الوالدان أَيْقونة حَياتك فلا تُطْفئها

adnan khatatbeh
1446/11/11 - 2025/05/09 07:41AM

خطبة بعنوان

الوالدان أَيْقونة حَياتك فلا تُطْفئها

إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لاإله إلا الله وحد لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله، وبعد:

أيها المؤمنون بلقاء الله العظيم:

سيبقى قول ربنا الخالد في كتابة، المستمر في أزمان كل وجود الأبوين والأبناء، هو أعظم ما تم تسجيله في كتب السماء والأرض، وأقوى ما يتم سماعه في آذان البشرية على مر الأجيال، ذلكم هو قول ربنا جل ثناؤه في سورة الإسراء: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحسانا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا).

ماذا يقول ربنا جل ثناؤه: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحسانا)، الله أكبر حقا، لم يختر الله من كل مكونات البشرية، ومن كل مكونات خلقه في الأرض وفي السماء، ومن كل مكوناته من عالم الغيب والشهادة، أحدا ليقرنه بحق عبوديته، إلا الوالدين، ولا أحد غيرهما، وقدّم هذا الاقتران بعبارة ضخمة قوية مؤثرة شديدة الوقع يقول للأبناء فيه (وَقَضَى رَبُّكَ)، ردّدْها أيها الابن في نفسك مرارا، لكي يتجلى لك عظمة الوالدين في خطاب ربك سبحانه، فتجعل منهما أيقونة حياتك المنيرة والوضّاءة.

أيها المؤمنون بلقاء الله العظيم:

إن خطاب الله عن الوالدين ليس كخطاب أهل الأرض وليس كمسودات حقوق الإنسان أبدا، بل هو خطاب يحمل معه الإيمان والطاعة والجنة والنار والصدق والحق والعدل والإكرام والحساب، فتدبّر كلام ربك عن الوالدين؛ لأنه سيحول الوالدين في حياتك إلى أجمل أيقونة تنظر إليها وتحتفظ بها وتكرمها وترفعها وتصونها وتمنع عنها كل إيذاء وضرر وألم.

نعم، يقول مولانا جل ثناؤه:

(وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحسانا):

معنى (وقضى رَبُّكَ) أي: أمر أمراً جزماً، وحكماً قطعاً، وحتماً مبرماً (أَن لاَّ تَعْبُدُواْ) أي: بأن لا تعبدوا، ثم أردفه بالأمر ببرّ الوالدين فقال: (وبالوالدين إحسانا) أي: وقضى بأن تحسنوا بالوالدين إحسانا.

انظروا الى الآية جيدا: أردف الله بعد القضاء بعبادته وبتوحيده بالإحسان للوالدين لماذا؟

إن الله قد جعل هنا، الإحسان إلى الأبوين قريناً لتوحيده وعبادته وذلك من أجل تأكيد حقهما وللعناية بشأنهما.

وقد قرن الله بين حقه وبين حق الوالدين في أكثر من موضع:كقوله في سورة النساء: (واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إحساناً)، وقوله في البقرة : (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله وبالوالدين إحساناً، وقوله في سورة لقمان: (أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصير)، وذلك ليس عبثا، أيها الأبناء، هذه آيات الله، هذه أحكام أحكم الحاكمين، وهذا تشريع رب العالمين، وهذه عناية الخالق الكريم، ليقول لك أيها الابن وأيتها الابنة:

إن إحسانك إلى والديك هو أمر رباني، فافهم هذا واعقله جيدا، إن معاملتك الحسنة لوالديك حق لهما، أعطاهما إياه ومنحهما إياه، ربّ العزة من فوق سموات سبع، لا إله إلا هو،.فليس إحسانك أيها الابن وأيتها الابنة، إلى والديك في ميزان الشرع، هو مِنّة منك، ولاتفضّل منك، ولاجميلة منك، ولا نافلة منك، ولا إنسانية منك، بل هو ديانة وشرعة إلاهية، فإن أحسنت كوفئت أجزل المكافأة، وإن كانت الأخرى والعياذ بالله فتدبر أمرك مع قضى ما قضى، يوم أن تلقاه سبحانه.

أيها المؤمنون بلقاء الله العظيم:

ثم يقول مولانا جل ثناؤه في أعظم نص في الوالدين على الإطلاق في كتابه العزيز:

(إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا)

 ماذا يقول لك رب العالمين أيها المؤمن بالله وبكتابه؟ (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ): الإحسان إلى الوالدين حق لهما، مطلوب من الأبناء في كل مراحل العمر، ولكن الله الكريم، الودود، البر الرحيم، علّام الغيوب، خصّ مرحلة الكِبر والتقدّم بالعمر، بمزيد من العنابة والرعاية التكريمية للوالدين، والتحذير من جفائهما، وذلك لسببين:

السبب الأول: لشدة حاجة الوالدين لرعاية أبنائهما  في تلك المرحلة العمرية التي وهن العظم فيها واشتعل الرأس شيبا، تماماكما كانت شدة حاجتك أيها الابن وأيتها الابنة إلى رعاية والديك لك في مرحلة صغر عمرك وطفولتك، لضعفك وقلة حيلتك.

والسبب الثاني: لتثقاقل الأبناء من الوالدين في مرحلة تقدمها في الين وكبرهما، وتغير أحوالهما وطباعهما وصحتهما،ولا نشغال الأبناء بحياتهما الخاصة والعائلية الجديدة.

ولكن، أيها المؤمن، وأيتها المؤمنة، هنا، يأمرك الله، أمرا قويا ظاهرا صريحا، بأن الله ترعى والديك في مكبرهما وتقدمهما في العمر، وتحذر كل الحذر من أن تظهر الضجر من خدمتهما، وتأمّل معي بماذا خطاب ربك الأبناء جميعا، ماذا قال لهم؟ وانظر ماذا قال: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ)، عندك (بصيغة المفرد)، ولم يقل عندكم (بصيغة الجمع)، بل أفرد ليقول لك: إن كل فرد من أفراد العائلة مسؤول عن ذلك، مسؤولية كاملة، ومنفردة، بغض النظر عن موقف الاخرين من إخوته وأخواته، وإن كل فرد من الأسرة يتحمل المسؤولية كما لو كان هو الابن الوحيد لهما.

أيها المؤمن وأيتها المؤمنة:

هنا، وفي خضم التعامل مع الوالدين في مختلف مراحل أعمارهما، خاصة مراحل التقدم في العمر، يقول لك ربك محذرا وناهيا لك عن أي موقف قولي أو حركي وفعلي، مؤذي لوالديك: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا)، أي:لا تقل لأي منهما لا في حالة اجتماعهما  ولاانفرادهما. استمع ايها الابن دكرا كنت أم انثى، صغيرا كنت أم كبيرا، متزوجا أم أعزبا، يقول لك الله محذرا مشددا مخوفا ناهيا(فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا)، (أفْ): أقل الإيذاء لهما بالكلام، وقال العلماء: أصله: أنه إذا سقط عليه تراب ونحوه نفخ فيه ليزيله، فالصوت الحاصل عند تلك النفخة هو قول القائل: أفّ، فما بالك بمن يسبهما ويهينهما، أترى ربّ لم يسامح في أف تقولها في وجه والديك، سيسامحك أيها الابن وايتها الابنة في سبّ والدين وفي إهانة والديك.

ثم بعد النهي عن الإيذا القولي واللساني، عن ماذا نهاك ربك في تعاملك مع والديك، نهاك عن الإيذاء الفعلي والحركي والحسي، فقال لك: (وَلَا تَنْهَرْهُمَا)..والنهر أقل الايذاء بالحركة ،كأن تنفض يدك في وجوهما ضجرا منهما، فكيف إذا مددت يدك عليهما؟ كيف إذا خرجت من إنسانيتك ومددت يدك اللئيمة النجسة لتضرب أمّك التي حملتك في بطنها وهنا على وهن، أو لتضرب أباك الشيبة الذي حرم نفسه من متع الحياة ليسعدك، تمتد يدك هذه لتسيء إلى والديك، يدك هذه التي تسيء بها لوالديك، لطالما سهر أبوك وسهرت أمك، من أجل أن تكبر هذه اليد وتنمو وتتعلم وتشتغل بها وترزق بها وتعيش حياة كريمة، لا لتهينهما بهذه اليد اللئيمة، لا لأن تمتد هذه اليد لتسيء لمن أطعماك الرزق الحلال .إياك ثم إياك من إيذاء الوالين، إياك من إيذاء الولدين اللذين تولّى الله بنفسه الدفاع عنهما وتعظيم شأنهما....

قال ابن كثير: "وَقَوْلُهُ: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) أَيْ: لَا تُسْمِعْهُمَا قَوْلًا سَيِّئًا، حَتَّى وَلَا التَّأْفِيفَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى مَرَاتِبِ الْقَوْلِ السَّيِّئِ (وَلا تَنْهَرْهُمَا) أَيْ: وَلَا يَصْدُرْ مِنْكَ إِلَيْهِمَا فِعْلٌ قَبِيحٌ، كَمَا قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ فِي قَوْلِهِ: (وَلا تَنْهَرْهُمَا) أَيْ: لَا تَنْفُضْ يَدَكَ عَلَى وَالِدَيْكَ".

أيها المؤمنون بلقاء الله العظيم:

ثم يقول مولانا جل ثناؤه في أعظم نص في الوالدين على الإطلاق في كتابه العزيز:

(وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا).

قال ابن كثير في فقه الإحسان إلى الوالدين كما أمرنا به رب العالمين: "وَلَمَّا نَهَاهُ عَنِ الْقَوْلِ الْقَبِيحِ وَالْفِعْلِ الْقَبِيحِ، أَمَرَهُ بِالْقَوْلِ الْحَسَنِ وَالْفِعْلِ الْحَسَنِ فَقَالَ: (وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا) أَيْ: لَيِّنًا طَيِّبًا حَسَنًا بِتَأَدُّبٍ وَتَوْقِيرٍ وَتَعْظِيمٍ. (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) أَيْ: تَوَاضَعَ لَهُمَا بِفِعْلِكَ (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا) أَيْ: فِي كبرهما وعند وفاتهما (كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)".

وقال ابن عاشور في توضيح عمق درجة الإحسان للوالدين التي تضمنها خطاب الرحمن هذا: "ثُمَّ أَمَرَ بِإِكْرَامِ الْقَوْلِ لَهُمَا. وَالْكَرِيمُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ: الرَّفِيعُ فِي نَوْعِهِ.  وَبِهَذَا الْأَمْرِ انْقَطَعَ الْعُذْرُ بِحَيْثُ إِذَا رَأَى الْوَلَدُ أَنْ يَنْصَحَ لِأَحَدِ أَبَوَيْهِ أَو أَن يحذر مِمَّا قَدْ يَضُرُّ بِهِ أَدَّى إِلَيْهِ ذَلِكَ بِقَوْلٍ لَيِّنٍ حَسَنِ الْوَقْعِ.

ثُمَّ ارْتَقَى فِي الْوِصَايَةِ بِالْوَالِدَيْنِ إِلَى أَمْرِ الْوَلَدِ بِالتَّوَاضُعِ لَهُمَا تَوَاضُعًا يَبْلُغُ حَدَّ الذُّلِّ لَهُمَا لِإِزَالَةِ وَحْشَةِ نُفُوسِهِمَا إِنْ صَارَا فِي حَاجَةٍ إِلَى مَعُونَةِ الْوَلَدِ، لِأَنَّ الْأَبَوَيْنِ يَبْغِيَانِ أَنْ يَكُونَا هُمَا النَّافِعَيْنِ لِوَلَدِهِمَا. وَالْقَصْدُ مِنْ ذَلِكَ التَّخَلُّقُ بِشُكْرِهِ عَلَى إِنْعَامِهِمَا السَّابِقَةِ عَلَيْهِ.

وَصِيغَ التَّعْبِيرُ عَنِ التَّوَاضُعِ بِتَصْوِيرِهِ فِي هَيْئَةِ تذلل الطَّائِر عِنْد مَا يَعْتَرِيهِ خَوْفٌ مِنْ طَائِرٍ أَشَدَّ مِنْهُ إِذْ يَخْفِضُ جَنَاحَهُ مُتَذَلِّلًا.

وَالتَّعْرِيفُ فِي الرَّحْمَةِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ مِنْ رَحْمَتِكَ إِيَّاهُمَا. وَ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيِ الذُّلِّ النَّاشِئِ عَنِ الرَّحْمَةِ لَا عَنِ الْخَوْفِ أَوْ عَنِ الْمُدَاهَنَةِ. وَالْمَقْصُودُ اعْتِيَادُ النَّفْسِ عَلَى التَّخَلُّقِ بِالرَّحْمَةِ بِاسْتِحْضَارِ وُجُوبِ مُعَامَلَتِهِ إِيَّاهُمَا بِهَا حَتَّى يَصِيرَ لَهُ خُلُقًا.

وَهَذِهِ أَحْكَامٌ عَامَّةٌ فِي الْوَالِدَيْنِ وَإِنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ، وَلَا يُطَاعَانِ فِي مَعْصِيَةٍ وَلَا كُفْرٍ كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ. وَمُقْتَضَى الْآيَةِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ فِي الْبِرِّ وَإِرْضَاؤُهُمَا مَعًا فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ مَوْرِدَهَا لِفِعْلٍ يَصْدُرُ مِنَ الْوَلَدِ نَحْوَ وَالِدَيْهِ وَذَلِكَ قَابِلٌ لِلتَّسْوِيَةِ.

ثُمَّ أُمِرَ بِالدُّعَاءِ لَهُمَا بِرَحْمَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمَا وَهِيَ الرَّحْمَةُ الَّتِي لَا يَسْتَطِيعُ الْوَلَدُ إِيصَالَهَا إِلَى أَبَوَيْهِ إِلَّا بِالِابْتِهَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا قَدِ انْتَقَلَ إِلَيْهِ انْتِقَالًا بَدِيعًا مِنْ قَوْلِهِ: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ فَكَانَ ذِكْرُ رَحْمَةِ الْعَبْدِ مُنَاسِبَةً لِلِانْتِقَالِ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ التَّخَلُّقَ بِمَحَبَّةِ الْوَلَدِ الْخَيْرَ لِأَبَوَيْهِ يَدْفَعُهُ إِلَى مُعَامَلَتِهِ إِيَّاهُمَا بِهِ فِيمَا يَعْلَمَانِهِ وَفِيمَا يَخْفَى عَنْهُمَا حَتَّى فِيمَا يَصِلُ إِلَيْهِمَا بَعْدَ مَمَاتِهِمَا. وَفِي الْحَدِيثِ (إِذا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، وَعِلْمٍ بَثَّهُ فِي صُدُورِ الرِّجَالِ، وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ بِخَيْرٍ).

وَفِي الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الدُّعَاءَ لَهُمَا مُسْتَجَابٌ لِأَنَّ اللَّهَ أَذِنَ فِيهِ. وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ مُؤَيِّدٌ ذَلِكَ إِذْ جَعَلَ دُعَاءَ الْوَلَدِ عَمَلًا لِأَبَوَيْهِ. وَحُكْمُ هَذَا الدُّعَاءِ خَاصٌّ بِالْأَبَوَيْنِ الْمُؤْمِنَيْنِ بِأَدِلَّةٍ أُخْرَى دَلَّتْ عَلَى التَّخْصِيصِ".

ايها الأخوة الفضلاء:

أحزنني موقف قبل أيام في برنامج بثه التلفزيون الأردني عن زيارة إلى دار المسنين، حيث عملوا لقاءات عدة مع بعضهم، وكان من بينهم أمّ مُسّنه، قالو لها ما تودّين قوله، فأخذت دموعها تنهمر، وتقول: أريد أولادي، قولو لهم يزوروني، يا أولادي والله مشتاقة لكم، تعالوا زوروني، بدي أشوفك (يمّه: أي يا ابني يا بنتي) ثم أسكتت الدموع صوتها، وبق الحزن في قلبها، ولكن أولادها اللئام لم تحرّهم دموع أمهم فيمسحوها، ولاحزنها فيسروها، لم تطالب هذه الأم على شاشة التلفاز، لا بمال ولابأكل، فهي لم تطلب ذلك، ولكن طالبتهم فقط بزيارتهم لها برؤيتها لهم. ولكنها الرحمة التي نزعت من القلوب فقست قلوب هؤلاء الأولاد، فهي كالحجارة أو أشد قسوه، ولكنه الغفلة عن آيات الله، ولكنها الغفلة عن وعيد الله، ولكنها الغفلة عن وعن وصية الله.

نعم الوالدان هم وصية الله، هم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبى الله إلا أن يجعل وصيته لعباده بالوالدين في القرآن تكريما لهما، ووعدا لمن يحسن إليهما، ووعيدا لمن يعقّهما، فتوّلى الله رب العالمين بنفسه التشريع في التعامل مع الوالدين.

أيها الابن العاق، وأيتها الابنة العاقة: لن أطيل الحديث كثيرا معكما، ولكن اصغ جيدا إلى رسول الله وهو يدافع عن والديك ويحذرك من إيذائهما، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (كُلُّ الذُّنُوبِ يُؤَخِّرُ اللَّهُ مَا شَاءَ مِنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا عُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَجِّلُهُ لِصَاحِبِهِ فِي الْحَيَاةِ قَبْلَ الْمَمَاتِ). هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.  لابد إن لم تتب، وإن لم يرض عنك والداك، ولم يسامحاك، لابد من أن تدفع الثمن، ولو في مكبرك حيث لا تجد من يأويك بل ولا من يقدّرك، وكما تدين تدان، فاحذر، فالديان لا يموت.

واحذر من دعاء الوالدين عليك، ففي مسند الإمام أحمد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَالصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ، وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاوَاتِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ). فدعوة والدة عليك أيها العاق قد تشتت حياتك، وعوة من والد أسأت له قد تفسد معيشتك ولا يكتب لك التوفيق حيثما وليّت وجهك؛ لأن غضب الله سيلاحقك، وفي الحديث الصحيح، في سنن الترمذي، عنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (رِضَى الرَّبِّ فِي رِضَى الوَالِدِ، وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ).

أيها المؤمنون والمؤمنات:

ولكن يبقى الخير في هذه الأمة، ويبقى أولئك الذين يرجون الله، أولئك الذين يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار، أولئك الذين يعرفون قدر الأب وقدر الأم،  يبقون هم الأكثر في هذه الأمة، وهم الأبقى والأوفى، وهم المصغون والمستمعون لقول ربنا جل ثناؤه: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحسانا)،

ويبقى في هذه الأمة الكثير من الأولاد والبنات المباركين الطيبين البارين، الذين يعظّمون سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ويأخذون بنصائحه، حينما يسمعونه يقول لهم كما في صحيح مسلم، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، أَنَّ نَاعِمًا، مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: أَقْبَلَ رَجُلٌ إِلَى نَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ، أَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنَ اللهِ، قَالَ: (فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ؟) قَالَ: نَعَمْ، بَلْ كِلَاهُمَا، قَالَ: (فَتَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنَ اللهِ؟) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا).

إن برّ الوالدين من أعظم القربات وأجل الطاعات، وببرهما تتنزل الرحمات وتكشف الكربات، فقد كان الحسن البصري يقول: (دعاء الوالدين ينبت المال والولد). وسئل الحسن: ما دعاء الوالد للولد؟ قال: (نجاة). وعنه أيضاً: (دعوة الوالد لا تحجب عن الله عز وجل).

أقول قولي هذا واستغفر الله.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

أيها المؤمن وأيتها المؤمنة:

حتى لو أساء والداك إليك أو إن كانت معاملتهما لك سيئة، فإن ذلك لايبرر عقوقك لهما، بل عليك أن تصبر وتحتسب، وتقوم بالحق الذي عليك، فبرّ الوالدين واجب حتى لو كانا مشركين، فكيف إذا كانا مؤمنين من أهل التوحيد، فقد بين الله  في القرآن أن برهما لازم، ولو كانا مشركين، بل وداعيين إلى شركهما، يقول تعالى: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)(لقمان،15). قال ابن كثير: "أَيْ: إِنْ حَرَصَا عَلَيْكَ كُلَّ الْحِرْصِ عَلَى أَنْ تُتَابِعَهُمَا عَلَى دِينِهِمَا، فَلَا تَقْبَلْ مِنْهُمَا ذَلِكَ، وَلَا يمنعنَّك ذَلِكَ مِنْ أَنْ تُصَاحِبَهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا، أَيْ: مُحْسِنًا إِلَيْهِمَا". وقال ابن كثير: "وَإِنْ حَرَصا عَلَيْكَ أَنْ تُتَابِعَهُمَا عَلَى دِينِهِمَا إِذَا كَانَا مُشْرِكَيْنِ، فَإِيَّاكَ وَإِيَّاهُمَا، لَا تُطِعْهُمَا فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ مَرْجِعَكُمْ إِلَيَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَجْزِيكَ بِإِحْسَانِكَ إِلَيْهِمَا، وَصَبْرِكَ عَلَى دِينِكَ، وَأَحْشُرُكَ مَعَ الصَّالِحِينَ لَا فِي زُمْرَةِ وَالِدَيْكَ، وَإِنْ كُنْتَ أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَيْهِمَا فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْمَرْءَ إِنَّمَا يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ مَنْ أَحَبَّ، أَيْ: حُبًّا دِينِيًّا".

وفي صحيح البخاري، عَنْ أَسْمَاءَ، قَالَ: قَدِمَتْ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ، فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ وَمُدَّتِهِمْ إِذْ عَاهَدُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ ابْنِهَا، فَاسْتَفْتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ وَهِيَ رَاغِبَةٌ؟ أَفَأَصِلُهَا؟ قَالَ: (نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ).

اللهم اجعل أعمالنا صالحة. واجعلها لوجهك خالصة.

المرفقات

1746765642_خطبة الوالدان أيقونة حياتك فلا تطفئها.doc

المشاهدات 21 | التعليقات 0