خطبة : ( البركة مع الأكابر )
عبدالله البصري
1447/03/11 - 2025/09/03 14:26PM
البركة مع الأكابر 13/ 3/ 1447
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم أَيُّهَا النَّاسُ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ " وَلَقَد وَصَّينَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبلِكُم وَإِيَّاكُم أَنِ اتَّقُوا اللهَ..."
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، مِمَّا يُمَيِّزُ مُجتَمَعَ المُسلِمِينَ أَنَّهُ مُجتَمَعٌ مُنَظَّمٌ مُرَتَّبٌ ، وَاضِحَةٌ عَلاقِةُ الفَردِ فِيهِ مَعَ رَبِّهِ وَمَعَ غَيرِهِ ، بَل وَمَعَ نَفسِهِ الَّتي بَينَ جَنبَيهِ ، وَبِقَدرِ مَا تَكُونُ هَذِهِ العِلاقَاتُ قَوِيَّةً مَتِينَةً ، شَدِيدَةَ العُرَى مُحكَمَةَ الفَتلِ ، مُتَّبَعًا فِيهَا أَمرُ الشَّرعِ وَمَا رَغَّبَ فِيهِ ، مُجتَنَبًا نَهيُهُ وَمَا حَذَّرَ مِنهُ ، فَإِنَّ العَبدَ تَستَقِيمُ حَيَاتُهُ وَيَنتَظِمُ أَمرُهُ ، وَيَطمَئِنُّ قَلبُهُ وَتَهدَأُ نَفسُهُ ، وَيَنشَرِحُ صَدرُهُ وَيَرتَاحُ بَالُهُ ، وَيَكُونُ لَهُ شَأنٌ وَمَنزِلَةٌ وَمَكَانَةٌ ، فَيُحِبُّهُ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ ، وَيَألَفُهُ مِنَ الخَلقِ مَن حَولَهُ ، فَيُثنَى عَلَيهِ وَيُدعَى لَهُ ، وَتَتَيَسَّرُ أُمُورُهُ وَيُوَفَّقُ وَيُسَدَّدُ ، وَيَكُونُ في غَالِبِ حَيَاتِهِ في سِترٍ وَعَافِيَةٍ .
وَالفَردُ المُسلِمُ في مُجتَمَعِهِ يَكُونُ بَينَ وَالِدَينِ وَإِخوَةٍ وَأَعمَامٍ ، وَأَقَارِبَ وَأَصهَارٍ وَأَرحَامٍ ، وَجِيرَانٍ وَأَصحَابٍ وَزُمَلاءَ ، وَزَوجَةٍ وَأَبنَاءٍ وَحَفَدَةٍ ، وَلِكُلٍّ مِن هَؤُلاءِ حَقٌّ يَجِبُ أَن يُعطَاهُ مِن غَيرِ مَنٍّ وَلا أَذًى ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنهُم وَاجِبٌ لا بُدَّ أَن يُؤَدِّيَهُ اتِّبَاعًا لِلحَقِّ لا جَريًا وَرَاءَ الهَوَى ، وَفي صَحِيحِ البُخَارِيِّ أَنَّ سَلمَانَ الفَارِسِيَّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ لأَبي الدَّردَاءِ لَمَّا زَارَهُ : إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيكَ حَقًّا ، وَلِنَفسِكَ عَلَيكَ حَقًّا ، وَلأَهلِكَ عَلَيكَ حَقًّا ، فَأَعطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ . فَأَتَى النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ ، فَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ : " صَدَقَ سَلمَانُ " وَإِنَّ مِنَ الحُقُوقِ الَّتي خَصَّ الشَّرعُ بِهَا فِئَةً مِنَ المُجتَمَعِ ، وَرَغَّبَ فِيهَا وَجَعَلَهَا في مَكَانٍ عَالٍ وَمَنزِلَةٍ رَفِيعَةٍ ، حُقُوقَ كِبَارِ السِّنِّ ، قَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ : " إِنَّ مِن إِجلالِ اللهِ إِكرامَ ذِي الشَّيبَةِ المُسلِمِ ، وَحَامِلِ القُرآنِ غَيرِ الغَالي فِيهِ وَالجَافي عَنهُ ، وَإِكرَامَ ذِي السُّلطَانِ المُقسِطِ " رَوَاهُ أَبُودَاوُدَ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ . وفي الصَّحِيحَينِ عَن عَبدِاللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَرَانِي أَتَسَوَّكُ بِسِوَاكٍ ، فَجَاءَنِي رَجُلانِ ، أَحَدُهُما أَكْبَرُ مِنَ الآخَرِ ، فَنَاوَلْتُ السِّوَاكَ الأَصْغَرَ مِنهُمَا ، فَقِيلَ لِي : كَبِّرْ ، فَدَفَعْتُهُ إِلى الأَكبَرِ مِنهُمَا " وَفَيهِمَا عَن أَبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ : "يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الكَبِيرِ ، والمارُّ عَلَى القَاعِدِ ، وَالقَلِيلُ عَلَى الكَثِيرِ " وَفِيهِمَا مِن حَدِيثِ مَالِكِ بنِ الحُوَيرِثِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ فَلْيُؤذِّنْ أَحَدُكُم ، وَلْيؤُمَّكُم أَكبَرُكُم " وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ : " إِذَا أَمَّ أَحَدُكُمُ النَّاسَ فَلْيُخَفِّفْ ، فَإِنَّ فِيهِمُ الصَّغِيرَ وَالكَبِيرَ ، وَالضَّعِيفَ وَالمَرِيضَ... " الحَديثَ ، رَوَاهُ مُسلِمٌ . وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ : " مَن لم يَرحَمْ صَغِيرَنَا وَيُجِلَّ كَبِيرَنَا فَلَيسَ مِنَّا " رَوَاهُ البُخَارِيُّ في الأَدَبِ المُفرَدِ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ .
وَإِكرَامُ الكِبَارِ لَيسَ بِصَعبٍ وَلا عَسِيرٍ ، بَل هُوَ في الوَاقِعِ سَهلٌ يَسِيرٌ ، لأَنَّ الغَالِبَ أَنَّ كَثِيرًا مِنهُم يَقنَعُونَ بِالقَلِيلِ مِنَ الجَمِيلِ ، لَكِنَّ الشَّيطَانَ هُوَ الَّذِي يَحُولُ بَينَ بَعضِ الفِتيَةِ وَالشَّبَابِ وَبَينَ هَذِهِ الطَّاعَةِ الجَلِيلَةِ ، وَيُثقِلُهَا عَلَى نُفُوسِهِم ، وَيَغُرُّهُم بِشَبَابِهِم وَقُوَّتِهِم وَفُتُوَّتِهِم ، وَيُنسِيهِم أَنَّ أُولَئِكَ الكِبَارَ الَّذِينَ قَدِ اشتَعَلَت رَؤُوسُهُم وَلِحَاهُم شَيبًا ، كَانُوا قَبلَ عِدَّةِ عُقُودٍ شَبَابًا أَقوِيَاءَ أَصِحَّاءَ ، لَكِنَّهَا سُنَّةُ اللهِ في خَلقِهِ ، يُولَدُ الإِنسَانُ ضَعِيفًا ثُمَّ يَقوَى ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَكبَرُ وَيَشِيبُ وَيَضعُفُ ، قَالَ سُبحَانَهُ : " اللهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن ضَعفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعدِ ضَعفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعدِ قُوَّةٍ ضَعفًا وَشَيبَةً يَخلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ العَلِيمُ القَدِيرُ " أَجَل أَيُّهَا الفِتيَانُ وَالشَّبَابُ ، إِنَّ مَن تَرونَهُمُ اليَومَ مِن كِبَارِ السِّنِّ مِنَ الآبَاءِ وَالأَعمَامِ وَالأَخوَالِ وَالجِيرَانِ ، كَانُوا مِثلَكُم شَبَابًا ، بَل رُبَّمَا كَانَ بَعضُهُم أَقوَى مِنكُم وَأَشَدَّ وَأَذكَى ، وَمَا ضَعُفَ مِنهُم مَعَ كِبَرِ السِّنِّ إِلاَّ أَبدَانُهُم ، وَأَمَّا عُقُولُهُم وَأَفكَارُهُم فَقَد زَكَت وَنَضِجَت ، وَأَمَّا نَظرَتُهُم لِلحَيَاةِ فَقَد اكتَمَلَت وَاتَّزَنَت ، فَلا يُزَهِّدَنَّكُم فِيهِم أَن قَصُرَت أَبصَارُهُم أَو ثَقُلَ سَمعُهُم ، فَإِنَّ لَدَيهِمُ العِلمَ وَالبَصِيرَةَ وَالحِكمَةَ ، وَالتَّجرِبَةَ وَالدِّرَايَةَ وَالخِبرَةَ ، كَلامُهُم دُرَرٌ ، وَقِصَصُهُم عِبَرٌ ، وَلَدَيهِمُ الخَبَرُ ، فَاستَفِيدُوا مِنهُم وَشَاوِرُوهُم ، وَأَنصِتُوا لِنَصَائِحِهِم وَأَطِيعُوهُم ، وَخُذُوا بِتَوجِيهِهِم وَلا تُخَالِفُوهُم ، وَابدَؤُوهُم بِالسَّلامِ وَأَفسِحُوا لَهُمُ الطَّرِيقَ ، وَلا تَمشُوا أَمَامَهُم ، وَلا تَتَقَدَّمُوا في المَجَالِسِ بِرَأيٍ بَينَ أَيدِيهِم ، وَاخفِضُوا أَصوَاتَكُم عِندَهُم وَلا تُجَادِلُوهُم .
أَجَل يَا مَعشَرَ الفِتيَانِ وَالشَّبَابِ والأَبنَاءِ ، اِحرِصُوا عَلَى إِكرَامِ كِبَارِكُم ، وَلا تُضِيعُوا فُرصَةَ وُجُودِهِم بَينَ أَيدِيكُم ، فَإِنُّهُ سيَأتِي عَلَى أَحَدِكُم يَومٌ يَلتَفِتُ فِيهِ يَمِينًا وَشِمَالاً ، فَإِذَا هَذَا مَجلِسُ أَبِيهِ ، وَتِلكَ غُرفَةُ أُمِّهِ ، وَهُنَا كَانَ عَمُّهُ ، وَثَمَّ كَانَت خَالتُهُ ، وَسَيَذكُرُ كِبَارًا كَانَ في يَومٍ مَا يَتَبَرَّمُ مِن مَطَالِبِهِم ، وَيَتَمَحَّلُ الأَعذَارَ لِئَلاَّ يَجلِسَ مَعَهُم ، قَصَّرَ في خِدمَتِهِم وَإِكرَامِهِم ، وَزَهِدَ فِيهِم وَلَم يَحرِصْ عَلَى إِدخَالِ السُّرُورِ عَلَيهِم ، ثم ذَهَبَت بِهِمُ الأَيَّامُ وَرَحَلُوا ، فَيَوَدُّ حِينَئِذٍ لَو بَذَلَ مِمَّا في يَدِهِ شَيئًا كَثِيرًا وَأَنَّهُ يَرَاهُم وَيَسعَدُ مِنهُم بِدَعوَةٍ خَالِصَةٍ ، أَو نَصِيحَةٍ صَادِقَةٍ ، أَو تَوجِيهٍ يَعرِفُ بِهِ وِجهَتَهُ ، وَحِينَذَاكَ سَيَعلَمُ إِذَا لم يُكرِمْهُ مَن هُوَ أَصغَرُ مِنهُ ، أَنَّ ما وَجَدَهُ في كِبَرِهِ ، هُوَ نَتِيجَةُ مَا بَذَرَهُ في صِغَرِهِ ، فَمَن بَرَّ بُرَّ بِهِ ، وَمَن أَكرَمَ أُكرِمَ ، وَمَن أَعطَى أَخَذَ ، وَالبِرُّ لا يَبلَى ، وَالإِثمُ لا يُنسَى ، وَالدَّيَّانُ لا يَمُوتُ ، فَلْيَكُنِ المَرءُ كَمَا شَاءَ ، فَكَمَا تَدِينُ تُدَانُ ، وَهَل جَزَاءُ الإِحسَانِ إِلاَّ الإِحسَانُ.
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤمِنُونَ ، وَقَدِّمُوا الخَيرَ تَجِدُوهُ ، وَابذُرُوا البِرَّ تَحصُدُوهُ ، وَاغرِسُوا الإِحسَانَ تَجنُوا ثَمَرَتَهُ ، وَتَأَمَّلُوا في وَصِيَّةِ اللهِ لِلأَبنَاءِ بِالوَالِدَينِ ، وَمَا وَرَدَ مِن تَذكِيرِهِ لَهُم بِكِبَرِهِمَا وَاحتِيَاجِهِمَا بِسَبَبِ ذَلِكَ لَلرَّحمَةِ ، قَالَ سُبحَانَهُ : " وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَينِ إِحسَانًا إِمَّا يَبلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَو كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أَفٍّ وَلا تَنهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَولاً كَرِيمًا . وَاخفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَاني صَغِيرًا " فَكُلَّمَا كَبِرَ الوَالِدَانِ كَانَ وَاجِبُ البِرِّ بِهِمَا أَكبَرَ ، وَكُلَّمَا ضَعُفَا كَانَ الإِحسَانُ إِلَيهِمَا أَوجَبَ ، وَالغَالِبُ أَنَّهُمَا قَد شَبِعَا مِنَ الدُّنيَا وَقَنِعَا ، فَلا يُرِيدَانِ إِلاَّ كَلِمَةً طَيِّبَةً وَقَولاً كَرِيمًا ، وَعِبَارَةً لَيِّنَةً وَدُعَاءً وَثَنَاءً ، فَانتَبِهْ لِذَلِكَ أَيُّهَا الفَتَى أَوِ الشَّابُّ ، وَإِذَا رَأَيتَ ضَعفَ وَالِدَيكِ ، فَاذكُرْ ضَعفَكَ في صَغِرِكَ ، وَإِذَا مَلَلتَ مِن خِدمَتِهِمَا لِعَجزِهِمَا ، فَاذكُرْ عَجزَكَ عَن نَفسِكَ في صِغَرِكَ ، وَكَيفَ أَنَّهُمَا حَمَلاكَ وَرَبَّيَاكَ ، وَمَنَحَاكَ وَأَعطَيَاكَ ، وَصَبَرَا عَلَيكَ وَأَحسَنَا إِلَيكَ ، فَلَو كَانَ ذَلِكَ مِن غَيرِهِمَا لَكَانَ كَافِيًا في وُجُوبِ الوَفَاءِ وَرَدِّ الجَمِيلِ ، فَكَيفَ بِمَن أَنتَ جُزءٌ مِنهُمَا ، وَبَضعَةٌ مِن أَجسَادِهِمَا ، وَقِطعَةٌ مِن قُلُوبِهِمَا ؟! فَاللهَ اللهَ يَا ذَوِي الأَلبَابِ وَأَصحَابَ العُقُولِ ، أَكرِمُوا الشُّيُوخَ وَأَجِلُّوا الكُهُولَ ، وَاغتَنِمُوا وَقتَ وَجُودِهِم فَإِنَّهُ لَن يَطُولَ ، وَاعلَمُوا أَنَّ الفُرَصَ تَمضِي وَتَزُولُ ، وَأَنَّ مَن يَفعَلِ الخَيرَ لا يُعدَمْ حُسنَ الجَزَاءِ... مَن يَفعَلِ الخَيرَ لا يُعدَمُ جَوَازِيَهُ لا يَذهَبُ العُرفُ بَينَ اللهِ وَالنَّاسِ
المرفقات
1756898758_البركة مع الأكابر.docx
1756898759_البركة مع الأكابر.pdf
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق