العبادات القلبية
عبدالرحمن محمد صالح الحمد
روى مسلم رحمه الله في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال (إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم) اعلموا رحمكم الله تعالى أن الله جلت قدرته وتعالت عظمته قد شرع لعباده عبادات بدنية جسمية كالصلاة والصيام وعبادات مالية كالزكاة والصدقات، وعبادات قلبية، فالقلوب لها عباداتها التي تسبق عبادة الجسم، وأهم وأعظم العبادات القلبية حب الخير للمسلمين وخير مثال على ذلك ماورد عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو أثر صحيح حيث قال: لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجهم. إن أعظم رجل وأفضل إنسان في أمة محمد ﷺ بعد نبيها محمد ﷺ هو صاحبه أبوبكر الصديق رضي الله تعالى عنه وأرضاه فلقد فاق أبوبكر الأمة في الفضل وتقدم عليها في المكانة وسبقها في المنزلة. علماً أنه رضي الله عنه وأرضاه مات على فراشه ومع ذلك فهو أفضل من الشهداء الذين سالت دماؤهم في سبيل الله تعالى وهم الذين أرخصوا أموالهم ودماءهم لترتفع راية لا إله إلا الله راية الإسلام، ولم يكن أبوبكر الصديق رضي الله عنه من مشاهير قراء القرآن الكريم ولكنه فاقهم جميعاً في المنزلة والمرتبة والمكانة، ولم يتفرغ رضي الله تعالى عنه وأرضاه لتعليم الفقه والتفسير كعلماء الصحابة ومع ذلك فهو أعظم عند الله منهم، ولم يكن مكثراً من رواية الأحاديث كأبي هريرة وابن عمر وأنس بن مالك وأم المؤمنين عائشة ﭫ ومع ذلك فهو عند الله أفضل منهم وإن كان أقل منهم رواية للأحاديث فما الذي أوصله رضي الله تعالى عنه إلى تلك المراتب العالية والمنازل الرفيعة والمكانة السامية؟ لقد كشف لنا السر أحد سلفنا الصالح ألا وهو بكر بن عبد الله المزني رحمه الله حيث قال:(ماسبقهم يعني أبوبكر بكثرة صلاة ولا صيام ولكنه سبقهم بشيء وقر في قلبه)، وهو يعني الإيمان بالله والإخلاص. القلوب التي ملئت بالإيمان بالله تعالى ترخص أموالها وأنفسها لتنفق ذلك كله في سبيل مرضاة ربها، وهذا هو الذي كان يفعله أبوبكر الصديق رضي الله عنه وهذا هو الذي يدعوه للعمل الصالح والسباق إليه والمسارعة والمبادرة.
أيها المسلمون:
في غزوة تبوك التي تبلغ المسافة بينها وبين المدينة سبعمائة كيلو والسفر الشاق بسبب الحر وقلة الطعام والشراب بقي في المدينة أناس لم يشاركوا في الغزوة وأجرهم كأجر الغزاة إنهم أناس ينامون على فرشهم وهم يتقلبون ويتأوهون حسرة على ضياع فرص الخير أمامهم وهم يجدون أنفسهم قاصرين عن بلوغها لفقر أو مرض أو عجز فتسيل دموعهم على خدودهم من الحرص على المشاركة بعمل الخير والبذل والعطاء فتأتيهم البشارة العظيمة من الرب تبارك وتعالى بأن الأجر قد حصل لهم وهم على سررهم نائمين فقد كتب الله لهم أجر الباذلين وهم لم يدفعوا ريالاً واحداً إلا أن قلوبهم عامرة بحب الله والرغبة فيما عنده. روى البخاري عن أنس رضي الله عنه فقال: (إن بالمدينة أقواماً ماسرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم قالوا: يارسول الله وهم بالمدينة؟ قال: (وهم بالمدينة حبسهم العذر)، وحين يمتلئ قلب المسلم بحب عباد الله الصالحين المنفقين فإنه يرجى له الخير حتى ولو لم يبذل من ماله شيئاً. وروى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: يارسول الله كيف تقول في رجل أحب قوماً ولم يلحق بهم؟ فقال رسول الله ﷺ : (المرء مع من أحب)، وروى مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: متى الساعة يا رسول الله؟ قال: ما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولاصوم لاصدقة ولكني أحب الله ورسوله قال : أنت: (مع من أحببت)رواه البخاري، قال أنس: فما فرحنا بعد الإسلام فرحاً أشد من قول النبي ﷺ : فإنك مع من أحببت قال أنس: فأنا أحب الله ورسوله، وأبابكر، وعمر، فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم) رواه مسلم لقد امتلأ قلب أنس حباً للدين ولله وللرسول ﷺ والمؤمنين وهكذا فإن الله عز وجل يكرم عباده المؤمنين الذين يحبون الدين وأهله ولاسيما والعلماء والصالحين والدعاة والمصلحين يكرمهم الله تبارك وتعالى بمنحهم الأجور العظيمة والدرجات العالية والمنازل الرفيعة، وأما أهل الفسق والفساد والفجور الذين تحمل قلوبهم بغضاً للخير أو الصلاح وتمتلئ حنقاً على الفضائل ومظاهر الخير فيخشى أن يكونوا في مصاف الذين يبذلون أموالهم وجهودهم لنشر الفساد والانحراف قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذينَ يُحِبّونَ أَن تَشيعَ الفاحِشَةُ فِي الَّذينَ آمَنوا لَهُم عَذابٌ أَليمٌ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعلَمُ وَأَنتُم لا تَعلَمونَ﴾ [النور: 19]
ويقول النبي ﷺ : (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) رواه البخاري ومسلم. النية أساس الفلاح، وعنوان النجاح إن صفت صفا العمل، وإن طابت طاب العمل، وإن حسنت قبل العمل، وإن ساءت النية ساء العمل وباء صاحبه بالفشل. بالنية الصالحة مع عدم القدرة على العمل قد يصل الإنسان إلى أعلى عليين: ﴿ فَعَلِمَ ما في قُلوبِهِم فَأَنزَلَ السَّكينَةَ عَلَيهِم ﴾ [الفتح: 18]
، وقال جابر رضي الله عنه كنا مع رسول الله ﷺ في غزاة فقال (إن بالمدينة رجالاً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم حبسهم المرض)، وفي رواية: (حبسهم العذر)، وفي رواية: (إلا شركوكم في الأجر) رواه البخاري ومسلم، وروى البخاري أن رسول الله ﷺ قال: (إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمل وهو صحيح مقيم) المسلم وهو ينوي الخير ويحتسب الأجر يكون وقته عبادة، وعمره طاعة، وسائر أفعاله قربة، وعاداته تتحول إلى عبادات يقول أحد السلف ‘: (إني لأحتسب على الله نومتي كما أحتسب قومتي) فهو إذا نام ينوي أن يريح جسمه وأن يكون على استعداد لأداء ما افترض الله عليه فهو ينوي صلاة الفجر إذا نام في الليل فلولا توفيق الله له بالنوم لما استطاع أن يقوم من نومه فإذا قام أثناء الليل للتهجد والذكر وقراءة القرآن فهو محتسب في حال يقظته وإذا نام فهو محتسب أيضاً فقد ملأ وقته إما بالعبادة، وإما بالنية الحسنة، ومثل النوم في الاحتساب العادات الأخرى كالأكل والشرب والترويح عن النفس بل حتى في قضاء الشهوة بما أباح الله تعالى وأحله يقول رسول الله ﷺ : (وفي بضع أحدكم صدقة) قالوا: يارسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: (أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) رواه مسلم.
***
المرفقات
1745410056_العبادات القلبية.docx