كيف خشعوا في صلاتهم، وكيف نخشع في صلاتنا؟!
عبدالله الغامدي
الخطبة الأولى:
إنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إلَيْهِ، ونعوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فلا مضلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أن لاَ إلَهَ إلا اللَّهُ وَحَدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُه. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون﴾ أما بعد:
من أعجبِ المشاهدِ التي سَطَّرتهَا كتبِ السِّيرِ والتَراجمِ: ذلكَ الخبرُ الذي وردَ عن الصحابيِّ الجليلِ عبدِ الله بن الزبيرِ -رضي الله عنه- في آخرِ وأصعبِ لحظاتِ حياتِه، وذلك عندما حاصرهُ الحجَّاجُ بمكَّةَ، وظلَّ يقذفهُ بلا هَوادةٍ بقذائفِ المنجنيق! لكنَّ العجيبَ في الأمرِ: أنَّ ابنَ الزبيرِ -رضي الله عنه- في هذه اللحظةِ العصيبةِ التي تتساقطُ فيها قذائفُ الموتِ عن يمينهِ وشمالِه؛ وصفَ لنا حالَه حينها، مَن شهدَ معهُ هذا المشهدَ بقوله: "كان إذا قام إلى الصلاة كأنَّه عود، حتى أنَّه لمـّا رُميَ بالمنجنيق كان يصلّي فما يلتفت!".
ولم يكنْ هذا المشهدُ الذي يستولي الخشوعُ فيه على صاحبهِ؛ حتى يُوصفَ بالوتدِ أو العودِ مِن شدَّةِ سكونهِ، خاصًا بابن الزبير وحدِه، بل كانَ ذلكَ وصفًا مألوفًا لصلاةِ كثيرٍ من السَّلف؛ فهذه بنتٌ لجارِ منصورِ بنِ المعتمرِ كانتْ تراهُ من بعيدٍ؛ فتحسَبُه خشبةً؛ لطولِ قيامهِ وعدمِ حركتهِ! فتقول: "يا أبتِ أين الخشبة التي كانت في سطح منصور قائمة؟ قال: يا بُنيّه ذاك منصور يقوم الليل!".
وكانوا من شِدَّةِ خشوعِهم وحضورِهم في الصَّلاةِ لا يَتحرَّكونَ فيها ولو حدثَ لهم فيها ما حدث! ومن ذلك: ما حصلَ للإمامِ البخاريِّ -رحمه الله- لمـّا كان يُصلِّي صلاةَ تطوَّعٍ، فلمَّا انتهى من صلاتهِ قال لمن حوله: "ارفعوا ذيل قميصي فانظروا هل ترون شيئًا؟ فنظروا فإذا زنبورٌ قد لسعه في ستة عشر أو سبعة عشر موضع وهو لم يُحرِّك ساكنًا! فقيل له ما منعك أن تخرج؟ فقال: كنتُ في سورةٍ فأحببتُ أن أتمَّها!".
ومن عجيبِ أحوالِ الصَّلاةِ الخاشعةِ التي نُقلتْ إلينا في كتبِ التَّراجِمِ؛ ما وصفَ به البزَّارُ صلاةَ شيخهِ ابنِ تيميةَ؛ حينَ قال: "وكان إذا أحْرم بالصَّلاة يكاد يَخلَع القلوبَ؛ لهيبةِ إتيانه بتكبيرة الإحرام، فإذا دخل في الصلاة ترتعِد أعضاؤه حتى يميدَ يمنةً ويسرةً!".
أيُّ جلالٍ ذاكَ الذي كان يصحبُ تكبيرةَ ابنَ تيميةَ؛ حتى وصفها البزَّارُ بأنَّها تَكادُ تخلعُ القلوبَ من جلالتِها وهيبتِها!
ومن الآثارِ التي تجعلُ القلبَ ينزفُ حسرةً وألمـًا على تفريطهِ وتقصيرهِ في هذا الشأنِ: ما ذُكِرَ عن صلاة عطاءِ بنِ أبي رباحٍ بعد ما كَبُرَ، فقد وصفوا حالَهُ مع الصلاةِ بقولهم: "كان عطاءٌ بعدما كَبِر وضعُف يقوم إلى الصلاة فيقرأ مئتي آيةٍ من سورة البقرة وهو قائم، لا يزول منه شيءٌ ولا يتحرَّك!".
هذا بعدما طعنَ في السنِّ! فكيفَ كان عطاءٌ يا تُرى يُصلِّي أيَّام فتوَّته وشبابه؟!
فتيةٌ يُعرف التخشُّع فيهم *** كلهم أحكَمَ القرآنَ غلاما
قد برى جلدَهم التهجدُ حتى *** عاد جلداً مصفرًّا وعظاما
يقرءون القرآن لا ريب فيه *** ويبيتون سجداً وقياما
يبقى بعد ذلك السؤالُ الأهمّ: كيف نخشعُ في صلاتنا؟!
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ فقد أفلح المستغفرون.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقهِ وامتنانه، وأشهدُ ألا إله إلا الله تعظيمًا لشانه، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه الداعي إلى رضوانه، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون﴾ أما بعد:
كيف نخشعُ في الصَّلاة؟!
أولًا: لا بدَّ أن نعلمَ أنَّ الخشوعَ في الصَّلاةِ هو مشروعُ عُمرٍ وحياةٍ، فلا يمكن أن نصلَ إلى هذه المراحل التي وصل إليها السلف في ليلةٍ أو اثنتين، بل لا بدَّ من صبرٍ ومجاهدة في بداية الأمر حتى يصل الواحدُ منَّا إلى تذوُّقِ لذَّةِ الخشوع، والتي هي من أعظمِ اللذَّات التي يمكنُ أن يحصَّلها المرء؛ يقول ثابت البناني -رحمه الله-: "كابدتُ نفسي في قيام الليل عشرين سنة، وتلذّذتُ به عشرين سنة".
وحتى لا تكثُر عليكَ وسائل الخشوع فينسى بعضُها بعضًا؛ فهذه ثلاثةُ أمور فقط؛ إن أخذتها وتمسَّكتَ بها=فستلحظ -بإذن الله- التغيُّر في تلذُّذك في خشوعِك في صلاتِك، وتلذَّذكَ بها:
الأمر الأول: أن تعرفَ تفسيرَ الآياتِ التي تقرؤُهَا وتسمعُها، ومعاني أذكار الصلاة التي تلهجُ بها وتتلوها؛ ففهم معاني الكلام: أول طريقِ الخشوع؛ لأنَّ من لا يفقه معنى ما يقول وما يسمع كيف يتلذذ به ويخشع؟ يقول الطبريُّ -رحمه الله-: "عجبت لمن يقرأ القرآن ولا يفهم معانيه، كيف يلتذُّ به؟!".
الأمر الثاني: أن تُبكِّرَ للصلاةِ، ولو قبلَ الإقامة بدقيقتين؛ لأنَّ عقلَ الإنسان لا يمكنُ أن يخرجَ من عملٍ ويدخلَ في عملٍ آخر مباشرةً؛ لأنَّه يظلُّ مرتبطًا مدةً بالعمل السَّابق؛ كالمروحة إذا أطفأتها فإنها لا تتوقَّفُ فجأةً، بل تظلُّ تدورُ حتى تتهادى وتقف بعد مدة، وهكذا عقلُ الإنسان.
وعلاجُ ذلك: أن نُبكِّرَ للصلاةِ قبلَ الإقامةِ. ولو قدَّمنا بين يديّ ذلك بشيءٍ من الدعاء، أو الصلاة، أو قراءة القرآن؛ فذلك أدعى للطمأنينةِ وأقربُ للخشوع.
وأما السرُّ الأعظم للخشوع: فهو أن تتخيَّل أنَّك تناجي الله، فهذه هي حقيقةُ الصَّلاة؛ قال -صلى الله عليه وسلم- (إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه)
وهذا هو سببُ عدم خشوعنا فيها: أننا لا نستشعر أننا نناجي الله، بل نشعر بأننا نُسجِّل كلامًا، ونذكره لمجرّد أنَّه واجب نريدُ أن نسقطه عنَّا، ولا نتخيَّل أننا حقيقةً بين يديّ الله، وأننا نناجي الله، من التّكبير والفاتحة، وحتى السَّلام!
فهل استشعرنا يومًا أننا نخاطب الله، وأن اللهَ يردُّ علينا مع كلِّ آيةٍ نقرؤها من الفاتحة كما ورد في الحديث؟! (حمدني عبدي، أثنى عليّ عبدي، مجّدني عبدي، هذا لعبدي ولعبدي ما سأل).
هل استشعرنا ونحن نقول: "الله أكبر": أن اللهَ أكبرُ من همومنا وأشغالنا وأعمالنا؛ فنستحي أن ننشغلَ في صلاتِنا بالتفكير في شيءٍ غيرِ ربِّنا الأكبرِ سبحانه؟!
هل استشعرنا ونحن نقول: "سبحان ربي العظيم": أنَّ اللهَ أعظمُ من كلِّ شيءٍ؛ فكما لم تنحنِ أجسادنا لأحدٍ غيره؛ فلا نَحنِ قلوبُنا لأحدٍ سواه؟!
هل استشعرنا ونحن نقول: "سبحان ربّي الأعلى": أننا ننزل وجوهنا ذلًا لله، في أدنى نقطةٍ على الأرض، وننزُّه عن العيب والنقص، وهو هناك في عليائه، يسمع تسبيحنا له فوق عرشه سبحانه.
هل نحن نتذكّر ذنوبَنا وغدراتِنا وخلواتِنا؛ حينما نقول بين السجدتين: "ربِّ اغفرِ لي" فنستحي من ربِّنا، ونخشى عاقبة ذنبنا؟!
فوالله لو استشعرنا أنَّ كُلَّ لفظةٍ نقولُها في الصلاة هي لفظةٌ نناجي فيها ربَّنا، وأنَّ اللهَ يسمعُهَا منَّا؛ لصَلُحتْ صلاتُنا، ولخشعتْ جوارحُنا.
فاللهم أصلح لنا ما فسدَ من صلاتِنا، اللهم ارزقنا الطمأنينة والخشوع في صلاتِنا
الله اجعل الصلاة قُرَّة عيوننا، اللهم اجعلها ملاذنا من كلّ كرب، ومفزعنا من كلّ هم
اللهمَّ إنا نعوذ بك من قلبٍ لا يخشع، ومن عينٍ لا تدمع.
اللهمَّ وفِّقْ للحقِّ والهُدى وليَّ أمرنا وولاة أمور المسلمين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا وسائرَ بلاد المسلمين
ربّنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار
المرفقات
1745486652_خطبة الخشوع.docx
1745486653_خطبة الخشوع.pdf