قصةُ الحجِّ وتنظيماتُهُ

راشد بن عبد الرحمن البداح
1446/11/16 - 2025/05/14 18:37PM
قصةُ الحجِّ وتنظيماتُهُ 
 18 ذو القعدة 1446هـ
 
الحَمْدُ للهِ الذِيْ جَعَلَ دينَنا خَيْرَ الأَدْيَانِ، وَأَنْزَلَ لَنَا خَيْرَ الكُتُبِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْنَا خَيْرَ الرُّسُلِ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ
تَسْلِيْمًا كَثِيْرًا. أَمَّا بَعْدُ:
فيا أيُّها المسلمونَ: ونحنُ نقتربُ من موسمِ الحجِ نتذكرُ أولئكَ المسافرينَ الثلاثةَ الضعفاءَ، الذينَ قطعُوا صحراءَ خاليةً خاويةً، إنه شيخٌ كبيرٌ وامرأتُهُ التي تحملُ رضيعَها، وما معهم إلا شَنَّةٌ فيها ماءٌ، إنه شيخُ الأنبياءِ وأبوهُم إبراهيمُ -عليهِ السلامُ-، ومعه الأَمَةُ الصالحةُ هاجرُ تحملُ ابنَها النبيَّ إسماعيلَ -عليهِ
السلامُ-.
ويا تُرَى أيُّ أمرٍ حَدَا بهذا الركبِ لقطعِ هذهِ القفارِ؟! إنه الاستجابةُ لأمرِ اللهِ -جلَّ وعلا- لإبراهيمَ بالتوجهِ إلى بلدٍ اسمُهُ مكةُ، وسطَ جبالٍ في جزيرةِ العربِ، ليُنزِلَ المرأةَ ورضيعَها بوادٍ غيرِ ذِي زرعٍ.
ولكنَّ آيةَ اللهِ الباهرةَ أن يُفجِّرَ اللهُ الأرضَ بماءِ زمزمَ من تحتِهم، ويُحرِّكَ قبيلةً كاملةً لتُجاوِرَهم، ويُمَكِّنَ عليهم امرأةً ضعيفةً، ليقولُوا لها: أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ؟ فتقولُ: نعمْ، ولكنْ لا حقَّ لكمْ في الماءِ. قالُوا: نَعَمْ.
وما أَعجَبَ هذا الموقفَ؛ فكيفَ أن رجالاً أشداءَ يَرَونَ الماءَ، وليسَ عليهِ إلاّ امرأةٌ ضعيفةٌ ورضيعُها! فيَخضَعونَ لها، ويَقبلُونَ بشرطِها عليهم! لِتعلمَ عجيبَ تدبيرِ اللهِ كيفَ يُتِمُّ أمرَهُ: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.
أمّا هاجرُ فما ماتتْ حتى قرّتْ عينُها برؤيةِ رضيعِها مُستتِمَّ الرجولةِ، فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ.. ثُمَّ قَالَ: يَا إِسْمَاعِيلُ، إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ. قَالَ: فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ. قَالَ: وَتُعِينُنِي؟ قَالَ: وَأُعِينُكَ. قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَاهُنَا بَيْتًا.. فَجَعَلَ إِسْمَاعِيلُ يَأْتِي بِالْحِجَارَةِ وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي، وَضَعُفَ الشَّيْخُ عَنْ نَقْلِ الْحِجَارَةِ؛ فَقَامَ عَلَى حَجَرِ الْمَقَامِ، فَجَعَلاَ يَبْنِيَانِ حَتَّى يَدُورَا حَوْلَ الْبَيْتِ وَهُمَا يَقُولاَنِ: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
فيا للهِ العَجَبُ! تأملِ انتقالَ إبراهيمَ وإسماعيلَ من الشدةِ إلى اليُسرِ؛ لِتَعرفَ كيفَ (يُرِيْ اللّهُ عِبَادَهُ جَبْرَهُ بَعْدَ الْكَسْرِ، وَلُطْفَهُ بَعْدَ الشّدّةِ، وَأَنّ عَاقِبَةَ صَبْرِ "هَاجَرَ" وَابْنِهَا عَلَى الْبُعْدِ وَالْوَحْدَةِ وَالْغُرْبَةِ، وَالتّسْلِيمِ إلَى ذَبْحِ الْوَلَدِ، آلَتْ إلَى جَعْلِ مَوَاطِئِ أَقْدَامِهِمَا مَنَاسِكَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ. وَهَذِهِ سُنّتُهُ -تَعَالَى- فِيمَنْ يُرِيدُ رَفْعَهُ مِنْ خَلْقِهِ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ بَعْدَ اسْتِضْعَافِهِ وَذُلّهِ)().
وبعدُ: فكلَّما رأيتَ هذهِ الزحوفَ المليونيةَ، تلتطمُ أمواجُها في فجاجِ مكةَ فتذكَّرْ يومَ لم يكن يَعمُرُ هذا المكانَ إلاّ أمُّنا هاجرُ ورضيعُها، ولنتساءلْ: هل يُمكنُ أن يتخيلَ خيالُها مهما بلَغَ وبالَغَ أن هذا المكانَ قد امتلأتْ فِجاجُهُ وازدحمتْ أنحاؤُهُ أنعاماً وأَناسيَّ كثيراً؟! وهل يُمكنُ أن تتخيلَ هاجرُ ذلكَ حينَ كانت تُنادِي زوجَها إبراهيمَ: أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلاَ شَيْءٌ؟!
كيفَ لو رأت ذاكَ الواديَ الذي ليسَ فيه إنسٌ ولا شيءٌ، وقد صارَ مثابةَ الناسِ، ومَقصِدَهُم من كلِ أصقاعِ الأرضِ، تَهوِيْ إليهِ الأفئدةُ طيلةَ أيامِ السنةِ، وتُجبَى إليهِ ثمراتُ كلِّ شيءٍ؟
الحمدُ للهِ الذي هدَى، والصلاةُ والسلامُ على إمامِ الهُدَى، أما بعدُ:
فمن النعمِ الظاهرةِ التي تَستدعِي شُكراً كثيراً: ما نَشهدُهُ من تنظيمٍ باهرٍ، وإعدادٍ للحجِ ظاهرٍ، واحتشادٍ لجميعِ قطاعاتِ الدولةِ حولَ مكةَ، امتثالاً لقولِ ربِنا سبحانَه: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}.
وهذه الجهودُ الضخمةُ تستدعِي منا تكاتُفًا، وتعاوُنًا مع موظفِي الوزاراتِ، يستوِي في ذلك المواطنُ والمقيمُ، ولا يَسَعُ مؤمناً قَصَدَ هذهِ البقاعَ الطاهرةَ متطلعاً إلى حجٍ مبرورٍ؛ إلا البعدَ عن كلِّ ما يُشوِّشُ على الحجاجِ حَجَّهُم، والحذرَ من إشغالِ القطاعاتِ الأمنيةِ والتنظيميةِ من أداءِ مهامِهِم.
ونداءٌ لمن يُفكرونَ بالحجِ بلا تصريحٍ، ثم يُجاوِزونَ الميقاتَ بثيابِهم: فليتقُوا اللهَ وليعظِّمُوا شعائرَ اللهِ، ولا يُعفِيهم أنهم إذا دفعُوا فديةً أنْ قد بَرِئتْ ذِمتُهم! بل يأثمونَ ولو فَدَوا، وهذا من الفسوقِ في الحجِ.
واسمعُوا إلى فتوى فضيلةِ الشيخِ ابنِ عثيمينَ -رحمهُ اللهُ تعالى- عمَّن يَحجُّ بلا تصريحٍ، ويقولُ: أَدخُلُ بلا إحرامٍ ثم أَذبَحُ فديةً؟
فأجابَ: أمَّا أن نقولَ: ادخلْ بلباسِك العادِيِّ واذبحْ فديةً؛ فهذا من اتخاذِ آياتِ اللهِ هُزواً! فَرَضَ اللهُ عليكَ إذا أحرمتَ ألا تلبسَ القميصَ ولا السراويلَ، وأنت تُبارِزُ اللهَ بهذهِ المعصيةِ، وتدَّعي أنك متقرِّبٌ إليه، لا سيَّما إذا كان الحجُّ نفلاً.. كيفَ تتحايلُ على اللهِ بهذا وأنتَ تُريدُ أن تفعلَ سُنَّةً؟!
قالَ الشيخُ: فأنا أرَى أن الأنظمةَ التي لا تُخالِفُ الشرعَ يجبُ العملُ بها.. وطاعةُ وليِّ الأمرِ فيما لم يَتضمنْ تركَ واجبٍ، أو فعلَ محرمٍ واجبةٌ؛ لأن اللهَ -تعالَى- يقولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}().
فاللهم لكَ صَلاتُنا ونُسكُنُا ومَحيانا ومَماتُنا، وإليكَ مآبُنا، ولكَ رَبَّنا تُراثُنا().
اللهم إنا عاجزونَ عن شُكرِكَ، فنُحِيلُ إلى عِلمِكَ وفضلِكَ.
اللهم وارحمْنا ووالدِينا، وهبْ لنا من أزواجِنا وذرياتِنا قرةَ أعينٍ.
اللهم وفقْ وسدِّدْ وليَ أمرِنا ووليَ عهدِه لهُداكَ. واجعلْ عمَلَهما في رضاكَ. واجزِهمْ على خدمةِ الحجيجِ والحرمينِ.
اللهم احفظْ دينَنَا وبلادَنا وأدِمْ أمنَنا، وادحرْ أعداءَنا، وأجبْ دعاءَنا. واحفظْ مرابطِينا في حدودِنا ومنافذِنا، واحفظْ حُجاجَنا ومنظمِي حُجاجِنا.
اللهم صلِ وسلمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ.
 
 
المرفقات

1747236596_‎⁨قصة الحج وتنظيماته⁩.docx

1747236597_‎⁨قصة الحج وتنظيماته⁩.pdf

المشاهدات 343 | التعليقات 0