عناصر الخطبة
1/التوسط في الإنفاق من مظاهر الاعتدال 2/الأدلة الشرعية على التوسط في الإنفاق 3/النهي عن الإسراف وبيان شيء من مساوئه 4/من أسباب الإسراف ومظاهره في واقعنااقتباس
يَنْضَافُ إِلَى هَذَا ظَاهِرَةُ تَصْوِيرِ الْوَلَاَئِمِ وَنَشْرِهَا فِي وَسَائِلِ التَّوَاصُلِ الْاِجْتِمَاعِيِّ، وَالَّتِي أَخَرَجَتِ الْوَلَاَئِمَ مِنْ مَفْهُومِ الْكَرَمِ إِلَى الرِيَاءِ وَالْمُبَاهَاةِ، وَفِي هَذَا كَسْرٌ لِنُفُوسِ الْفُقَرَاءِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْإِسْرَافِ الْمَمْقُوتِ وَالتَّبْذِيرِ الْمُسْتَقْبَحِ الَّذِي نَهَى الشَرْعُ عَنْهُ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ، ذِي الطَّوْلِ وَالْإِنْعَامِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، الْمُحْسِنِ بِفَضْلِهِ إِلَى جَمِيعِ الْأَنَامِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، أَحَلَّ الْحَلَالَ وَحَرَّمَ الْحَرَامَ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الَّذِينَ اقْتَصَدُوا فِي عَيْشِهِمْ وَلَمْ يُبَذِّرُوا تَبْذِيرَاً، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرَاً.
أمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -عِبَادَ اللهِ-، فَتَقْوَى اللهِ هِيَ النَجَاةُ غَدَاً وَالْمَنْجَاةُ أَبَدَاً؛ (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[الزمر: 61].
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ اللهَ شَرَعَ لَنَا دِينًا قَيِّمَاً، وَجَعَلَنَا أُمَّةً وَسَطَاً؛ (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)[البقرة: 143]، وَإنَّ مِنْ مَظَاهِرِ هَذِهِ الْوَسَطِيَّةِ الِاعْتِدَالَ فِي الْإِنْفَاقِ والتوسط بَيْنَ السَّرَفِ وَالتَّبْذِيرِ، وَالْبُخْلِ وَالتَّقْتِيرِ، وَالْعَدْلُ وَالْوَسَطُ مِنْ صِفَاتِ أَوْلِيَاءِ اللهِ مِنْ عِبَادِهِ؛ قَالَ -تَعَالَى-: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)[الفرقان: 67]، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: أَيْ: "لَيْسُوا بِمُبَذِّرِينَ في إِنْفَاقِهِمْ فَيَصْرِفُونَ فَوْقَ الْحَاجَةِ، وَلَا بُخَلَاءَ عَلَى أهْليهم فَيُقَصِّرُونَ فِي حَقِّهِمْ فَلَا يَكْفُونَهُمْ، بَلْ عَدْلا خِيَارًا، وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا، لَا هَذَا وَلَا هَذَا"، (وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)، كَمَا قَالَ -سُبْحَانَهُ-: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا)[الإسراء: 29].
وَذَمَّ -سُبْحَانَهُ- الْإِسْرَافَ وَالتَّبْذِيرَ وَجَعَلَهُمَا مِنْ صِفَاتِ إِخْوَانِ الشَّيَاطِينِ؛ تَحْذِيرَاً وَتَنْفِيرَاً، قَالَ -تَعَالَى-: (وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا)[الإسراء: 26 - 27]، وَاللهُ -جَلَّ جَلَالُهُ- لَا يُحِبُّ أَهْلَ الْإِسْرَافِ؛ (يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)[الأعراف: 31].
الْإِسْرَافُ دَاءٌ قَتَّالٌ، وَمَرَضٌ عُضَالٌ، يَهْدِمُ مُقَوِّمَاتِ الْأُمَمِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ، وَيُبَعْثِرُ الْأَمْوَالَ وَيُبَدِّدُ الثَّرَوَاتِ فِي غَيْرِ مَنْفَعَةٍ، ثُمَّ يَكُونُ سَبَبًا لِلْوُقُوعِ فِي الْمَهَالِكِ، وَكَثِيرَاً مَا تُصَابُ النُّفُوسُ عِنْدَ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَالْغِنَى بِالطُّغْيَانِ، وَالْإِسْرَافِ وَسُوءِ اسْتِعْمَالِ نِعْمَةِ الْمَالِ فِي الْمُتَعِ وَاللَّذَّاتِ، وَالِانْحِدَارِ فِي الشَّهَوَاتِ.
الْإِسْرَافُ وَالتَّبْذِيرُ مِنْ أَعْظَمِ أسْبَابِ زَوَالِ النَّعَمَةِ وَفُقْدَانِهَا، يَقُولُ -تَعَالَى-: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)[إبراهيم: 7]، (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)[النحل: 112].
وَإِنَّ لِلْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ أَسْبَابَاً وَدَوَافِعَ مِنْهَا: جَهْلُ أَوْ تَجَاهُلُ الْمُسْرِفِينَ بِأَحْكَامِ الدِّينِ، وَحُبُّ الْمُبَاهَاةِ وَالتَّفَاخُرِ، وَالرَغْبَةُ فِي التَّسَابُقِ وَالتَّكَاثُرِ فِي مَظَاهِرِ الدُّنْيَا الزَائِفَةِ، وَالتَّقْلِيدُ وَاتِّبَاعُ الْعَادَاتِ، وَمُصَاحَبَةُ الْمُسْرِفِينَ؛ لِأَنَّ الصَّاحِبَ يَتَأَثَّرُ بِأَخْلَاقِ صَاحِبِهِ، وَيَتَطَبَّعُ بِطِبَاعِهِ، وَالتَّأَثُّرُ بِمُحْتَوَى مَشَاهِيرِ التَّوَاصُلِ الاجْتِمَاعِي، وَمُسَايَرَتُهُم فِي حَيَاةِ الْبَذَخِ وَالْإِسْرَافِ، حَتَّى أُصِيبَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِسُعَارِ التَّقْلِيدِ الْأَعْمَى، وَالْمَظَاهِرِ الْمُثِيرَةِ، وَالتَّبَعِيَّةِ الْجَوْفَاءِ بِلَا تَمْحِيصٍ وَلَا بَصِيرَةٍ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْإِسْرَافَ وَالتَّبْذِيرَ قَدْ تَعَدَّدَتْ مَظَاهِرُهُ، وَتَنَوَّعَتْ أَشْكَالُهُ، حَتَّى كَادَتْ تَعُمُّ الْمُجْتَمَعَاتِ وَالْأَفْرَادَ، وَتُفْسِدُ حَيَاةَ الْعِبَادِ وَالْبِلَادِ.
وَمِنْ مَظَاهِرِهِ الْإِسْرَافُ فِي الْمُنَاسَبَاتِ، فَتُوضَعُ أَطْعِمَةٌ كَثِيرَةٌ وَأَشْرِبَةٌ مُتَنَوِّعَةٌ ثُمَّ يَنْفَضُّ النَّاسُ عَنْ أَكْثَرِهَا تَارِكِينَ سَبِيلَهَا إِلَى حَاوِيَاتِ النُّفَايَاتِ، وَمَا يَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَعْرَاسِ وَالْحَفَلَاتِ، مِنَ السَّرَفِ وَالْبَذَخِ إِلَى حَدِّ التَّبَاهِي وَالتَّفَاخُرِ، وَالسُّمْعَةِ وَالتَّكَاثُرِ، يَنْضَافُ إِلَى هَذَا ظَاهِرَةُ تَصْوِيرِ الْوَلَاَئِمِ وَنَشْرِهَا فِي وَسَائِلِ التَّوَاصُلِ الْاِجْتِمَاعِيِّ، وَالَّتِي أَخَرَجَتِ الْوَلَاَئِمَ مِنْ مَفْهُومِ الْكَرَمِ إِلَى الرِيَاءِ وَالْمُبَاهَاةِ، وَفِي هَذَا كَسْرٌ لِنُفُوسِ الْفُقَرَاءِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْإِسْرَافِ الْمَمْقُوتِ وَالتَّبْذِيرِ الْمُسْتَقْبَحِ الَّذِي نَهَى الشَرْعُ عَنْهُ، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ اللهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وَقَالَ: "كُلُوا وَاشْرَبُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ"(أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ).
وَلَقَدْ تَسَابَقَ أُنَاسٌ فِي الْمُنَاسَبَاتِ وَالْوَلَاَئِمِ، وَرُبَّمَا كَلَّفُوا أَنْفُسَهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَ، وَتَحَمَّلُوا مِنَ الدُّيُونِ مَا لَا يَسْتَطِيعُونَ؛ حَتَّى أَرْهَقُوا أَنْفُسَهُمْ وَشَغَلُوا ذِمَمَهُمْ بِمَا لَا يَحْتَمِلُونَ، وَكَمْ تُهْدَرُ مِنْ أمْوَالٍ بِلَا دَاعٍ، وَكَمْ تَضَيعُ مِنْ نفَقَاتٍ بِلَا مُسَوِّغٍ!، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "إنِّي لَأُبْغِضُ أَهْلَ بَيْتٍ يُنْفِقُونَ رِزْقَ أَيَّامٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ".
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَاعْمَلُوا بِطَاعَتِهِ، وَاحْذَرُوا سَخَطِهِ وَمَعْصِيَتِهِ، الَّلهُمَّ أَلْهِمْنَا شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَدَوَامَ عَافِيَتِكَ، وَجَنِّبْنَا فُجَاءَةَ نِقْمَتِكَ وَجَمِيعَ سَخَطِكَ.
أقوُلُ قَوْلِي هَذَا، وَأسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلكُم وَلسَائرِ المُسلِمينَ مِنْ كُلِ ذَنْبٍ وَخطيئةٍ، فَاستغفِرُوهُ إنَّهُ هَوَ الغفورُ الرَحِيمُ.
الخُطبةُ الثَّانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَكَفَى، وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الذِينَ اصْطَفى.
وَبَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ، وَحَافِظُوا عَلَى النِّعْمِ مِنَ الزَّوَالِ، وَاعْمَلُوا فِيهَا بِالْحَلَالِ؛ تُؤْجَرُوا وَتُرْزَقُوا، وَيُبَارَكْ لَكُمْ فِيهَا، وَإِيَّاكُمْ وَالإِسْرَافَ وَالتَّبْذِيرَ، وَاحْذَرُوا الْإِمْسَاكَ وَالتَّقْتِيرَ، فَكِلَاهُمَا مُخَالِفٌ لِشَرْعِ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ.
هَذَا، وَصَلُوا وَسَلَّمُوا عَلَى نَبِيّكُمْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ؛ امتِثَالاً لِأَمَرِ رَّبِّكُمْ -جَلَّ فِي عُلاهُ-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ الْأَطْهَارِ وَصَحْبِهِ الْأَبْرَارِ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ.
الَّلهُمَّ أعِزَّ الإسْلامَ وَالمُسلِمينَ، وَاجْعلْ هَذَا البلدَ آمنًا مُطمَئنًّا وَسَائرَ بِلادِ المُسْلِمينَ، الَّلهُمَّ وَفِّقْ خَادِمَ الحَرَمينِ الشَرِيفَينِ، وَولِيَ عَهدِهِ لمَا تُحبُ وترْضَى، يَا ذَا الجَلالِ والإكْرامِ.
عِبَادَ اللَّهِ: أُذكُرُوا اللَّهَ ذِكرَاً كَثِيرَاً، وَسَبِّحُوهُ بُكرَةً وَأَصِيلًا، وَآخِرُ دَعْوَانا أَنِ الحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم