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَيْضًا، وَأَوَّلُ مَشَاهِدِهِ الْخَنْدَقُ، وَكَانَ عُمْرُهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَعُمَيْرُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، أَخُو سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَرَادَ أَنْ يَشْهَدَ غَزْوَةَ بَدْرٍ وَكَانَ عُمْرُهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَرَدَّهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاسْتَصْغَرَهُ، فَذَهَبَ يَبْكِي فَرَقَّ لَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَجَازَهُ، يَقُولُ أَخُوهُ سَعْدٌ: "كُنْتُ أَعْقِدُ لَهُ حَمَائِلَ سَيْفِهِ مِنْ صِغَرِهِ".
وَمِنْ مَظَاهِرِ تَرْبِيَةِ الصَّحَابَةِ لِشَبَابِهِمْ: تَمْكِينُهُمْ مِنْ تَحَمُّلِ الْمَسْؤُولِيَّةِ، فَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ يُؤْمِنُونَ بِقُدُرَاتِ الشَّبَابِ وَيُعْطُونَهُمُ الْفُرَصَ لِتَحَمُّلِ الْمَسْؤُولِيَّةِ، فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- رَغْمَ صِغَرِ سِنِّهِ كَانَ مَرْجِعًا فِي الْعِلْمِ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَسْتَشِيرُهُ فِي الْأُمُورِ الْكَبِيرَةِ، وَيُجْلِسُهُ فِي مَجَالِسِ الْكِبَارِ، "وَكَانَ إِذَا نَزَلَ بِعُمَرَ الْأَمْرُ الْمُعْضِلُ دَعَا الْفِتْيَانَ وَاسْتَشَارَهُمْ؛ يَبْتَغِي حِدَّةَ عُقُولِهِمْ".
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مِنَ الْخَطَأِ التَّرْبَوِيِّ أَنْ يُمْنَعَ الصَّغِيرُ مِنْ حُضُورِ مَجَالِسِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ وَالتَّجْرِبَةِ مِنْ كِبَارِ السِّنِّ، فَقَدْ مَرَّ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ: "مَا لَكُمْ قَدْ طَرَحْتُمْ هَذِهِ الْأُغَيْلِمَةَ؟ لَا تَفْعَلُوا، أَوْسِعُوا لَهُمْ فِي الْمَجْلِسِ، وَأَسْمِعُوهُمُ الْحَدِيثَ، وَأَفْهِمُوهُمْ إِيَّاهُ؛ فَإِنَّهُمْ صِغَارُ قَوْمٍ أَوْشَكَ أَنْ يَكُونُوا كِبَارَ قَوْمٍ، وَقَدْ كُنْتُمْ صِغَارَ قَوْمٍ فَأَنْتُمُ الْيَوْمَ كِبَارُ قَوْمٍ"، فَمُشَارَكَةُ الشَّابِّ مَعَ كِبَارِ الْقَوْمِ يُكَبِّرُ عَقْلَهُ، وَيُنْضِجُ تَفْكِيرَهُ، وَيُعَزِّزُ ثِقَتَهُ بِنَفْسِهِ.
وَمِنْ مَظَاهِرِ تَرْبِيَةِ الصَّحَابَةِ لِشَبَابِهِمْ: إِسْدَاءُ النُّصْحِ لَهُمْ وَتَوْجِيهُهُمْ لِمَا يَنْفَعُهُمْ، فَعَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ أَبِي يُعَلِّمُنَا الْمَغَازِيَ وَالسَّرَايَا، وَيَقُولُ: "يَا بُنَيَّ، إِنَّهَا شَرَفُ آبَائِكُمْ، فَلَا تُضَيِّعُوا ذِكْرَهَا"، وَرَأَى ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- شَابًّا قَدْ أَسْدَلَ ثَوْبَهُ فِي الصَّلَاةِ، فَأَمَرَهُ بِرَفْعِهِ وَقَالَ: "إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ عِنَايَةَ الصَّحَابَةِ بِتَرْبِيَةِ هَذِهِ الْفِئَةِ آتَتْ ثِمَارَهَا؛ فَصَلَحَ هَؤُلَاءِ الشَّبَابُ، وَانْتَفَعَ بِهِمْ مُجْتَمَعُهُمْ وَأُمَّتُهُمْ فِي كَافَّةِ الْمَجَالَاتِ، بَلْ قَامَ الدِّينُ وَانْتَشَرَ عَلَى تَضْحِيَاتِهِمْ وَعَزْمِهِمْ، وَإِذَا صَلَحَ الشَّبَابُ صَلَحَتِ الْأُمَّةُ؛ فَإِنَّ قُوَّةَ الْأُمَمِ فِي شَبَابِهَا، وَإِذَا ضَعُفُوا ضَعُفَ الْمُجْتَمَعُ الْمُسْلِمُ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ شَبَابَ الصَّحَابَةِ أُنْمُوذَجٌ فَرِيدٌ وَثَمَرَةٌ لِتَرْبِيَةٍ جَادَّةٍ، كَانَتْ دَارُ الْأَرْقَمِ بْنِ أَبِي الْأَرْقَمِ مَقَرًّا لِلدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَكَانَ لِأَبْنَاءِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ دَوْرٌ مُهِمٌّ فِي إِنْجَاحِ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَنَامَ عَلِيٌّ فِي فِرَاشِهِ، وَرَحَلَ مُعَاذٌ إِلَى الْيَمَنِ يَدْعُو إِلَى اللَّهِ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ تَعَلَّمَ لُغَةَ يَهُودَ فِي خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً...؛ إِنَّهَا التَّرْبِيَةُ حِينَ انْطَلَقَتْ مِنْ ثَوَابِتِ الْإِسْلَامِ وَقِيَمِهِ وَتَصَوُّرَاتِهِ، أَثْمَرَتْ هَذِهِ النَّمَاذِجَ الشَّبَابِيَّةَ الرَّائِعَةَ، تَوَزَّعُوا بَيْنَ الْقِيَادَةِ وَالْإِدَارَةِ، وَالدَّعْوَةِ وَالْعِلْمِ، وَالتَّضْحِيَةِ وَالْجِهَادِ، هُمُ الرِّجَالُ حَقًّا وَإِنْ كَانُوا فِي السِّنِّ صِغَارًا؛ (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ)[النُّورِ:37].
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ:281].
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ أَعْظَمَ دَرْسٍ يُمْكِنُ الِاسْتِفَادَةُ مِنْهُ مِنْ خِلَالِ هَذِهِ النَّمَاذِجِ الْعَظِيمَةِ مِنْ شَبَابِ الصَّحَابَةِ أَنَّ الْأُسْرَةَ هِيَ مَصْنَعُ الرِّجَالِ، وَأَنَّ التَّرْبِيَةَ الصَّحِيحَةَ تَبْدَأُ مِنْ بُيُوتِنَا، وَأَنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا أَنْ يَتَحَمَّلَ مَسْؤُولِيَّتَهُ فِي تَرْبِيَةِ أَبْنَائِهِ.
وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الْفِتْيَانِ مِنَّا *** عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ أَبُوهُ
وَمَا دَانَ الْفَتَى بِحِجًى وَلَكِنْ *** يُعَلِّمُهُ التَّدَيُّنَ أَقْرَبُوهُ
وَمِنَ الدُّرُوسِ -أَيْضًا-: أَنَّ التَّقْوِيمَ وَالتَّوْجِيهَ الصَّحِيحَ لِلْمُتَرَبِّي يَبْدَأُ فِي سِنٍّ مُبَكِّرٍ، حَيْثُ يُمْكِنُ غَرْسُ الْأَفْكَارِ وَالْقِيَمِ، وَبِدَايَةُ الشَّبَابِ هِيَ الْخُطْوَةُ الْأُولَى الَّتِي يَخْطُوهَا الشَّبَابُ نَحْوَ الرُّجُولَةِ، فَمَنْ أَحْسَنَ فِيهَا الْغَرْسَ فَرِحَ يَوْمَ الْحَصَادِ بِثَمَرَةِ جُهْدِهِ، وَقَدْ قِيلَ:
قَدْ يَنْفَعُ الْأَدَبُ الْأَحْدَاثَ فِي صِغَرٍ *** وَلَيْسَ يَنْفَعُ عِنْدَ الشَّيْبَةِ الْأَدَبُ
إِنَّ الْغُصُونَ إِذَا قَوَّمْتَهَا اعْتَدَلَتْ *** وَلَا يَلِينُ إِذَا قَوَّمْتَهُ الْخَشَبُ
أَيُّهَا الْمُرَبُّونَ: شَبَابُنَا بِحَاجَةٍ إِلَى مَنْ يَأْخُذُ بِأَيْدِيهِمْ وَيُوَجِّهُهُمُ الطَّرِيقَ الصَّحِيحَ، وَيَنْظُرُ فِي طَرِيقَةِ تَرْبِيَةِ الصَّحَابَةِ لِأَبْنَائِهِمْ وَشَبَابِهِمْ؛ فَطَرِيقَتُهُمْ مِفْتَاحٌ لَنَا فِي تَرْبِيَةِ شَبَابِنَا حَتَّى نَشْحَذَ بِهَا هِمَمَ شَبَابِنَا وَعَزَائِمَهُمْ؛ لِيَجْعَلُوا مِنْ أُولَئِكَ قُدْوَةً لَهُمْ.
وَيَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ: هَؤُلَاءِ هُمْ قَادَتُكُمْ وَقُدُوَاتُكُمْ، وَبِإِمْكَانِكُمْ أَنْتُمْ أَنْ تَكُونُوا مِثْلَهُمْ؛ إِذَا سِرْتُمْ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي سَارُوا عَلَيْهِ، فَإِيَّاكُمْ أَنْ تُضَيِّعُوا أَفْضَلَ مَرَاحِلِ عُمْرِكُمْ فِي التَّفَاهَاتِ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ:56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم