تفكُّراتٌ بين يدي الحج 4 ذو القعدة 1446

راشد بن عبد الرحمن البداح
1446/11/03 - 2025/05/01 07:50AM

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} أَمَّا بَعْدُ:([1])

 

حافلاتٌ تُجهَّزُ، وطائراتٌ تُحجَزُ، وبواباتٌ الكترونيةٌ تُفتَحُ، وقطاعاتٌ أمنيةٌ تُدرَّبُ، وإجراءاتٌ نظاميةٌ تُضبَطُ، ومئاتُ الملياراتِ تُرصَدُ، كلُّ هذا لأجلِ الركنِ الخامسِ من أركانِ الإسلامِ: حَجِ بيتِ اللهِ الحرامِ، ففي هذهِ الأيامِ المباركةِ تبدأُ تَهوِيْ الأفئدةُ المسلمةُ، إلى بقعةٍ شريفةٍ اختارَها ربُّنا لتكونَ عَرَصَاتُها مَحَلاً للمناسكِ، والعازمونَ على الحجِ يَحفِزُهم الأملُ فيما عندَ اللهِ؛ أن ينالُوا جائزةَ: فَقَدْ رَجَعَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ.

 

أيُّها المؤمنونَ: لنتفكرْ في هذا الحجِ الذي قالَ ربُّنا عنهُ: [لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ].

 

فلو سألَ سائلٌ: عن الحكمةِ في كونِ الحجِ يخالِفُ سائرَ العباداتِ؛ فإن العباداتِ فِعلٌ واحدٌ في زمانٍ واحدٍ، أو مكانٍ واحدٍ، وأما الحجُّ فهو أفعالٌ متعددةٌ في أمكنةٍ متعددةٍ على كيفياتٍ متنوعةٍ؟

فالجوابُ اسمعُوهُ من عالمٍ جليلٍ، والعلماءُ يَفطنونَ للمقاصدِ، والأكثرونَ يَنشغلونَ بظواهرِ العباداتِ أكثرَ من مقاصدِها.

 

فقد قالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ السَّعديُّ والمتوفَّى قبلَ سبعينَ سنةً – رحمهُ اللهُ تعالَى–: (حقيقةُ الحجِ هو استزارةُ الربِ لأحبابهِ ووفودِ بيتهِ، وأنه أوفَدَهُم إلى كرامتهِ، ودعاهُم إلى فضلهِ وإحسانهِ؛ ليُسبِغَ عليهم من النعمِ والكراماتِ، وأصنافِ الهِباتِ ما لا تُدركُهُ العبارةُ، ولا يُحيطُ به الوصفُ.

 

وقد نوَّعَ لهم الأنساكَ والمشاعرَ لينوِّعَ لهم الإحسانَ، ونَقَلَهم من مائدةٍ إلى مائدةٍ من موائدِ كرمهِ.. فتارةً يطوفُ الحاجُّ على بيتِ ربهِ.. ويطوفُ بفنائهِ، ويَخضعُ لعظمتهِ. وتارةً يقِفُ بالمَشعَرِ الحلالِ، وهو عرفةُ، وتارةً بالمَشعَرِ الحرامِ، وهو مزدلفةُ، يقِفُ فيهما موقفَ السائلِ المسكينِ الذليلِ، وتارةً يرمِيْ الجمراتِ إشارةً إلى رميِ الخطايا ومُراغَمةِ العدوِ المُبينِ، طالبًا الغفرانَ من الحقِ المُبينِ.

 

وتارةً يَذبحُ قُربانَهُ؛ تقربًا إلى اللهِ بالذبحِ، الذي هو أفضلُ وأولَى ما دَخَلَ في قولهِ: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} فكما أنه لا يَستغنِي عن الصلاةِ؛ فليس له غنىً عن قرينِها، ثم شرعَ له التحللَ من محظوراتِ الإحرامِ بالحلقِ بعدَ الرميِ؛ فكانَ ذلك جاريًا مَجْرَى السلامِ من الصلاةِ، فَتَنْحَلُّ عنه المحظوراتُ التي كان ممنوعًا منها وقتَ الإحرامِ.

 

ومن أسرارِ الحجِ أن مَبناهُ على الحبِ والإخلاصِ والتوحيدِ، والثناءِ والذكرِ للحميدِ المجيدِ؛ فإنما شُرِعَتِ المناسكُ لإقامةِ ذكرِ اللِه. ولذلكَ قالَ ربُنا: {لِيَشهَدُوا مَنَافِعَ لَهُم ويَذكُرُوا اسم الله} فَذَكَرَ للحجِ مقصودَينِ عظيمَينِ: ذِكْرَ اسمِهِ، وشهودَ المنافعِ التي لا تتمُّ إلا بتعددِ المواضعِ والعباداتِ؛ فكلُّ موضعٍ منها يقومُ فيه سوقٌ كبيرٌ من أسواقِ التجارةِ.

 

أيُّها المسلمونَ: ومن الحِكَمِ والمقاصدِ أنه قد جَرَتْ عاداتُ الأممِ بقيامِ التذكارِ لعظمائِهِم؛ إحياءً لذِكراهُم، وأعظمُ الخلقِ على الإطلاقِ أنبياءُ اللهِ ورسلُهُ؛ فهمُ الرجالُ العظماءُ في الحقيقةِ، وأعظمُهم مطلقًا الخليلانِ إبراهيمُ ومحمدٌ صلى اللهُ عليهما وسلمَ. والحجُ من أولهِ إلى آخرهِ تذكِرةٌ لأحوالِ هذينِ الرسولينِ خاصةً. وقد أشارَ البارِيْ إلى ذلكَ في قولهِ: {واتَّخِذُوا مِن مَقَامِ إبراهيم مُصَلَّى} وليسَ المرادُ المقامَ الذي تحتَ الكعبةِ فقط، بل المرادُ جميعُ مقاماتهِ في الحجِ.

 

 

فالمسلمونَ إذا وصَلُوا كلَّ مشعَرٍ من هذهِ المشاعرِ جعلُوا نُصبَ أعينِهِم أنه لا تتِمُّ أمورُهُم كلُّها إلا بتمامِ الأسوةِ والقدوةِ بنبيهِم وأحوالِهِ؛ لينالُوا زيادةَ الإيمانِ بنبيِّهِم، وقوةَ المحبةِ والشوقِ إليهِ. فصلى اللهُ وسلمَ عليهِ وعلى إخوانهِ من الأنبياءِ والمرسلينَ، وعلى أتباعِهم إلى يومِ الدينِ وسلمَ تسليمًا)([2])

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ وكفَى، وصلاةً وسلاماً على النبيِ المصطفَى، أما بعدُ:

 

 

فقد فُتِحَتْ منذ زمنٍ بوابةُ وزارةِ الحجِ لاستخراجِ تصاريحِ الحجِ، فليُبادِرْ مَن استطاعَ بمالهِ وبدنهِ إلى الحجِ سبيلاً؛ لأن مَن أخَّر الحجَّ سَنةً وهو مستطيعٌ فهو آثِمٌ، فإذا أخَّره سَنةً أخرَى تَضَاعَفَ إثمُهُ، وهكذا.

 

قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ([3]).

ويُنَبَّهُ على أن بعضَ الآباءِ المستطيعِينَ مالياً قد يؤخِرونَ حجَّ أبنائِهِم وبناتِهِم! ويُقالُ لهمْ: ليسَ من شروطِ الحجِ أن يَبلُغَ الولدُ من العمرِ مقداراً يُحددُهُ الأبُ كالتخرجِ من الثانويِ مثلاً؛ بل العبرةُ بما حَددهُ الشرعُ، وهو البلوغُ. فربُّنا يقولُ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}.

 

·     فاللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ

·     اللهم اجعلْنَا منَ الذينَ إذا أعطيتَهم شَكرُوا، وإذا ابتليتَهم صَبرُوا، وإذا ذكَّرتَهم ذَكَرُوا.

·     اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَاجْعَلْنَا مِنْ الرَّاشِدِينَ. اللَّهُمَّ إِنّا نَسْأَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ.

·     اللهم يسِّرْ على الحجاجِ حَجَّهم. واجزِ مَليكَنا ووليَ عهدهِ على الخِدَماتِ الضخمةِ لتسهيلِ حَجِ بيتِك. اللهم أيدهُم تأييدًا يَصلحُ له وللمسلمينَ أمرُ الدنيا والآخرةِ؛ ليَدخلُوا في قولِك سبحانَك: [إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ المُصْلِحِينَ].

·     اللهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.

 


([1])سنن أبى داود (2120)
([2])بتصرف واختصار من مجموع الفوائد واقتناص الأوابد للشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي – رحمه الله - ( ص263 – 268 )

([3]) مسند أحمد ط الرسالة (2867)

 

المرفقات

1746075048_��تفكُّراتٌ بين يدي الحج�.docx

1746075049_��تفكُّراتٌ بين يدي الحج�.pdf

المشاهدات 339 | التعليقات 0