الآداب الشرعية للرؤى والمنامات
عبدالرحمن سليمان المصري
الآداب الشرعية للرؤى والمنامات
الخطبة الأولى
الحمد للَّهُ الذي يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ، وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ، فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا ، أما بعد :
أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى فهي وصية الله للأولين والآخرين قال تعالى ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾.
عباد الله : جاءتْ الشريعةُ بحفظِ الدِّينِ ، والسُّموِّ بِالعقولِ والأفهامِ ، ونَأَتْ بِأَتْبَاعِها عنْ مَسَالكِ الضَّلالِ والأَوهامِ ، ومنْ نِعمِ اللهِ تَعالى على عِبادهِ ، وبَدَيعَ لُطفِهِ ، أنْ جَعَلَ البِشَاراتِ الَّتي تَحصُلُ بِطَريقِ الرُّؤيا ، يُطلِعُ عليهِ مَن يشاءُ من عبادِه في منامِهمْ ، فالرُّؤيا لها قَدرٌ عَظيمٌ ، وفِيها من المنافعِ ما اللهُ به عَليمٍ ، قال صلى الله عليه وسلم: " لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا المُبَشِّرَاتُ ، قَالُوا: وَمَا المُبَشِّرَاتُ ، قَالَ: الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ " رواه البخاري .
وليْس في هَذَا إرهاصٌ بادِّعاءِ النُّبوَّةِ ، ولكِنْ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ ، وبُشْرى لِمَنْ شاءَ مِن عِبادِهِ المُؤمِنينَ.
عباد الله : ورُؤىَ الأنبياءِ عليهم الصلاةُ والسلامُ ، وحْيٌ منَ اللهِ لهمْ دُونَ غيرِهمْ ، كمَا في رُؤيا إبراهيمَ ويُوسفَ عليهما السلامُ ، ونَبِيُّنا صلى الله عليه وسلم كانَ أولَ علاماتِ النُّبوةِ الرُّؤيا الصَّادقةِ ، وفي غَزوةِ بَدرٍ أَرَى اللَّهُ نبيَّهُ النَّصرَ في المنامِ ، وأصلُ تشريعِ الأذانِ إقرارٌ منَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لرُؤْيَا رآها الصَّحابيُّ عبدُ اللهِ بنُ زيدٍ رضي الله عنه.
عباد الله : وأما رُؤْيَا بَقيِّة البَشرِ فَهِيَ على ثَلاثةِ أَنواعٍ ، واحدةٌ مِنهنَّ حقٌّ لا بُدَّ من وُقُوعِها ، والاثْنَتَانِ إمَّا منَ الشَّيطَانِ ، وإِمَّا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ ، قالَ صلى الله عليه وسلم:" إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا الْمُسْلِمِ تَكْذِبُ ، وَأَصْدَقُكُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُكُمْ حَدِيثًا ، وَرُؤْيَا الْمُسْلِمِ جُزْءٌ مِنْ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ ، وَالرُّؤْيَا ثَلَاثَةٌ: فَرُؤْيَا الصَّالِحَةِ بُشْرَى مِنَ اللهِ ، وَرُؤْيَا تَحْزِينٌ مِنَ الشَّيْطَانِ ، وَرُؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ، فَإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ فَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ، وَلَا يُحَدِّثْ بِهَا النَّاسَ " رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم:" إِنَّ الرُّؤْيَا ثَلاثٌ :مِنْهَا أَهَاوِيلُ مِنَ الشَّيْطَانِ؛ لِيَحْزُنَ بِهَا ابْنَ آدَمَ ، وَمِنْهَا مَا يَهُمُّ بِهِ الرَّجُلُ فِي يَقَظَتِهِ فَيَرَاهُ فِي مَنَامِهِ ، وَمِنْهَا جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ " رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
عباد الله : والرُّؤْيَا الصَّالحةُ تَسُرُّ المُؤمنَ ولا تَغُرُّهُ ، وقدْ دَلَّتْ السُّنةُ النُّبويةُ لِمن رَأَى رُؤْيَا صَالحة : أنْ يحمدِ اللهَ عَليها، وأنْ يَستَبشِرَ بِهَا ، وأنْ يَتَحدَّثَ بِها لِمنْ يُحبَّ فقط ، ﴿يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً﴾.
عباد الله : وكَثْرَةِ الرُّؤَى وقِلَتِهَا لا يَعْنِي شَيئاً ، بل ذَلكَ رَاجعٌ لِأَحوالِ الشَّخصِ وأَعْمالهِ وتَفكِيرهِ ، ولا فَرقَ في صِحَّةِ الرُّؤْيَا وصِدقِها بينَ اللَّيلِ والنَّهارِ.
ومنْ عَلاماتِ الرُّؤْيَا الصَّادِقةِ : أنْ يَكونَ الرَّائِي مَعرُوفاً بِالصِّدقِ ، وأنْ يَعرفَ أوَّلهَا وآخِرَها، فلا تكونُ مُتَقطِّعةً لا تَرابُطَ بَينها ، وأنْ تَكونَ تَبشِيراً بِالثَّوابِ على الطَّاعةِ ، أو تَحذِيراً من المَعصِيةِ .
عباد الله : والرُّؤْيَا تَقعُ مِنَ المُسلمِ ، ومِنْ غيرهِ منْ أَهلِ الشِّركِ والعِصيانِ ، وقدْ عبَّرَ يُوسُفُ عليهِ السلامُ رُؤْيَا صَاحِبَيِ السِّجنِ فوَقَعَت .
وقدْ دَلَّتْ السُّنةُ لمِنْ رَأَى في مَنْامهِ شَيئاً يَكرَهُهُ : أنْ يَتعوَّذَ بِاللهِ منَ الشَّيطانِ ، وَيَتعوَّذَ بِاللهِ ممَّا رَأَى ، وأنْ يَنفُثَ عنْ يَسارهِ ثَلاثاً ، وأنْ يَتحوَّلَ عنْ جَنبِهِ ، وأَلَّا يَذكُرهَا لِأَحدٍ ، وإِذَا اسْتَيقظَ صَلَّى رَكعَتينِ ، فإِنْ التَزمَ العبدُ هَذهِ الآدابَ فإِنَّها لنْ تَضُرَّهُ ، قال النَّوَوِيُّ رحمه الله: وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِهَا ، أَجْزَأَهُ فِي دَفْعِ ضَرَرِهَا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى ، كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ الأَحَادِيثُ .أ.هـ .
عباد الله : وَليَحْذَرَ المسلمُ مِنَ الْخَوْضِ فِي هَذَا الْبَابِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ؛ فَإِنَّ تَعْبِيرَ الرُّؤَى مِنْ أَنْوَاعِ الفَتْوَى؛ قال تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾.
وَيَجِبُ الْحَذَرُ مِنْ الْمُعَبِّرِينَ الْجُهَّالِ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ فِي الْقَنَوَاتِ الْفَضَائِيَّةِ، أَوْ فِي وَسَائِلِ التَّوَاصُلِ، وَالَّذِينَ لَمْ يُعْرَفُوا بِعِلْمٍ وَلَا دِينٍ وَلَا تُقَى، فَيَسْتَغِلُّونَ الْبُسَطَاءَ بِقَصْدِ الشُّهْرَةِ وَأَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ.
فَيَجِبُ بَيَانُ خَطَرِهِمْ وَتَلَاعُبِهِمْ بِعَقَائِدِ النَّاسِ وَعُقُولِهِمْ؛ فمِنَ المُعَبِّرينَ منْ يُزيّن للنَّاسِ البِدعَ ، ويَستَدرِجَهمْ إِلى عِبادةِ القُبورِ .
ومِنَ المُعَبِّرينَ منْ يَكادُ يُوهمُ مُتابِعيهِ أنَّهُ يَعْلَمُ المُغَيّباتِ ، فَيَتَحَدَّثُ عَنْ المُستقبلِ بِصِيغةِ الجَازمِ المُستيقنِ ، ولَا يَعْلَمُ الغَيبَ إِلَّا اللهَ .
وكانَ الإمامُ ابنُ سيرينَ رحمه الله : ربُّما سُئلَ عنْ مِائةِ رُؤْيَا، فلا يُجيبُ فِيهِا بِشيءٍ، و يَقولُ للرَّائِي: اتقِ اللهَ وأحسِنْ في اليَقظةِ، فإِنَّهُ لا يَضرُّكَ مَا رَأيتَ في النَّومِ ، ويَقولُ: إنما أُجيبُ بالظنِ، والظنُّ يُخطئُ ويُصيبُ .أ.هـ .
ومِنَ المُعَبِّرينَ منْ يُفرِّقُ بينَ الأَزْواجِ ، أو بينَ الإِخوةِ والقَراباتِ ، وَمنِهُمْ منْ يُعَلِّقِ النَّاسِ بِالأَمَانِي والأَوْهَامِ ، أَلَا فَلَيَتَّقِ اللهَ الَّذِينَ يَتَصَدَّرُونَ لِتَعْبِيرِ الرُّؤَى ، وَهُمْ لَيْسُوا أَهْلًا لِذَلِكَ .
قِيلَ لِلْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ: أَيُعَبِّرُ الرُّؤْيَا كُلُّ أَحَدٍ ، فَقَالَ: أَيُلْعَبُ بِالنُّبُوَّةِ ، ثُمَّ قَالَ: الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ فَلَا يُلْعَبْ بِالنُّبُوَةِ . أ.هـ
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ على إِحسانِهِ ، والشُّكرُ لهُ على تَوفِيقهِ وامتِنانهِ ، وأَشْهدُ أنْ لَا إِلهَ إِلا اللهُ وحْدهُ لا شَريكَ لهُ ، وأَشْهدُ أنَّ مُحمداً عبدهُ ورَسولُهُ ، صَلّى اللهُ عَليهِ وعَلى آلهِ وصَحبهِ ، وسَلَّمَ تسليماً كثيراً ، أمَّا بعدُ :
عباد الله: الدِّينُ كَمُلَ بِمَوتِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، والرُّؤْيَا لا يَثبتُ بِها شَيءٌ منَ الأَحكَامِ ، وقدْ افْتُتِنَ كَثيرٌ منَ النَّاسِ بِالمنَامَاتِ ، وتَعَلَّقتْ قُلوبُهم بِتَعبِيرهَا ، ورَاحُوا يَبذُلُونَ الأَوقاتَ والأَموالَ منْ أَجلِ البَحثِ عنْ تَفسِيرهَا ، فَرَاحُوا يَسْأَلُونَ المُعَبِّرينَ في كُلِّ صَغِيرةٍ وكَبِيرةٍ ، فَنَتَجَ عنْ ذَلكَ ؛ ضَعْفٌ في التَّوكُلِ على اللهِ تعالى ، وَفَسادُ البُيُوتِ ونُشُوءِ الخِلافَاتِ والعَدَاواتِ .
وصَارَ بَعْضُهُمْ يَبْنِي عَلَى مَا يَرَاهُ فِي مَنَامِهِ ، أَحْكَاماً وَيَعْقِدُ عَلَيْهِا آمَالًا ، وَقَدْ يَكُونُ مَا رَآهُ فِي نَوْمِهِ لَا يَتَعَدّى حَدِيثَ النَّفْس أَوْ أَهَاوِيلٌ مِنَ الشَّيْطَانِ.
عباد الله: والمُعبِّرُ إنَّما يَكشفُ حَقِيقةَ مَا دَلَّتْ عَليهِ الرُّؤْيَا، وقَدْ يُصِيبُ وقدْ يُخطئُ ، قالَ صلى الله عليه وسلم لِأبِي بَكرٍ رضي الله عنه بَعدَ تَعْبيرِهِ لِرُؤْيَا: " أَصَبْتَ بَعْضاً وَأَخْطَأْتَ بَعْضاً "رواه البخاري.
ومَن رَغِبَ في تعبيرِ رُؤْيَاهُ ، فَليَسْأَلَ العَالمَ النَّاصحَ ؛ فإِنْ عَلمَ خَيراً قَالَهُ ، وإِنْ جَهِلَهُ أو شَكَّ فِيهِ قالَ خَيراً واعْتَذرَ ، وأَرْشَدَ صَاحِبَ الرُّؤْيَا إِلى مَا يَنْفَعُهُ في أُمُورِ دِينهِ ودُنْياهُ ، ولَا يَكُنْ المِعْيَارُ في اخْتِيَارِ المُعَبِّرْ هوَ الشُّهرةَ والتَّصدُرَ في وَسَائِلِ الاتِّصَالِ.
قال تعالى:﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾الإسراء:36.
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه ، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾
المرفقات
1737706921_الأداب الشرعية للرؤى والمنامات.docx
1737706922_الأداب الشرعية للرؤى والمنامات.pdf