«مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ..»        18 /4/ 1447هـ

د عبدالعزيز التويجري
1447/04/17 - 2025/10/09 10:43AM

الخطبة الأولى : «مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ..»        18 /4/ 1447هـ               

الحمد لله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر  إنه غفور شكور،  وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له إليه تصير الأمور ، وأشهد أن نبينا محمد عبده ورسوله صلى الله وسلم وبرك عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما مزيدا..

 أما بعد ..

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}.

في الصحيحين أن جَابِرَ بْنُ عَبْدِ اللهِ h،  كَانَ يَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ قَدْ أَعْيَا، فَأَرَادَ أَنْ يُسَيِّبَهُ، قَالَ جابرُ: فَلَحِقَنِي النَّبِيُّ r فَدَعَا لِي، وَضَرَبَهُ، فَسَارَ سَيْرًا لَمْ يَسِرْ مِثْلَهُ، قَالَ: «بِعْنِيهِ بِوُقِيَّةٍ»، قُلْتُ: لَا، ثُمَّ قَالَ: «بِعْنِيهِ»، فَبِعْتُهُ بِوُقِيَّةٍ، وَاسْتَثْنَيْتُ عَلَيْهِ حُمْلَانَهُ إِلَى أَهْلِي، فَلَمَّا بَلَغْتُ المدينة أَتَيْتُهُ بِالْجَمَلِ، فَنَقَدَنِي ثَمَنَهُ، ثُمَّ رَجَعْتُ، فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِي، فَقَالَ: «أَتُرَانِي مَاكَسْتُكَ لِآخُذَ جَمَلَكَ، خُذْ جَمَلَكَ، وَدَرَاهِمَكَ فَهُوَ لَكَ»،

      إن كان في الدنيا كريمُ واحدُ  **  يزن الجميعَ فهو النبيُ محمدِ

ما أصدقه وأروعه من سخاء وسماحة ولطافه « خُذْ جَمَلَكَ، وَدَرَاهِمَكَ فَهُوَ لَكَ»

   كريمٌ يرى الأموالَ شرَّ ذخيرةٍ   **   بعينٍ ترى المعروفَ خيرُ الذخائرِ

« خُذْ جَمَلَكَ، وَدَرَاهِمَكَ فَهُوَ لَكَ» حقٌ أن توضع على كلِ بابِ متجر، وعلى جبين كلِ من يحاسبون الناس على الفتيل والقطمير ولا يتجاوزون عن المعدم الفقير

          ومن لديه المالُ لم يكترثْ   **  بما يعاني البائسُ المعدِمُ

          كم شحَ بالمالِ حازه غيرُه **    من بعده وهو به يأثمُ

لا حرجَ ولا تثريبَ على الإنسان أن يأخذ حقَه ، وأن يربح في متجره ، وحِيَازَةَ الْمَالِ الْعَظِيمِ لَا تَضُرُّ صَاحِبَهَا إِذَا أَخَذَهَا مِنْ وَجْهٍ حَلَالٍ، وَنَمَّاهَا بِالْحَلَالِ، وَأَنْفَقَهَا فِيمَا يُرْضِي اللَّهَ "نِعْم الْمَالُ الصَّالِح لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ".

لكن العتبَ والشططَ أن يخيم الجشعُ وتحضرَ الانفسُ الشح، فيبالغُ في الأرباح، ويبخس في مكونات السلع، ويُغَشُ في الدعاياتِ بما يبهرُ العقولَ ويأخذُ بالعيون {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ }

يستوفون حقَهم كاملا بالهللةِ والدينار، ويبخسون حق الناسِ بالمُشترى..في الصحيحين قال عليه الصلاة والسلام:" لاَ تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالغَنَمَ " وما أكثرَ السلعَ المصراةِ في الأسواقِ والمتاجر، ترى السلعةَ كبيرةً في حجمها، خادعة في مظهرها، لكنها قليلة في محتواها، إن هذا هو البخسُ والغشُ والتدليسُ والخداع.{أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ}

ترهيبُ من ربِ العالمين للوقوف بين يديه ، لمن يبخس الناس أشيائهم أو يأكلَ حقوقَهم  {جزاءا وفَاقا}، {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}.

وأشدُها دنائةً وجشعاً احتكارُ السلعِ والتقتيرِ على المسلمين محافظةً على سعرها كما يزعمون، وإلا فهي في الحقيقةِ جشعُ وظلمُ وشح

     نعوذ بالله من الشحِ المطاع   **  والحرصِ والجبنِ وخِبُ وخِداع

                    والكبر والبهت ومذموم الطباع

 في صحيح مسلم قال عليه الصلاة والسلام: «لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ» والخاطئ هو الآثم، وقد أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَ إِنْسَانٍ طَعَامٌ واضطر الناس إليه ولم يجدوا غيره أجبر عَلَى بَيْعِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ النَّاسِ"

ومن أعظم أبواب الجشع والانانية والاحتكار استغلال حاجة الناس للمنازل والسكنى برفع الآجار على ذوي الدخل المحدود .. كان الله في عون شاب في مقتبل عمره يجمع ماله ويقترض ويتدين من أجل أن يتزوج ويعف نفسه ويكون أسرةً له ، وبينما هو يبحث عن مسكنٍ يأويه ، وبيتٌ يكنّه ويستر أهله ، ُيفاجأ بمن ينتظر حاجته لأن يملأ جيبه مستغلاً قلةَ المساكن وحاجة الناس لها فيرفع آجارها مع تقادم الزمن عليها ..

 حين يظهر الشحُ والجشعُ يتطبعُ المجتمعُ بالأنانيةِ وحبُ الذاتِ وعدمِ الإيثارِ وتنزع الرحمةُ في مراعاةِ الآخرين ومصالحهم، فلا ينظر المرءُ إلا إلى مصلحته، ولا يهمه إلا ما يدخل في جيبه ، فلا حاجة تراعى ولا معسر يُنظر ، ولا أرملة يخفف عليها ، الشعار "إما سداد وإما رحيل  ..

لا حرج ولا عتب أن يأخذ الإنسان حقه ، ويضارب بتجارته ، لكن العتب أن تكون التجارة تحكمها الحاجة ، فيرفع آجار المساكن ولو تقادم عليها العمر ، ويزاد في قيمتها عند قلتها.. إن هذا لهو الجشع المبين ، وفي هذا تشطيطاً على المسلمين ، وجعلِ المال والاتجار دولة بين الاغنياء  ..

       فَلا تَأمَنَنَّ الدَّهْرَ حُرًّا ظَلَمْتَهُ   **    فَمَا لَيْلُ حرّ إن ظلمت بِنَائِمِ

وحتى يكون الحل ناجعاً ، والعلاج نافعاً ، والعمل واقعاً ، لا بد أن تتظافر الجهود ويشترك في الحل والعلاج المواطن والمالك مع المؤسسات الحكومية والشركات الوطنية، في حل هذه الأزمة الاجتماعية، من تخفيض رسوم الاشتراكات، وتسهل الأمانات للمخططات المتعثرة وإيجاد حلول تسهيليه يتوسع من خلالها العمران، ويتساوى الطلب مع العرض ، فيتحقق الاخاء الاجتماعي ، وتسموا المبادرة في رؤيتها..

ومن شيم الكرماء التسهيلُ والتيسير على المسلمين.. والايثار وسخاء النفس خلقُ لا يجيده إلا كرماء النفوس ..

      من جاد جاد عليه الله واستترت  **   عيوبه وكفى بالجود سربالا

      من جاد ساد ومن شحت أنامله  **  بالبذل أمست له الأعوان خذالا

        ثنتان كلتاهما للود جالبة    ** صبر جميل وكف يبذل المالا.

ومع هذا فهو سبب للمغفرة ودخول الجنة في الصحيحين عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ r" أَنَّ رَجُلًا مَاتَ، فَدَخَلَ الْجَنَّةَ، فَقِيلَ لَهُ: مَا كُنْتَ تَعْمَلُ؟ فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ، فَكُنْتُ أُنْظِرُ الْمُعْسِرَ، وَأَتَجَوَّزُ فِي النَّقْدِ - فَغُفِرَ لَهُ " قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: وَأَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ النبيِ r.

السماحة راحة في النفس ، ونماء الرزق ، وحبُ من الخلق ورحمة من الخالق .. وفي صحيح البخاري «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى» بوب عليه البخاري فقال بَابُ السُّهُولَةِ وَالسَّمَاحَةِ فِي الشِّرَاءِ وَالبَيْعِ، وَمَنْ طَلَبَ حَقًّا فَلْيَطْلُبْهُ فِي عَفَافٍ. و«مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا نُزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ»

{فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}

 وفي المقابل تجد من ضعفت نفسه وقلة مرؤته ، لا يحافظ على ملك غيره ، ولا يراعي أثاث ما استأجره ، فترى بعضَ من يستأجر استراحةً أو بيتا أو سيارة يستبيح ما استأجره تهشيما وتحطيما وإفساداً ، تحت شعار (حلل قيمة الإيجار) وتلك وربي طباع النفوس الدنيئة وفي محكم التنزيل {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}

أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إن ربي رحيم ودود .

 

الخطبة الثانية ..

الحمدلله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وصلى الله على عبده ورسوله ، أما بعد

فاتقوا الله أيها المؤمنون واذكروا نعمة الله عليكم ، واعلموا أن الرزق ليس بكثرته وإنما ببركته ، والبركةُ من الله ، فلعمري ما حلت البركة في المال القليل إلا وسع فئاما، ولا نزعة من وفير إلا أصبح شحيحا ..قالت عَائِشَةُ رضي الله عنها: «تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ r وَمَا فِي بَيْتِي مِنْ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ، إِلَّا شَطْرُ شَعِيرٍ فِي رَفٍّ لِي، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ، فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ»

 البركة تحل بسماحة النفس ، وعدم العد والتحسيب المفرط ، كما قالت عَائِشَةُ رضي الله عنها: « فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ، فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ»

 ولا تنال البركة بالحيل  والغش والتدليس على الناس ، ورحم الله الشافعي حيث يقول:

      لَو كانَ بِالحِيَلِ الغِنى لَوَجَدتَني  **   بِنُجومِ أَقطارِ السَماءِ تَعَلُّقي

     لَكِنَّ مَن رُزِقَ الحِجا حُرِمَ الغِنى  **  ضِدّانِ مُفتَرِقانِ أَيَّ تَفَـــــرُّقِ

والقناعة غنا «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ» أخرجه مسلم

و«لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» متفق عليه.

والمال الكفاف مع السلامة، أفضل من كثرته مع الاخطار ..

اللهم ارزقنا غنا لا يطغينا وصحة لا تلهينا وفضلا منك ورحمة ..

اللهم ىمنا في دورنا واصلح ولاة اموررنا ..

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك ..

المرفقات

1759999118_«..مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ».docx

1759999119_«..مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ».pdf

المشاهدات 737 | التعليقات 0