الإحصاء في القرآن الكريم والسنة النبوية: أبعاد ودلالات
د مراد باخريصة
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أحصى كل شيء عددًا، سبحانه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، لا يضل ربي ولا ينسى، نحمده ونشكره، ونتوب إليه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بعثه الله رحمة للعالمين، هاديًا ومبشرًا ونذيرًا.
أما بعد: فأوصيكم –أيها الإخوة– ونفسي المقصّرة بتقوى الله تعالى، فإنها وصية الله للأولين والآخرين، قال الله عز وجل:
﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ [النساء: 131].
أيها المسلمون: إن من عظمة القرآن الكريم وبلاغته، أنه لم يترك بابًا من أبواب الحياة إلا وتحدث عنه، توجيهًا أو تقريرًا أو تحذيرًا.
ومن المجالات التي أشار إليها القرآن بقوة، مجال الحساب والإحصاء، وكرر لفظ العدد والمعدود، والحساب، والعدد، والأجل، والميقات، والميزان، والإحصاء في مواضع كثيرة من كتابه العظيم.
وإذا تأملنا في هذه الإشارات، وجدنا أن الحساب والإحصاء في القرآن الكريم له أبعاد عظيمة منها:
البعد الإيماني – فقد ذكر الله في القرآن الإحصاء الإلهي المحيط بكل شيء، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا﴾ [النبأ: 29]، وقال: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49]، وقال: ﴿وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ * فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [الزخرف: 84-85].
وهذا يدل على أن الله عز وجل لا يغيب عنه شيء، يعلم دقائق الأمور، ويحفظ أعمال الخلق، ويحصي أنفاسهم وخطواتهم، ونياتهم وأعمالهم، بل قال سبحانه في موقف يوم القيامة: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا﴾ [الكهف: 49].
فالمؤمن إذا علم أن الله يحصي عليه كل شيء، كان ذلك أدعى لرقابة النفس، ومحاسبة الضمير، وتقوى الله في السر والعلانية.
ومن أبعاد الحساب والإحصاء في القرآن الكريم البعد التشريعي في الحساب كأداة لتنظيم حياة الناس.
لقد استخدم القرآن الكريم الأرقام والإحصاء في تشريع أحكام دقيقة، ومن ذلك: المواريث، كما قال تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ [النساء: 11]، وقال في الفرائض: ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾، وغيرها من التفاصيل العددية التي لا تتحقق إلا بالحساب الدقيق.
وشرع الإحصاء والحساب في العدة للنساء فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: 228]، وقال: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ [الطلاق : 4].
وكذلك الديات والكفارات كما قال الله ﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ﴾، وقال: ﴿فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾، وهذه كلها أرقام محددة، تدل على أن الإسلام دين نظام، ودين ضبط وعدالة، لا يقوم على التخبط أو العشوائية.
ومن أبعاد الحساب والإحصاء في القرآن الكريم البعد الحضاري، فالإحصاء وسيلة للنهضة والتنمية كما قال تعالى عن الشهور: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ [التوبة: 36]، وقال: ﴿لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ [يونس: 5]
فأشار القرآن الكريم إلى التقويم الزمني، والحساب الفلكي، وتنظيم الوقت، وهي أدوات لا غنى عنها في الزراعة، والعبادة، والحياة المدنية.
بل حتى في قصة أصحاب الكهف، قال: ﴿فَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا﴾ [الكهف: 25]، وذكر تعالى عدد حملة العرش، وعدد خزنة جهنم، وعدد ما يُقسم من الغنائم، كل ذلك لتأكيد دقة هذا الدين وشموليته.
فما أحوج أمتنا اليوم أن تعيد الاعتبار للعلم، وللإحصاء، وللأرقام الدقيقة، في خططها ومشروعاتها.
فلا تنمية بلا إحصاء، ولا زكاة بلا حساب، ولا عدالة بلا أرقام، ولا تقدم بلا معرفة دقيقة للواقع.
وقد بدأت كثير من الدول والمؤسسات الإسلامية تتجه إلى تحسين الإحصاءات السكانية، ومتابعة الاقتصاد، وتقييم الأداء بالدقة العددية، وهو ما أقره الشرع من قبل، وأكده القرآن الكريم كثيرًا.
فعلّموا أبناءكم الحساب، وازرعوا فيهم الدقة والنظام، وحببوا إليهم مادة الحساب والرياضيات، ولا تحتقروا الأرقام، فإنها لغة التقدم.
وظفوا الإحصاء في المشروعات الخيرية، واضبطوا الزكاة بالأرقام لا بالتقديرات، وتابعوا أداء أعمالكم بالدقة والأرقام لا بالأمزجة والأهواء.
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يونس : 5]، ويقول سبحانه: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء : 12].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ..
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد، أيها المسلمون:
إن من دلائل عظمة هذا الدين وشموليته أنه اعتنى بكل جوانب الحياة: الروحية والعقلية والمادية، وشرع للمسلمين ما يحفظ دينهم ودنياهم، ومن ذلك ما نجده في سنة نبيّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم من إشارات واعية وتوجيهات واضحة في مجال الحساب والإحصاء.
قد يظن بعض الناس أن الحساب والإحصاء علوم مادية لا صلة لها بالدين، بينما في الحقيقة هما جزء من أدوات الشريعة في إقامة الحق، وتحقيق العدالة، وحفظ الحقوق، وتدبير الموارد، وتنظيم الحياة العامة، ومراقبة أداء الدولة والمجتمع.
ومن السنة النبوية نستلهم إشارات بليغة في هذا الباب، فقد أحصى المسلمون عدد أهل بدر، فعن البراء رضي الله عنه، قال: " كنا نتحدث: أن أصحاب بدر ثلاث مائة وبضعة عشر، بعدة أصحاب طالوت، الذين جاوزوا معه النهر، وما جاوز معه إلا مؤمن" [رواه البخاري] ، وأمر بإحصاء المقاتلين في الغزوات، وسأل عن أعداد الجيوش، وعدد من أسلموا، وعدد النساء والرجال.
وفي هذا تطبيق عملي لما يسمى اليوم بالإحصاء السكاني، وهو من أساسيات التخطيط في الدول. فالدولة التي لا تعلم كم عدد سكانها، ولا أعمارهم، ولا أحوالهم، لا يمكن أن تحقق التنمية، ولا أن تحسن توزيع الموارد.
كما اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم بالحساب في المعاملات والميراث، فقد كان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الحساب لأجل تقسيم المواريث بدقة، وهو ما يعرف بعلم "الفرائض". بل وصف بأنه "نصف العلم" – لأنه لا يُعمل به إلا بعد موت أحدهم، ويدور على العدل التام في تقسيم المال، يقول النبي ﷺ: "اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله، فما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر" [رواه مسلم].
وهذا العلم لا يتم إلا بالحساب الدقيق، ومعرفة النسب والأنصبة، وهو باب من أبواب الفقه، يقوم على علوم رياضية.
كما جاء الأمر بالضبط في الحساب في العبادة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يراعي العدّ في العبادات: عدد الركعات، عدد التسبيحات، عدد التكبيرات، عدد الأيام في صيام رمضان، وعدد السنوات في كفارات الصيام، حتى أن القرآن الكريم قال عن عدة الشهور: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ [التوبة: 36].
وفي حديث عن الحج قال: "خذوا عني مناسككم"، ومن المناسك عدد الأشواط، وعدد الرمي، وعدد الليالي، وكلها أمور دقيقة لا تستقيم إلا بالحساب.
عباد الله: إن الأمم اليوم تبنى بالعلم والمعرفة، والعالم المتقدم لا ينهض إلا بإحصاءات دقيقة، ومؤشرات تنموية مبنية على الأرقام، حتى أصبحت الدول تقاس اليوم بـ"نسب القراءة، نسب البطالة، متوسط الدخل، نسبة التضخم، النمو السكاني، نسبة الإنفاق على التعليم"... وكلها تعتمد على علم الإحصاء.
فكيف بدولة أو مؤسسة إسلامية تريد النهوض ولا تعتمد على هذه الوسائل؟
وكيف لمجتمع يريد تنظيم الزكاة أو الصدقات أو الأوقاف أو الإسكان أو التوظيف دون دراسات عددية دقيقة؟
وقد دعت الهيئات الشرعية والمجالس الفقهية إلى ضرورة اعتماد "الإحصاء الشرعي"، في مسائل الوقف، والزكاة، والصدقات، وتوزيع الميراث، وحساب الحاجات المجتمعية لأن من أسباب فقر بعض مجتمعات المسلمين أنهم لا يعرفون أين الخلل، ولا كم عدد المحتاجين، ولا ماذا يملكون، ولا كيف يخططون؟.
فتعلموا الحساب، وعلموا أبناءكم الإحصاء، وشجعوا المؤسسات على استخدام البيانات، وطالبوا بالشفافية الرقمية، ووظفوا الخبراء في هذا المجال لخدمة الدين والمجتمع.
فالإحصاء ليس ترفًا علميًّا، بل هو فريضة حضارية ووسيلة شرعية لضبط المعاملات وتحقيق العدالة.
وصلوا وسلموا على من بُعث معلمًا ومربيًا، فصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه.
المرفقات
1754581957_الإحصاء في القرآن الكريم والسنة النبوية أبعاد ودلالات.doc